عنايت ديكو
في رسالةٍ رسمية وجهتها جبهة الانقاذ الوطني السورية المعارضة الى وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو، ركزت فيها على بناء الاستراتيجيات والعلاقات والشراكات المستقبلية بين البلدين، عبر القواسم والمصالح المشتركة بين الامتين السورية والتركية بحسب البيان، وأَولىٰ البيان أهمية بالغة وكبيرة على المخاوف والهواجس والأمن الاقليمي المشترك قائلاً: بأن أمن تركيا هو من أمن سوريا.
ودعى البيان أيضاً الى ايجاد اعلى درجات التفاهم والتنسيق لمواجهة المخططات والتحديات والمخاطر سوياً، والعمل معاً على محاربة ارهاب الـ PKK ” بحسب وصف البيان، وإيجاد القواسم والشراكات الاستراتيجية بين البلدين وانشاء مجلس أمنٍ اقليمي مشترك دون الخوض في ماهية ووجود الموانع والعوائق الكبيرة التي تقف وستقف كسدٍ منيع أمام هذه الطروحات والمحاولات.
لقد جرّب بشار الأسد حظّه في هذا المضمار من قبل، وزار منتجعات بودروم الشهيرة في تركيا، ونادى بالأخ الكبير في وصفه للرئيس التركي أردوغان، واعلنا معاً عن الكثير من التفاهمات والاتفاقات والشراكات الاستراتيجية والامنية والسياسية بين البلدين الى جانب الهواجس الحدودية المشتركة دون تعريفها .!
– قبل كل شيء ولكي لا نعيد تكرار المآسي وقرن زمني آخر في المعارك والتناطح والقتل والذبح الشامل في مسائل الحدود والوجود والاقصاء والتهجير والكيماوي، ومن منطلق ضرورة بناء وعي سياسي سليم وشامل ومسؤول وعلى طرفي الحدود في سوريا وتركيا، وقبل الشروع في بناء اي شكل من أشكال التحالفات او المعاهدات أو الاتفاقات السرّية أو العلنية بين البلدين، أريد فقط أن أضيف عبارة واحدة على الرسالة التي وجهتها ” جبهة الانقاذ الوطني ” المعارضة في سوريا الى وزير خارجية تركيا مولود جاويش أوغلو ، ألا وهي عبارة ضرورة حلّ ” القضية الكوردية ” ضمن هذه الاستراتيجيات المطروحة في البيان، وفق المواثيق الدولية وشرعة الامم المتحدة وحقوق الانسان، وايجاد منفذٍ تاريخي لحل هذه القضية الشائكة، التي تتشعّب وتتمدد على طرفي الحدود منذ انشاء الدولة السورية والدولة التركية والى اليوم، والتي استهلكت من الأرواح والموارد والخيرات وخزينة هذه الدول ما يكفي لاكتشاف الفضاء والمجرات.!
فحل القضية الكوردية في كلٍ من سوريا وتركيا سيكون بمثابة ايجاد القاعدة والركيزة الاساسية في بناء أكثر التوافقات و التفاهمات والمصالح والعمل المشترك بين الدولتين.!
هنا أستطيع أن أجزم في الموضوع، بأن أسّ المشكلة وبنية وهوية الصراع وعلى طرفي الحدود، هي القضية الكوردية وبامتياز، فبدون وجود حلول جريئة وموضوعية لها بين هذه الدول … لن يكون هناك اي استقرار أو انفراج أو تنمية أو تطور لهذه المجتمعات أو سلام دائم وشامل كما ينص البيان. وهذا الكلام لم أَخرجَه من جعبتي، بل التاريخ يقول لنا بأن القضية الكوردية تحتل الضلع الأكبر في مثل برمودا في الشرق الأوسط مع قضية المياه والقضية الفلسطينية، وان عدم البحث عن الحلول المُشرّفة والموضوعية لها، سيضع الشرق الأوسط برمته على كفّ عفريت.
فالقضية الكوردية هي حقيقة سياسية وتاريخية وجغرافية في منطقة الشرق الاوسط، قضية عابرة للحدود والموانع والسدود، هذه القضية التي نراها وبفعل جيوسياسيتها تُلقي بظلالها دوما على كل العلاقات التركية والسورية والعراقية والايرانية. فمن الاجدر والمنطق والعقل، أن يبحث عقلاء القوم عند العرب والفرس والاتراك قبل الكورد الى ايجاد حلول موضوعية لهذه القضية ترضي كل الاطراف، بما فيها الأطراف الكوردستانية، والبحث في القضية الكوردية على انها عامل استقرار وسلام مشترك والافتخار بها، وايجاد حلول قطرية واقليمية لها وبقوة ودون خوف. لأن القضية الكوردية هي جزء اساسي وقاعدة مشتركة نحو ايجاد الأمن والأمان والتنمية والازدهار والتطور وخاصة في كلٍ من سوريا وتركيا.
