إبراهيم محمود
هو من أخبرني شخصياً، وفي صوته أكثر من نبرة حزن، دون حزن كهذا لن يكون كردياً، أن والده قد ترجَّل عن فرس حياته الرهوان، ماضياً إلى الجهة الأخرى من الحياة، أخبرني الصديق الشاعر عزيز غمجفين من بيداء غربة رغم خضرة أرضها، أن والده قد ودَّع الحياة كسواه. كان هناك صورة مرفقة بالعلم الكردي تعريفاً مباشراً به موقعاً وعلاقة قربى وجدانية.
أخبرني عن ذلك على وقع منتصف نهار الاثنين ” 11-10/ 2021 “.
لم أسأله كيف أخْبِر هو برحيل والده الثقيل إيلاماً، لا بد أنها عصية على الترجمة بإيلامها!
وهنا، في اللحظة هذه، رأيت، بمعونة الخيال، في تردد صوت غمجفين أفواجاً من الراحلين وملؤهم انجراحات، وعيون أحبتهم المتفرقين، في خانة شتاتية هنا وهناك، تبكي مضاعفاً: تبكيهم، لأنهم يستحقون بكاء مراً خاصاً جداً، وتبكي وجودها المتزايد تصدعاً بعلامته الإنسانية والكردية معاً.
عزّيت الصديق الشاعر غمجفين، واسيته في الحال، كما هو مقتضى أواصر القربى الإنسانية، الكردية، الروحية، الثقافية…تلك المعهودة بالتأكيد، وأمام ناظري تخرج صورة والده الراحل، وهو مرئي بجلاء بالعلم الساطع لوناً، كما لو أنه لم يرحل، كما لو أنه يبث حماساً، كما لو أنه يقول: خذوها قاعدة يا أهل الحرف، وأنتم على حرْف: يموت الآخرون، وما أكثرهم، وفي موت كل منهم، ثمة حياة، وحدكم، أو في وسع أحدكم حصراً، وهو ممتلىء حياة، أن يترجم الجاري حياة من نوع آخر. ابكوا في صمت، وأطلقوا العنان لأسارير وجوهكم، ترحيباً بالحياة ما بقيت .
لا أدري ما إذا كنتُ قد ترجمت المتخيل بدقة، أو كما ينبغي المرجوّ، سوى أن الذي تقاسمني من حزن من نوع خاص، وحيرة من نوع خاص، ووجع روحي من نوع خاص، وجرعة قهر بالمقابل، من نوع خاص، هو أنني لم أستطيع إخفاء ما أنا فيه كغيري، ممن يدمنون القراءة والكتابة، شاهد إثبات على مدى الاستغراق بآلام الحياة وآمالها، وللكردي فيها سهم أكبر.
نعم، رحل والد الصديق الشاعر عزيز غمجفين، كما رحل آخرون، وما أطولها وأثقلها وأمرَّها وأحرَقها سلسلة ” آخرون ” وهي تمتد كشبكة أنَّى كنّا،وفي كل رحيل بصمة موت مختلفة، وإشعار حياة مختلف، جهة الرصيد الاعتباري والمعطى الإنساني والكفاحي بالمقابل. وذاكرة الكردي الأكثر عراقة من تاريخه طبعاً، والأكثر تداولاً بمراتبها ومناخاتها الموجعة من تاريخه طبعاً، ذاكرته بليغة بهذه المعطيات جهة من يموت، وما إذا كان الذي يموت، أم أنه مات قبل أن يموت، أو أنه كان يعيش نصف ميت أو أقل أو أكثر، أو أنه مات دون أن يموت، كما هو الرصيد القيمي، البطولي، الكرَمي الروحي المجتمعي، بوصفه أكبر من اسمه الشخصي، أكبر من ظله المرئي حسياً، كما يشهل سجله الحياته. وكلّي يقين في الحالة هذه، أن ليس من كاتب كاتب ، كردياً أو خلافه، فناناً فناناً أوخلافه، إنسانياً إنسانياًأو خلافه، إلا وفي فضاء بصيرته مثل هذه الاعتبارات، ويكون الحديث فيما تقدم، ويتقدم باستمرار، معزّز هذه الدمغة القولية .
رحل والد الصديق الشاعر عزيز غمجفين، وهناك ما تخلَّف عنه، ما هو متوقع أن يأخذ مساره الآخر في حياة أخرى، عبر ألسنة له طي ” ذاكرته ” صورة طبق الأصل عما عاش وكيف.
وحين أشير إليه بوالد الصديق الشاعر عزيز غمجفين، دون أن آتي على ذكر اسمه، فلي في ذلك مقصد مفكَّر فيه بالتأكيد، ليس لأنه سيعرَف بابنه، وهذا جائز، جهة النسبة أكثر، وإنما لأنني أجزت لنفسي ذلك تحفيزاً لفضول من يهمه وضع كهذا، والد كهذا، وهو يقرأ هذا الاسم / اللقب: عزيز غمجفين، ماضياً بالاستفسار إليه، اتصالاً، أو إلى حيث كان مقامه في ” الحسكة ” حيث كان ينصهر بتلك الكردية التي منحته حضوراً كردياً، كما هو المشتهى.
أقولها، وأنا أمعن النظر في المسافات التي باعدت بين أفراد العائلة الواحدة، الأحبة، حيث يواجه كل منهم مصيراً يتوقف عليه لوناً وطعماً وشكلاً، ومعايشة غربة تتلبسه بأكثر من معنى. وهنا يكون الرحيل الأخير مفجعاً مروّعاً، حيث يمضي الراحل بموته في مشهد يضغط على الروح أكثر، وتستحيل المسافة أكثر من سهم ناري لا ينفك ينغرز في أصل كل مسام جسدي .
يصبح الجسد في وضعية أخرى، مع موت خاص كهذا، وكل عزاء عن بعد، كل مؤاساة عن بعد، وكل مصافحة عن بعد..ويكون البعد القيّم على المشهد المأساوي .
كل حياة وأنت أمضى يا الصديق الشاعر عزيز غمجفين، أنت وأهلك وأحبتك، كل موت وأنت أكثر مضاء عزيمة وأهلية للارتقاء بالروح أكثر، دونها لم تكن عزيز غمجفين .