لو كان غورباتشوف مكان بوتين

د. محمود عباس

1- على أبواب هدم الناتو:
ما يجري اليوم بين روسيا وأوكرانيا، هي نتيجة مسيرة طويلة من التناقضات الناتجة عن مفاهيم غورباتشوف، البريسترويكا، والتي تدرج على أنها خلقت الكوارث ما بين شعوب الاتحاد السوفيتي السابقة، التي تحررت من هيمنة الإمبراطورية الروسية، وأنظمتها، بغض النظر عن سلبيات وإيجابيات الاستقلال أو كما يدرج تفكك الإتحاد السوفيتي، ما بين المنظورين الحالي والمستقبلي، والمؤدي بهم من دولة جمعتهم نظرية عالمية إلى جغرافيات وأنظمة متصارعة، تتكالب للانضمام إلى حلف عسكري كان حتى عهد قريب ألد أعدائهم. 
 لا شك، مقابل انهيار حلف وارسو، وتفكك الإتحاد السوفيتي، فإن مفاهيم غورباتشوف أثرت ليس فقط على الشعوب السوفيتية وفتحت أعينهم على العالم المتطور اقتصاديا، بل غيرت مسارات سياسية-اقتصادية في الكرة الأرضية، ومثلها على الاستراتيجية العالمية، غيرت مجرى التاريخ، لا تقل عما فعلته الثورة البلشفية.
   فقد أرضخ، السياسي الذي حصل على شعبية نادرة في جميع دول العالم، الدول الكبرى لمطالبه وطموحاته، وفرض على أمريكا والناتو السلام، وأوقف التسارع النووي العالمي المرعب، ليتم تسخير الكثير من ميزانيتها في المجالات الإنسانية، وهو الذي اقنع رونالد ريغن بالتراجع عن فكرة الحرب النجومية، وأثبت له على أنها فكرة طوباوية لا يمكن تحقيقها؛ وتضر بالبشرية، وكان على وشك أن يقنعه ليلغي حلف الناتو مثلما فعلها بحلف وارسو، وبدأ في فتح بوابات التقارب العالمي، ودفع بالعالم للبدء بمرحلة جديدة أكثر إنسانية، بعيدا عن الصراع الإيديولوجي. 
 ولولا ما حدث للسوفييت، بسبب التسارع وقضايا أخرى، لما كان حلف الناتو موجودا اليوم، ولما حدث ما يجري الأن في أوكرانيا وأوروبا، ولربما كانت الإتحاد السوفيتي، أو روسيا الفيدرالية، في مقدمة الدول الأكثر تطورا في العالم، بل ولربما كان الصراع منتقلا من عالم الأسلحة إلى عالم الاقتصاد، وبالتالي لشاهدنا طفرات في تحسين معيشة الإنسان، خاصة في العالم الثالث.
  لم تكن مفاهيم البريسترويكا تروق للغرب، كانت مرفوضة لدى العالم الرأسمالي وعلى رأسها أمريكا، مثلما رفضت من الشريحة الشيوعية الكلاسيكية، لأنها كانت تضعضع الحجج المعتمدة عليها شركات الأسلحة المهيمنة على الاقتصادين الأمريكي والأوروبي، واللاعبة الدور الرئيس في انتخاب وتعيين إدارات معظم دولها ورؤسائها. 
لو كان غورباتشوف مكان بوتين، لحاور على نفس الأبعاد التي اقنع بها ريغن، بإيقاف السباق النووي، وتقليص ترساناتها، حتى عندما أضطر إلى مثال، لخلق الثقة لديه، بدأ بتفكيك أسلحة السوفييت الإستراتيجية النووية، فرسخ الثقة لديه ومعه الإدارة الأمريكية عامة، والناتو، فاضطروا لتنفيذ ما عرضه. 
 لو كان يحكم روسيا اليوم، وهي فرضية غير منطقية فالرجل تجاوز التسعين من العمر، لكن عرضها كجدلية مقارنة بين المفاهيم الإيديولوجية والأساليب السياسية، أي لو كان بوتين على منهجيته، لتمكن من إقناع الدول الاشتراكية السابقة أو السوفيتية وفي مقدمتهم أوكرانيا على أن الناتو ليست المنظمة التي ستساهم في تطوير الاقتصاد وتحسين معيشة الشعب، خاصة وأن روسيا أصبح عضو مشارك فيها عام 1997 في معاهدة باريس، بعدما رجح كحلف من أجل السلام، كما ولتمكن بوتين، على الأرجح، من حل القضايا بمنطقه الغلاسنوست، أي عمليا إقناعهم عن طريق الحوارات. 
  كان غورباتشوف بعكس بوتين، يؤمن ويعمل بمنطق تبادل الآراء، والإقناع، يستمع للجميع، من العمال العاديين إلى المستشارين الكبار في الدولة، كما وأقنع رؤساء أوروبا ورونالد ريغن الجمهوري، بمساوئ الصراع النووي، وفوائد إيقاف الحرب الباردة، والعمل على تطوير الاقتصاد العالمي، بدل الأسلحة الإستراتيجية. 
 على الأرجح، لو كان يحكم روسيا اليوم، لما تخلى عن الأساليب السلمية السياسية مع حكومة أوكرانيا، ومثلها مع الدول الأوروبية، ولما سمح لهم الوصول إلى مرحلة استخدام الحصار الاقتصادي المضر بالطرفين، ولأعدم طريق استخدام السلاح كحل للقضية، فسيرته كسياسي وعلاقاته الدولية كصاحب رؤية، أبعد من بلوغ الحلول عن طريق العنف التي خلقت اليوم المآسي لشعوب المنطقة، فهو الذي نقد منهجية ستالين ومنطق العنف الذي أستخدمه، وأعاد الاعتبار لبعض القيادات الشيوعية التي تم إعدامهم أمثال بوخارين.
   
