جان كورد
منذ القضاء على ثورة آغري (1927-1930) وإضعاف حركة خويبون التي خططت للثورة التي قادها الجنرال إحسان نوري باشا، تغيّرت استراتيجية حركة التحرر الوطني الكوردستانية في جميع أنحاء كوردستان المقسّمة بين عدة دول، نتيجةً للمعاهدة المشؤومة (سايكس – بيكو) الاستعمارية التي عقدت بين بريطانيا وفرنسا في عام 1916م. ولم تظهر أي حركة كوردية تطالب بالاستقلال بسبب الاضطهاد العنيف وضعف الإمكانات المادية وإصابة القيادات الكوردية باليأس من حالة التفكك والتآكل التي عليها المجتمع الكوردي إجمالاً ولاستمرار المجتمع الدولي في دعم الأنظمة المستبدة برقاب الشعب الكوردي، وعلى وجه الخصوص نظام إيران الشاهاني ونظام الكماليين الطورانيين العنصري، مع التنكّر التام لحق الكورد في تقرير مصيرهم بأنفسهم كسائر الشعوب التي نالت حريتها واستقلالها، وهو حقٌ دولي لا استثناء فيه لأي قوم ٍ أو وطن. ولعبت المصالح الاستعمارية لفرنسا في سوريا ولبريطانيا في العراق دوراً قذراً في استمرار استعباد أمة الكورد التي لا تفصل بينها سوى الحدود المصطنعة.
وبذلك كان لا بد للناشطين القوميين من الكورد أن يتحولوا من استراتيجية التحرير والاستقلال إلى استراتيجية العمل ضمن حدود الممكن والواقع، أي الاعتراف بالحدود التي فرضها عليهم المستعمرون، والعمل ضمن حدود الممكن كان يعني التخلي عن فكرة الاستقلال الوطني وسيادة الشعب الكوردي على وطن آبائه وأجداده. وظهر لدى القيادات السياسية لهذا الشعب تصوّر عن إمكانية الاستفادة من قوى عدوٍ لهم ضد عدوٍ آخر، واللجوء إليه في حال عدم التمكّن من الاستمرار في الكفاح المسلّح وعند الحاجة القصوى، وهذا يعني العمل مع عدو ضد عدو آخر واعتباره تكتيكاً سليماً، على الرغم من معرفتهم التامة بأنّ مقتسمي أرض كوردستان فيما بينهم أو حصولهم على أجزاء من الكعكة الكوردية بمساعدة المستعمرين يتعاونون سراً وعلانيةً على ألاّ يحصل شعبنا على أي مكسبٍ قومي له، حتى أنهم ضد “إدارة ذاتية” لهذا الشعب معاً، وهي أدنى أشكال التمتّع بالحقوق الثقافية والاقتصادية بالنسبة إلى الاستقلال والسيادة الوطنية، بل ربما يختلف أعداء الكورد على كل شيء سوى بصدد مواجهة مشتركة وعمل تشاركي ضد حركة التحرر الوطني الكوردستانية إجمالاً. وواقع اليوم في غرب كوردستان يؤكّد ذلك، إذ رغم كل الهجمات العسكرية والمؤامرات اليومية والتهديدات الفظّة التي تمارسها الحكومة التركية ضد نظام الأسد في دمشق، ورغم العداء الذي يظهره نظام الأسد للرئيس التركي ونظامه السياسي، فإن كلا الطرفين يعاديان بصفاقة حصول الكورد في سوريا على أي حقّ قومي، فذلك في نظر الحكومتين “خطر على الأمن القومي!” للعرب وللأتراك كما يزعمون، فلا قبول لإدارة ذاتية ولا لفيدرالية ولا لإنفصال، على الرغم من أن أي حزبٍ كوردي في سوريا لم ولا يطالب بالإنفصال عن سوريا، ومن يزعم غير ذلك يخدم أعداء الكورد وكوردستان. وإنّ أوّل حزب كوردي طالب بالإدارة الذاتية كان الحزب الاشتراكي الكوردي في سوريا، من قبل أن يتأسس، بأكثر من عقدٍ من الزمن، حزب الاتحاد الديموقراطي المتهم بالانفصالية بسبب ولائه لحزب السيد أوجالان، إذ كان شعار الحزب الاشتراكي (الاشتراكية للبلاد والإدارة الذاتية للشعب الكوردي في سوريا)، بينما طالبت جميع الأحزاب الكوردية – السورية الأخرى ولا زالت تطالب بحلّ ديموقراطي سلمي للقضية الكوردية في إطار الوطن السوري المشترك، ومن الأفضل أن يكون حلاً فيدراليا.