فالانظمة السابقة في كلٍ من تركيا وسوريا وايران والعراق مثلاً، تعاملت وبشكل وحشي وعنيف مع القضية الكوردية وحاولت عبر كل وسائلها الامنية والعسكرية المتاحة من القضاء على الحقيقة الكوردية ودفنها وانهائها على الارض، ورصدت المليارات والمليارات من قوت أطفالها وشعوبها لانهاء هذه القضية، لكنها فشلت فشلا ذريعاً عبر معالجاتها العنصرية والعسكرية والأمنية، وبقيت هذه الدول تحتل ذيل الحضارة والتطور ، وبقيت دولاً ديكتاتورية متخلفة جائعة ومارقة وبعيدة عن الانتاج والتنمية والازدهار وركب الحضارة، والتاريخ اثبت لنا وللجميع عن استحالة فرض الحلول الامنية والعسكرية.
فبعد أن قرأت بيان ” جبهة الانقاذ الوطني ” في سوريا، الذي يدعوا الى نوعٍ من علاقات التطبيع مع تركيا واقامة العلاقات الاستراتيجية والامنية معها عبر موجبات التنسيق والتفاهم الاستراتيجي المستدام، وذلك على قاعدة ولوحة العلاقات والمصالح المشتركة. أردت أن أكتب للصديق والأخ العزيز والاستاذ ” فهد المصري ” رئيس الجبهة، بعض الملاحظات حول ما ستؤول اليه هذه الرؤى والمشاريع والعلاقات، ما لم يُأخذ بعين الاعتبار الحلول الجذرية والجريئة والشاملة لحل القضية الكوردية .!
فكان من الاولى ومن الواقعية السياسية وقبل التطرق الى فتح آفاق التطبيع الامني والعسكري والسياسي مع تركيا وتشكيل حلف اقليمي وأمني مشترك معها ومحاربة الـ PKK ، دعوة كلٍ من تركيا والعراق وسوريا وايران الى ايجاد مخرج اقليمي ووطني مُشرّف لحل القضية الكوردية العالقة بين حدود هذه الدول. وكان من الأجدر ان يتطرق البيان الى البحث عن الحلول الديمقراطية والوطنية للمشكلة الكوردية المشتركة قبل البحث في انشاء الأحلاف والمكاتب الأمنية والعسكرية. لان عدم ايجاد حل عادل ومشترك للقضية الكوردية في الشرق الاوسط … يعني استمرارية الحروب والأزمات والكوارث والتخلف وعدم الازدهار والتطور والتنمية … حيث لا سلام ولا استقرار وعلى كل الصعد، ما دامت القضية الكوردية موضوعة على الرّف وفي ظنجرة الضغط السياسي عند هذه الدول .
فعندما نريد أن نتكلم عن المشتركات والتفاهمات والاهداف والامن الاقليمي المشترك ونرسم خارطة كبيرة لهذه المفاهيم والأهداف وعلى الأسس والقواعد المشتركة مع تركيا، لا بد لنا وقبل كل شيء، أن نُلزم انفسنا بالوقوف على عتبات الحقيقة قليلاً. حقيقة الحريات الاساسية للشعب الكوردي وحق الشعوب في تقرير مصيرها .!
فلو ننحدر قليلاً باتجاه قاع التاريخ، سنرى بان هلال الخصيب ومنطقة كوردستان الحالية كانت وما زالت منطقة النزاعات والصراعات والامبراطوريات والتنافس والاديان، وحتى تقسيمها الحالي جاء كترجمة ورغبة لهذه السياسات.
فالقضية الكوردية اليوم هي ليست قضية قطرية سورية او تركية او عراقية او ايرانية فحسب، بل هي قضية اقليمية كبيرة، وتمس الامن الوطني والاقليمي والاستراتيجي لهذه الدول وبالمطلق، ولها من الارتدادات المجتمعية والسياسية الكبيرة، وهذا يتطلب من عقلاء هذه الدول من العرب والاتراك والفرس قبل الكورد، القيام بطرح مبادرات الحل الشامل والدائم والمستدام للقضية الكوردية، لان المخارج والحلول ستساهم بشكل كبير في دفع حالة التطور والازدهار والتنمية الى الأمام، وستساهم في دفع المنطقة نحو فضاء الحريات والديمقراطية والانتاج والاستقرار . والعكس هو صحيحٌ ايضاً … فعندما تبقى القضية الكوردية أسيرة النزاعات والنظريات العنصرية والاحتلالات والاضطهاد والتعامل العسكري والامني والاستخباراتي العنيف والقتل والظلم والكيماوي والرعب والتهجير من قبل انظمة هذه الدول.؟ فحتماً ستكون هناك هزات عنيفة وارتدادات جغرافية كبيرة وكامنة في الوعي الجمعي الكوردي.
