القنابل الموقوتة في دساتير سوريا المختلفة

شاهين أحمد
بداية، وتجنباً لأي التباس في هذا الجانب نقول وبمنتهى الوضوح للقارئ الكريم إن مشكلتنا لم تكن يوماً مع العروبة التي تعبر عن هوية أمة عريقة وشعب عربي جار، وصديق تعرّض هو الآخر وعبر مراحل تاريخية مختلفة لشتى صنوف القهر والظلم مثل غيره من شعوب منطقتنا، ونتفهّم العروبة كحامل للحضارة العربية التي نحترمها ونقدرها. ولكن مشكلتنا كانت ومازالت مع النهج القوموي والسياسة الشوفينية المستندة على تلك المفردة البريئة، واستغلالها لاحقاً في إقصاء بقية المكونات القومية في سوريا، وتحولها إلى ماتشبه قنبلة موقوتة زرعت في مختلف دساتير سوريا. 
كما أنه ليس لدينا مشكلة مع الإسلام كـدين سماوي لغالبية سكان سوريا ومنهم غالبية أبناء الشعب الكوردي، ولكن المشكلة تكمن في الأسلمة السياسية التي جعلت من هذا الدين مطية لمشاريع متطرفة هادفة لإقصاء بقية المكونات الدينية في سوريا وتم حشر مفردة الإسلام في الدساتير المتعاقبة، وتحولت تلك المفردة هي الأخرى إلى قنبلة موقوتة واستغلالها كــحامل لفكر متطرف، ومظلةً لمشاريع عابرة للحدود الوطنية السورية.
ونحن نحاول أن نسلط الضوء على قضية في غاية الأهمية والخطورة والجدية، وخاصة في هذه المرحلة التي يجري فيها حراك حول كتابة دستور جديد لسوريا، نتمنى على شركائنا من خلال جميع النخب التي تهمها قضية شعبنا السوري المكلوم ألا تتسرّع في إطلاق الأحكام والاتهامات جزافاً دون أن تكلف نفسها في البحث عن حقيقة مانذهب إليه في هذه المساهمة، والمقاصد التي نريد لهذه الكلمات أن تدركها، وتقدير هذه المحاولة التي تهدف أساساً لفتح نقاش وحوار جدي حول أسباب بقاء سوريا دولة غير متجانسة وغير مستقرة منذ تأسيسها وحتى اليوم، والأسباب التي جعلت منها إحدى أهم بؤر الصراع وتحوّلها اليوم إلى مكب للنفايات البشرية، وتدمير بنيتها التحتية وحواضرها، وأصبح نصف شعبها نازحاً ولاجئاً، والنصف الآخر يعاني الفقر والجوع، بالإضافة إلى أنواع الاحتلالات المقنعة والمباشرة، وعشرات الميليشيات الطائفية المشبعة بالفكر المتطرف والحاملة للمشاريع العابرة للحدود الوطنية السورية.
من جهة أخرى لا يمكن أن نتفهّم مايحصل اليوم من مآسي في الميدان السوري دون أن نعود إلى أجواء تشكُّل الدولة السورية، والمخاضات التي كانت تحصل في تلك المرحلة اقليمياً ودولياً من حروب وتقاسم مناطق النفوذ، واكتشاف أهمية المنطقة كونها تحتوي على أهم منابع الطاقة …إلخ .