2- سبق الغرب بفكرة الاعتماد على الاقتصاد بدل السلاح في الصراع العالمي:
  بقراءة لكتاب غورباتشوف، البريسترويكا، والاستماع لخطبه، وحواراته مع رؤساء العالم، تتبين أن جدلية الاعتماد على الاقتصاد دون السلاح، كانت من ضمن المفاهيم التي كان يطرحها، ويبني عليها قادم نظريته، وأن الإمبراطوريات المبنية على الأسلحة ستنهار، والبشرية تقف على أعتاب عصر الإمبراطوريات المقامة على الركيزة الاقتصادية وتطوير الصناعات الخدمية وتحسين القطاع الزراعي وغيرها من المجالات الإنسانية. هذا المفهوم بدأ ينتشر في الدول الغريبة في السنوات الماضية، وقد حاول ترمب أن يقلص من دور الناتو والقوى العسكرية معتمدا على التنافس الاقتصادي، وهي في الواقع من أحد مفاهيم البريسترويكا، لكن الإدارة الأمريكية الحديثة أعادت منهجية الصراع العسكري، ومن بينها مكانة الناتو، وألغت معاهدة باريس لعام 1997م، وغيرها لتعيد عصر سباق التسلح، أو الهيمنة عن طريق قوة السلاح، المستنقع الذي سقط فيه فلاديمير بوتين. 
يذكرني فلاديمير بوتين في العديد من تصرفاته وتصريحاته، وأسلوبه بالتعامل مع الغرب الرأسمالي، بجوزيف ستالين، خلال الفترة ما بين 1949-1953 سنة وفاته، وهي المرحلة التي بدأ حلف الناتو بالتكوين، إلى جانب مرحلة التطهير الداخلي للاتحاد السوفيتي، فكان خارجيا التوجه نحو الصراع النووي، وداخلياً تصفية الألاف من المثقفين والعلماء، تحت شعار، انهم مجموعات لا أصل ولا دولة ولا قومية لهم، ونشر مفهوم اللاسامية، على أثرها تم طرد عدد كبير من الباحثين والأساتذة اليهود من مناصبهم. واليوم بوتين يصف زيلينسكي وحزبه والمعارضة الأوكرانية بالنازية، وأوكرانيا بـ اللا دولة، واللا وطن، واللا قومية، ويريد إعادة الصراع العسكري العالمي، مع ضعف فاضح في الاقتصاد الداخلي. بعكسه أعترف غورباتشوف بشعوب الإتحاد السوفيتي، وبقيمهم وسيادتهم، وحرية اختيارهم لمصيرهم، وفضل الإتحاد عن طريق الاختيار والقناعة على الإكراه، وحاول تطوير السوفييت وروسيا اقتصاديا لترسيخ الشراكة، وهو ما كان على بوتين فعله، أي تطوير الاقتصاد قبل الأسلحة.
لو سادت مفاهيم غورباتشوف حول الصراعات الدولية، لما تفاقمت الأوضاع، فعندما احتدمت الخلافات بين ترمب وبوتين على أوكرانيا، وجه لهم انتقادات حادة في إبريل عام 2018م قائلا (أصبحت السياسة الدولية مسرحاً لتبادل الاتهامات والعقوبات والتهديدات العسكرية) وأضاف (أنا على قناعة بأنه ليس هناك من يريد الحرب، ولكن هذه الأحداث يمكن أن يؤدي في مثل هذا المناخ الملتهب الآن إلى صعوبات كبيرة) وقد تبين مدى صحة رؤيته وموقفه. 
 إلى جانب السلام، لو كان قد تم تطوير روسيا اقتصاديا مثلما أرادها غورباتشيوف، لما كانت لأوكرانيا تبرير بالتوجه نحو الناتو والوحدة الأوروبية، ولما تمكنت الناتو وأمريكا بالتدخلات السافرة في الدول الاشتراكية والسوفيتية السابقة، ولما شاركتهم في خرق بنود اتفاقيات أيسلندا وواشنطن وجنيف، ما بين غورباتشوف وريغن، ولما تجرأوا على محاولة تقزيم روسيا بالحصار الاقتصادي، وإلغائها من احتمالية عودتها كقطب منافس اقتصاديا. روسيا دولة عظيمة وشعب جبار، تحتاج إلى قائد حكيم.
الولايات المتحدة الأمريكية
19/3/2022م

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…