ويجدر بالذكر هنا أن حزب السيد أوجالان يرفض كونه حزباً كوردياً ويعلن رفضه لإقامة دولة كوردية كما أنه سيقف ضد أي محاولة لمشروع دولة كوردية، بتصريحاتٍ إعلامية رسمية ومتكررة من قيادة جبل قنديل لا يمكن لأحد إنكارها، ولم يطالب هذا الحزب في “المانيفستو” التأسيسي بالكفاح من أجل كوردستان حرة ومستقلة.
استمر الكورد في انتهاج استراتيجية العمل ضمن حدود الواقع والمعقول والممكن إلى سنواتٍ قلائل قبل الآن، ولكن تعاظم الوعي القومي لدى الشعب الكوردي نتيجة المذابح المتتالية وسياسات هدم وحرق وتدمير كوردستان، ومواجهة النضال الكوردي السلمي بأسنة الحراب وبقصف الطائرات واستخدام السلاح الكيميائي ضده وبالاعتقالات والتعذيب والاغتيالات، فإن الكورد باتوا واثقين من أن كل ما يحدث في وطنهم له سببٌ واحد ألا وهو عدم وجود “دولة” لهم، فلو كانوا يملكون دولتهم لتغيّرت حالهم إلى أفضل بكثير، وما كان بإمكان أحد، مهما كان قوياً، أن يضطهدهم بهذا الشكل المريع ويسلبهم بترولهم ومياههم وخيرات أرضهم ويزج أبناءهم وبناتهم في صراعاتٍ لا ناقة للكورد فيها ولا جمل. فالدولة ستمنحهم القوة الكافية بحكم الحجم الكبير لمختلف القدرات الوطنية، ماديةً كانت أم بشرية، وعلى مساحةٍ واسعةٍ حقاً من الأرض، وقد تصبح كوردستان الحرة المستقلة سبباً من أسباب الاستقرار والأمن في المنطقة لا سبباً للحروب والمشاكل، بدليل أن الكورد منذ القضاء على نظام البعث الصدامي في العراق في عام 2003 قد تحولوا إلى بناةٍ لدولة العراق، بعد أن كانوا يحاربونها بالسلاح عقوداً من الزمن، وهذا ما يمكن أن يحدث في سوريا، إن بقي في رؤوس حكامها ذرة من عقل، وطرحوا مشروعاً لإدارة ذاتية أو فيدرالية كوردية ضمن حدود الدولة السورية، طالما الكورد يعملون من أجلها بمختلف أحزابهم وتنظيماتهم.
ومنذ “استفتاء الاستقلال” قبل سنوات، الذي أعلن عن البدء به رئيس اقليم جنوب كوردستان آنذاك، السيد مسعود بارزاني الشجاع، وحصل بموجبه على تأييد أكثر من 92% من أصوات الناخبين الكورد في الاقليم، مع تأييد معنوي ظاهر وساحق لجميع الكورد في العالم، يبدأ المراقبون السياسيون بالتساؤل عما إذا شرع الكورد بالعودة إلى استراتيجية الحرية والاستقلال التي كانت عليها حركة خويبون، وهم الآن يملكون القوة البشرية الهائلة والوعي القومي الناضج ولهم إعلامٌ ناشط وسلاحٌ متنوّع وحديث وعلاقات دولية واقليمية على مستوى واسع وعميق، وصاروا يبنون ناطحات السحاب والأوتوسترادات الحديثة ويستخدمون الهيليوكوبترات ويفتحون الجامعات ويبنون المدن الجميلة، بعد أن كانوا يقاتلون لعقودٍ من الزمن ببندقية البورنو وكانت لهم محطة راديو واحدة يتم التشويش عليها من قبل الأعداء، وما كان أحدٌ في العالم الفسيح يهتم بمآسيهم ومذابحهم وتقتيلهم واغتيال قادتهم.
نعم، الكورد بحاجة إلى نقاش جاد حول مصيرهم كأمة كبيرة ولهم وطنٌ أكبر من عدة دول مستقلة مجتمعة وامكانات لا تعد ولا تحصى، والكف عن ترديد مزاعم أنهم أضعف من أن يتفقوا على استراتيجية قومية واضحة المعالم يتم التخطيط لها من قبل خبراء في شتى المجالات السياسية والدبلوماسية والعسكرية والاقتصادية والاعلامية…
لقد تغيّر العالم منذ انهيار المعسكر الشيوعي ودخول العالم في دنيا التواصل الشامل والتفاعل اليومي وتحوّلت الكرة الأرضية بأسرها إلى قرية انترنتية متشابكة وتعاظم منظمات حقوق البشر والحيوان والبيئة، فهل يتغيّر التفكير السياسي الكوردي من خلال تفاعلٌ شامل فيما بين حراكه السياسي – الفكري بعد الآن؟
الموضوع يحتاج إلى البدء بالنقاش حقاً…
9/8/2021