من وضع القنابل الموقوتة في أول دستور لسوريا، ولماذا؟
بدون أدنى شك سيجد القارئ الكريم نفسه أمام هذا السؤال: من وضع تلك القنابل الموقوتة في أول دستور لسوريا، ولماذا؟ للإجابة على هذا السؤال لابد من العودة إلى مناخات تلك المرحلة وتشخيصها بصورة مختصرة تسمح بها هذه المساهمة. نعلم أنه أثناء الحرب العالمية الأولى، كان هناك فريقان: الأول سمي بـ قوى الوفاق (الحلفاء) والمؤلف من بريطانيا وفرنسا وصربيا والإمبراطورية الروسية وانضمت لها لاحقًا إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. والثاني سمي بـ قوى المركز (المحور) والمؤلف من ألمانيا والنمسا- المجر وانضمت لها لاحقًا الإمبراطورية العثمانية وبلغاريا. وخلال الحرب تبين رجحان كفة النصر لصالح قوى الوفاق، وبالتالي قام هؤلاء الحلفاء بالتوقيع على اتفاقية عرفت لاحقاً باتفاقية سايكس – بيكو لعام 1916 بين انكلترا وفرنسا وروسيا القيصرية وإنسحاب الأخيرة منها بعد قيام الثورة الاشتراكية في عام 1917 ، وتنفيذ تلك الاتفاقية بعد انتهاء الحرب، وكانت أراضي  الامبراطورية العثمانية من بين المساحات التي شملها التقسيم الاستعماري الحديث ورغماً عن إرادة شعوبها، وكانت سوريا ولبنان متحدين في التقسيم المذكور. والشرارة الأولى لبدء تنفيذ التقسيم في منطقتنا كانت من خلال قيام ما سُميت بـ” الثورة العربية الكبرى “بقيادة الشريف حسين، هذه الثورة في الحقيقة قام بها الإنكليز، ولكن من خلال الشعوب العربية، وكان من إحدى نتائجها تأسيس ماسميت بـ مملكة سوريا عام 1920 وتنصيب فيصل نجل الشريف حسين ملكاً عليها، حيث كتب الانكليزا أول دستور لها، ولم يستمر ذلك طويلاً حيث جاءت القوات الفرنسية لاحتلال سوريا ولبنان كونهما كانتا من حصة فرنسا حسب الاتفاق بينها وبين انكلترا. وقام الحاكم الفرنسي لسوريا آنذاك بتعطيل الدستور المذكور، ومن ثم تشكيل لجنة لإعداد دستور جديد عُرف بـ ” دستور 1928 الذي تم تعديله لاحقاً بما ينسجم مع سياسة الاحتلال الفرنسي في سوريا وسمي بدستور 1930 حيث تميز الدستور المعدل عن السابقين بإضفاء طابع ديمقراطي من خلال إعطاء صلاحيات واسعة لمجلس نواب الشعب، وضمان أوسع للحريات، والفصل بين السلطات..إلخ. وبعد انتهاء الحرب العالمية الثانية وظهور الاتحاد السوفيتي والولايات المتحدة الأمريكية كقوتين كبيرتين على الصعيد العالمي وتأسيس الأمم المتحدة بدلاً من عصبة الأمم، وتدشين مرحلة جديدة سمتها الأساسية إنهاء “مرحلة الاستعمار العسكري المباشر” وحصول غالبية المستعمرات على استقلالها من بينها سوريا التي حصلت على استقلالها في الـ 17 من نيسان 1946 . وجدير ذكره أنه من بين أكثر من 16 محاولة لكتابة دساتير خلال قرن كامل من تاريخ تأسيس الدولة السورية الحديثة، أبقت غالبية تلك المحاولات على القنبلتين المتمثلتين بـ “الإسلام والعروبة” اللتين تم وضعهما في أول دستور! ومن الضرورة بمكان الإشارة هنا إلى نقطة في غاية الأهمية وهي المتعلقة باختيار الانكليز لمفردتي العروبة والاسلام ووضعهما في الدستور الأول لسوريا، والدوافع التي كانت خلف هذا الاختيار. قد يرى البعض أنه ماحاجة الإنكليز بشكل خاص والاستعمار بصورة عامة لوضع هكذا مصطلحات في عقد اجتماعي لمستعمرة، وخاصة في تلك المرحلة التي كانت فيها شعوب المنطقة في حالة من الضعف والأمية السياسية والثقافية والفكرية، بينما كانت بريطانيا في أوج قوتها وجبروتها؟
 الإجابة على هذا السؤال الكبير والخطير تتطلب العودة إلى مناخات تلك المرحلة، والتحولات التي شهدتها الساحة الدولية ، والتحالفات التي كانت قائمة بين الدولة العثمانية وألمانيا (قوى المركز) والصراع الدموي بين قوى المركز من جهة، وبين قوى الوفاق المكون من الفرنسيين والإنكليز وغيرهم من جهةٍ أخرى.
 والعروبة التي تمثل هوية شعب كبير ومنتشر على مساحات جيو – سياسية كبيرة، وخاصة أن تلك المرحلة تميزت بموجات صعود الشعور القومي، وبالتالي مدى مساهمة هذه المفردة في عملية الاستقطاب المطلوبة لمحاربة نفوذ قوى المركز بشكل عام والدولة العثمانية بصورة خاصة، ولا ننسى هنا ظهور بعض الشخصيات في إطار الدولة العثمانية في نهاية حقبتها من أنصار جمعية الاتحاد والترقي التي كانت تحاول أن تطبع مكونات مختلفة في إطارها بصبغة تركية، وما نتج عنها من ردة فعل من جانب الشعوب غير التركية تجاه هذه النزعة، واستغلال بريطانيا لهذه العوامل واستقطاب الشرائح الشعبية العربية لمحاربة نفوذ الدولة العثمانية. وكذلك فإن حشر موضوع الأسلمة في الدستور ترافقت أيضاً مع جهود بريطانيا لتأطير الطاقات في هذا المجال، ودفعها نحو تأسيس تنظيم سياسي – ديني كما حصل في تلك المرحلة في مصر بقيادة حسن البنا، وكل تلك المحاولات كانت لقطع الطريق على كل من يحاول أن يعتبر أن الثورة العربية ضد الإسلام أو الخلافة الإسلامية. 