فالانظمة الراديكالية والديكتاتورية في المنطقة هي من دفعت بالكورد وخاصة الـ PKK ” الى حمل السلاح وانتهاج خيار العنف واللا سلم في منطقتنا، فالكوردي لا يمتلك الطائرات ولا الصواريخ ولا غاز الخردل ولا الكيماوي … بل انه يمتلك ذاته ونفسه، ولا يرضخ للظلم ويريد حريته، مثله مثل اخاه العربي والتركي والفارسي على هذه الارض … وهذا هو بيت القصيد .!
فعندما يرى الكوردي بأنه قد أصبح جزء من هذه المشتركات الجمعية والتآلفات، وأن حقوقه مبانة ومصانة مثل حقوق غيره في الدساتير وفي قاعات البرلمانات، وان العلاقات التي تربطه بهذه الشعوب هي علاقات الموت والحياة والتاريخ والوجود … وقتها من الطبيعي سينخرط الكوردي في بناء هذا الشرق الجميل، فبناء الشرق الاوسط هنا لا ولم ولن يتم من دون اشراك الكوردي في بنائه، فالكوردي والى اليوم يرى نفسه ضحية السياسات والمؤامرات والتقاطعات العنصرية والأحلاف والعلاقات والاتفاقات البينية لهذه الدول، بدءاً من سايكس بيكو والى حلف بغداد والى اتفاقية اضنة، والحبل على الجرار ، فلسان حال الشارع الكوردي يقول : انه لا يرى منفذاً لترجمة ذاته الانسانية والحضارية والقومية والوجودية مع هذه الدول، ولذا يلجأ الكوردي الى الدفاع عن النفس والى الاساليب والطرق المسموحة وغير المسموحة للحفاظ على ذاته ووجوده، وهذه هي حقيقة ساطعة أمامنا جميعاً ولا نستطيع القفز عليها.!
لقد مرّت على هذه الجغرافيا الكثير والكثير من الامبراطوريات والغزوات والخراب والدمار والى اليوم، من الاسكندر الكبير الى هولاكو الى جنكيزخان الى مجيء الاسلام الى الحملات الفرنسية الى الاحتلال الامريكي للخليج والعراق ووووالخ.! فهذه المنطقة هي قلب العالم، ونحن أهل هذه المنطقة، فإن لم نضع لأنفسنا برنامجاً مارشالياً مشتركاً وجامعاً بين كل هذه الشعوب والامم والأقوام والكورد معاً ولمصلحة الجميع ولمستقبلنا جميعاً في هذه المنطقة، سنكون حتماً من عداد رحمة الله عليهم .!؟
فنحن في منطقة الشرق الاوسط اليوم بكوردها وعربها وأتراكها وفارسها … أمام واقع جديد من الوجود والتاريخ والمشتركات، كما قلنا بان الحلول العسكرية والامنية لا ولم ولن تنفع، ولن تأتي لنا بالنتائج المرجوة والمطلوبة … فالكل جرّب حظوظه في القتل والامحاء والاجرام … وفي الأخير لم نرث من الماضي ومن تلك الثقافة والحقبة السابقة غير الكره والتطرف والخيانات والقتل والاجرام والبغض والرفض.
انا ارى اليوم ان الحفاظ على الكورد والنضال من أجل تحقيق مطالبهم وحقوقهم، والعمل على تحقيق العدالة السياسية والاجتماعية لهم، هو مهمة الاستاذ فهد المصري والاخ والفيلسوف التركي اسماعيل بيشكجي وغيره وغيره من المتنورين والعقلاء، قبل ان تكون مهمة أي انسان آخر من الضفة الأخرى .!
ولنأخذ التجارب الاوروبية الناجحة امامنا ، ولتكن هذه النماذج والتجارب أمثلة ساطعة لنا في بناء الوعي الجمعي والشامل لنا ولكل شعوبنا ولمستقبلنا ولمستقبل الأجيال القادمة .!
اعتقد بان التناحر والتناحر المضاد الحاصل اليوم والذي سببه هو امحاء الآخر ، لم ولن ينتهي بين ليلة وضحاها ، ما لم نقف نحن جميعاً كصفٍ واحد امام هذا الانهيار الكبير للقيم وللانسانية وللحقوق والحرّيات في شرقنا المتناحر والمنتحر ؟ وعليه لن نجني شيئاً ولن نحصد غير الويلات والخراب والتهجير والعنف والحروب .
– دمتم
– بون – المانيا
…………………………