أمينة بيجو
أعدّ الكرديّ حقيبتَه الصّغيرة، وعينُه على ثغراتٍ حدودية استعداداً للهروب إلى مصيره المجهول. هذا الوضع عاشه ويعيشه الكرديّ منذ إنْ تمدّد تنظيم داعش وبدأ يكتسح مساحات واسعة من سوريا، وأخذ يقضم قرىً ومدناً كثيرة.
ومع الزّمن تتّسع مساحة السّواد الكردي، حاول داعش ابتلاع كوباني، وجعلها قاعدةً عسكرية للهجوم على ضفتي الفرات، وبتشديد قبضته الهمجية باتت المنطقة الكردية مهددة بتفريغها، وازدادَت وتيرةُ الهجرة الكُردية بعد تأسيس الإدارة الذاتية من قبل (ب ي د) وفرضِها التجنيد العسكري ونظاماً تعليمياً مؤدلجاً، وتفاقمت الأوضاع بالغزو التركي على عفرين.
بعد تشديد الضّغط السياسي والعسكري من الداخل والخارج على النظام في دمشق استنجد بحماته في إيران الذين خططوا بهدوء لتفتيت قوى الثورة السورية، وتأليبها على بعض، وإدخال عدة قوى تابعة له كحزب الله اللبناني، والقوة العسكرية لـ(PKK) وميليشيات أفغانية، تسارعَ النظّام السوري إلى عقدِ اتفاقيات وتفاهمات مع قيادة (PKK) التي وقفت مع النّظام وضربت بيدٍ من حديد الحراك الثوري الكردي وأخرجت القوى السياسية الكردية من الشّارع الكردي، وحشرها في زاويةٍ ضيّقة، سخّرت الطاقات الشبابية لبرنامجها العسكري وتوجيه الأنظار من الهدف الأساسي (تغيير النظام السوري- والحقوق القومية) إلى الأهداف التي تخدم الاتفاقيات المبرمة.
يُعرَف عن (PKK) أنّه تنظيمٌ براغماتي يراوغُ ويُغيّر مواقفه مع اتجاه الرّيح، فأرسى مراكبه إلى جانب الولايات المتحدة التي تقود تحالفاً دولياً لمحاربة داعش، مستفيداً من قوة الشباب الكردي كقوة عسكرية برية، ما دفع النّظام إلى اعتباره خونة لتلقيهم الدعم العسكري من الولايات المتحدة، فلم يمنح النظام السّوري أية فرصة لأي مفاوضات معه، كنوعٍ من العقاب على شرائكه في حراسة عرشه.
وبعد إلحاح الولايات المتحدة على ضرورة إجراء حواراتٍ كردية – كردية لبناء شراكة سياسية وعسكرية في إدارة المنطقة، وإشراك المكونات الأخرى في إدارة السلطة، لجأ (ب ي د) الفرع السّوري للحزب العمال التركي إلى المراوغة كما فعلها مع الاتفاقيتين السابقتين هولير ودهوك، والقيام بأعمال معرقلة كحرق المكاتب الحزبية، ويُفهَم من هذه المواقف بأنّه يتنصّل من الاستحقاقات المرحلية لطبيعة المرحلة. أرادت الولايات المتحدة التسرّع لبناء إدارة محلية تمهيداً لانسحابها كجزء من استراتيجيتها الجديدة الانسحاب من الشرق الأوسط والانشغال لمواجهة التنين الصّيني. لكن لم تكن هناك إرادة سياسية قوية لاستكمال الحوارات التي شارفت على الجفاف، فإذا كان للمجلس تخوّف من الانخراط في الإدارة من دون ضمان أميركية فإن الإدارة الذاتية هدفها استكمال سيطرتها السياسية كما فعلها عسكرياً والاستناد عليها لإعادة المنطقة إلى سيطرة النظام تحت أي شعارٍ كان.
وما التصريحات الأخيرة لبعض قيادييّ (PKK) إلا مؤشّراً يؤكّد على هذا المنحى، والمجلس الوطني الكردي المترهّل لم يعُد يملك أوراقاً قوية لإحداث مفاجآت سياسية، ناهيك عن فقدانه للقوة الجماهيرية التي سلخ منها ب ي د القوة الشبابية، كما هاجرتها كوادر سياسية محنكة لعدم قدرته على تنظيم نفسه ومسايرة التغييرات المتسارعة، ولم يكن أمام بعض المثقفين والسياسين سوى اللجوء إلى أوربا بدل من أنْ تطحنها ماكينات الفقر والإذلال المُنتَجة محلياً وإقليمياً.
والآن تبدو أنّ تركيا بدأت تدخل على خطّ المواجهة، بحجة أنّ هناك قوى إرهابية تهدّد الأمن القومي لتركيا، وبالحجة نفسها قضمت كلّاً من عفرين سري كانيه وكري سبي. الآن تتجّه قواعد اللعبة الإقليمية والدولية إلى تعويم النظام وإعادة تدويره، ما يزيد من شهوة تركيا لتحطيم الوجود الكردي وإلحاق الشمال وشمال شرقي سوريا بالدولة التركية في صفقة مخفية بينها وبين بعض الدول الكبرى.
الحقيبة الكردية جاهزة للهجرة والنزوح، وعبور عراء الحدود، والتّشتّت بين خرائط الغرب البعيدة، وخريطتُها الجغرافية على وشكّ أنْ تُبتلَع وتُقسَّم من جديد، وتاريخٌ أكثرُ قلقاً من رجلٍ في معركة مفاجئة سيدوّنه البغاة، إنّها المأساة الكردية المستمرة منذ عصور.