ونستطيع القول إن الإنكليز ومن ثم الفرنسيين نجحوا إلى حدٍ بعيد في أهدافهم المتعلقة بوضع هاتين المفردتين في متن الدستور الأول المذكور، ومن ثم استمرارية ذلك في الدساتير اللاحقة وخاصة بعد ظهور عبد الناصر ومشروعه القومي العروبي المعروف، وكذلك ظهور حزب البعث ومشروعه الشوفيني الهدام اللذين حوّلا المنطقة برمتها إلى برميل بارود مليء بالصراعات الدموية نتيجة إقصاء مكونات المنطقة من غير العرب.
خلاصة القول:
بعد عقد كامل من الأزمة السورية، وخلال قرنٍ كامل من عمر الدولة السورية الحديثة، وبعد أكثر من ست عشرة محاولة لصياغة دساتير لسوريا منذ تأسيسها، وكتابة نحو عشرة دساتير لها، غالبيتها كانت منسوخة ومعدلة ومكررة، ومنها ماكانت جديدة ومفصلة حسب مصالح وإرادة اللاعبين المتحكمين بشؤون المنطقة، ولم يكن للسوريين الأصلاء فيها أي رأي أو تأثير، حاول هؤلاء الذين فرضوا دساتير على بلدنا القفز فوق الواقع، ومحاولة حشر سوريا في زاوية ضيقة، وإلباسها لوناً قومياً يتيماً ودينياً وحيداً لإضعافها وتجريدها من قوتها وألوانها الجميلة والأصيلة، وإلغاء تاريخها وخصوصياتها ومكوناتها وأصالتها! وبما أننا أمام مشهد قد يكرر فيه التاريخ نفسه، حيث هناك محاولات تجري في جنيف بإشراف دولي لإيجاد ثغرة أو إنجاز اختراق في جدار الأزمة المستعصية لبلدنا، وكتابة مسودة دستور سوري جديد في أجواء ملبدة وسوداوية، ومازالت الحرب مستمرة، ومازالت سوريا مقسمة فعلياً إلى ثلاث مناطق نفوذ رئيسية، لكل منطقة قوانينها وجيوشها وحكوماتها وعلاقاتها، ومازالت سوريا تعاني من احتلالات مقنعة ومباشرة، ويوجد على أرضها جيوش أكثر من خمس دول، ومازال الموت جزءاً أساسياً من حياة السوريين، ومازالت الآفاق مسدودة، ومازال الحل الشامل بعيداً، ومازال السوريون مغيبين تماماً عن كل مايخص بلدهم ومستقبلهم، ومازال السوري يشكل المادة الأساسية في نيران مصالح اللاعبين، ويُستثمر في أجندات ومشاريع لا مصلحة له ولا لبلده فيها وكل مايجري باسمه وباسم بلده من ملتقيات ومؤتمرات! وسط هذه المحرقة، وكنوع من دوام الأزمة وإدارتها، وبعد أن فشلت حتى اليوم كل المساعي والجهود الرامية لوقف الموت، ترك المجتمع الدولي كل القرارات الأممية الخاصة بسوريا وخاصة القرار 2254 ومرجعية جنيف 1 للحل، ومن ثم السلال الأربع، وبات يركز على سلة واحدة لم تكن الأولى في سلم الترتيب والأولويات وهي سلة الدستور، محاولين تجميع الحروف المخضبة بالدم السوري في صياغات تعكس مصالح هؤلاء اللاعبين. وبالرغم من أهمية الدستور الذي يشكل الأساس لكل القوانين الناظمة للعلاقة بين الشعب والسلطات وكذلك بين السلطات المختلفة من جهة ، وتوضح هوية الدولة وشكلها ونظام الحكم فيها من جهة أخرى. إلا أن العمل على هكذا مشروع مهم يحتاج قبل كل شيء لمناخ مناسب من سلام وأمن وأمان وإرادة مجتمعية، وثقافة قبول الآخر المختلف، وكذلك التوافق بين المعنيين في إطار الدولة، وخاصة في دولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب كسوريا، وسط كل هذه الفوضى والأحقاد والكراهية التي مازالت تزداد مناسيبها بشكل مخيف. 
ختاماً: هل التوقيت والمناخات الحالية مناسبة لكتابة دستور مختلف لسوريا؟ وماهي السبل الكفيلة بتحرير سوريا من تلك القنابل التي كبلتها طوال قرنٍ كامل؟ 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…