في تشابه محاسن البلاد ومقابحها

ماجد ع  محمد
لا يُنكر فضل بعض الروايات والأفلام في إغناء المخيلة وتحريضها، حيث أنها قد تقدّم للقارئ أو المشاهِد أفكار وتخيلات وتصورات خلاّقة لم ولا تحدث عادةً على أرض الواقع، وربما تظل تلك المجريات التمثيلية أو الكتابية افتراضية ولا تجري أحداثها على أديم الحقيقة أبدا، ولكن مَن بمقدوره أن يؤكد بأن بعض إن لم نقل معظم ما جاء في محتويات تلك الكتب والأفلام لم تُشجع المافيات أو تحث الأجهزة الأمنية في الكثير من الدول على محاكاة بعض ما ورد فيها؟.
وبما أننا ما نزال في سيرة الأفلام وما يحدث فيها مقارنةً بما يجري على أرض الواقع، فحبذا لو تتذكر معي أيها القارئ العزيز ذلك القناع الذي يرتديه الممثل في فيلم “المهمة المستحيلة” الشهير الذي أنتجته هوليود، وحيث كان للممثل الذي أدى دور رجل الاستخبارات، وجهين متناقضين، وجه يناهض آخر، وحيث يتحول الممثل إن كنتَ تتذكر إلى رجل آخر تماماً لمجرد ارتدائه لقناعٍ مطاطي يُحاكي وجهَ الإنسان.
وصراحةً فإن موضوع الوجه الآخر للممثل في فيلم “المهمة المستحيلة” الهوليودي، ساقني إلى موضوع الوجه الآخر للأشخاص العاديين في الحياة خارج استديوهات التمثيل، وكذلك الأمر ملاحظة الوجه الآخر للدول ومؤسساتها، ولا أنفي أن هذه الأفكار لم تكن لتأتيني في وقتٍ واحد لولا ارتفاع منسوب الانتهاكات في منطقة عفرين السورية والتابعة في الوقت الراهن لنفوذ تركيا منذ ما يزيد عن سنتين، إذ في الوقت الذي يتوفر فيه الأمن والأمان والسلام في عموم المدن التركية، نرى الأمر معاكساً تماماً في منطقة عفرين التي صارت خصبة جداً بالسطو والنهب والسلب والقتل منذ أن صارت خاضعة للسيطرة التركية!!.
وباعتبار أن الانتهاكات قد تكون بمثابة غذاء يومي للمحميين قانونياً ليمارسوا غطرستهم بحق الشباب في المنطقة، لذا فلن نسرد كل الجرائم والانتهاكات التي حدثت فيها منذ ما يزيد عن سنتين، إنما سأذكر جريمتين متلاحقتين فقط بحق كبار السن فيها، وحيث أنه بين الأولى والثانية ثلاثة أيام لا أكثر، إذ كانت “منظمة حقوق الإنسان في عفرين” قد ذكرت في تقريرٍ لها بأن مجموعة من العناصر المسلحة المنضوية تحت مسمى “لواء الوقاص” أقدمت بتاريخ 18/04/2020 على قتل المسنة “فاطمة إبراهيم كنة -80 عاماً” زوجة “صبري طانة” من أهالي قرية “هيكجة” التابعة لناحية “جنديرس” ولم تمر أيام حتى ذكرت المنظمة نفسها أن مجموعة من الرعاة المدعومين من المسلحين في بلدة “ميدانكي” التابعة لناحية “شران” يوم الأربعاء الساعة الثالثة والنصف عصراً بتاريخ 22/04/2020 أقدمت على ضرب المواطن علي أحمد الملقب (عليكي) 74 عاماً بالأيدي والعصي بشكل وحشي بسبب اعتراضه على رعي مواشيهم التي تقدر بأكثر من 200 رأس في حقله القريب من منزله الكائن في مدخل القرية، مما استدعى نقله إلى أحد مشافي عفرين ومن ثم فارق الحياة جراء حدوث نزيفٍ في الدماغ.
ولا شك أن الوجهان المتناقضان للأمكنة هنا وهناك والمسؤولين عنها، يفتحان رحاب التأويل للمحدّق من خلال منظار الحقيقة، ليُدرك بعد رشقة التّأمل بأنه كما للقمر وجه مشرق يتغنى به العشاق والشعراء وجميع الرومنسيين في العالم وجهٌ آخرٌ أسحم بخلافه، فللدول أيضاً أكثر من وجه بخلاف الوجه الذي نألفه فيها، حال القمر الذي صدمت وكالة ناسا الأمريكية العشاق بوجهه الآخر، وحيث التقطت له الوكالة عام 2015 صوراً لجانبه المظلم غير المواجه لكوكبنا، والذي لا يراه سكان الأرض أبدا.
عموماً لم يخطر على بالنا موضوع قناع الممثل، والوجه الآخر للقمر، لندخل بناءً عليهما بهوَ المقارنة بين تركيا في تركيا وتركيا في عفرين، إلاّ بسبب ما تشهده المنطقة من كل صنوف الاعتداءات، مع أنها ما تزال خاضعة فعلياً لمناطق النفوذ التركي، وليست خاضعة لنفوذ الجنجويد أو بوكو حرام أو داعش، علماً أن تركيا بالنسبة للمقيم فيها أو السائح في مدنها وروابيها أو زائرها، فهي تنعم بكامل أسباب الأمن والأمان والانشراح والاستقرار، بينما عفرين فغدت مرتعاً لكل صنوف الانتهاكات النفسية والجسدية بحق البشر والطبيعة، مع أن المنطقة قبل 2011 أي في زمن نظام الأسد، وحتى في زمن مَن تصنّفهم أنقرة كإرهابيين كانت بخلاف ما هي عليه الآن، وحيث كتب بهذا الخصوص المهندس زهير علي في صفحته الشخصية بوسائل التواصل الاجتماعي، قال لي رئيس مخفر في ناحية معبطلي ذات يوم: “أحيانا يمر شهر ولا نكتب ضبط  واحد علماً أن المخفر كان يغطي أكثر من خمسين قرية، بينما اليوم إجرام منفلت على المدنيين الآمنين  في بيوتهم، يُعتقل ويعذب أي شخص من أبناء عفرين لا شيء فقط لدفع كفالة للإفراج عنه لتحول رواتب لمن يسمون أنفسهم شرطة وقضاة وأمنيين  ممن ينفذون أوامر الجهة التي سلطتهم على أبناء المنطقة”.
وبما أن ما يجري في منطقة عفرين الخاضعة لنفوذ تركيا، شبيه بما كان يجري في الجزائر ابان الاحتلال الفرنسي، من خلال الازدواجية في التعامل والوجه الآخر لكل دولة من هاتين الدولتين في مناطق نفوذههما خارج حدودهما، ففي هذا الإطار كان قد أشار الأديب الجزائري مالك حداد يوماً إلى الصورتين المتضادتين لفرنسا في فرنسا، ولفرنسا الموجودة عسكرياً في الجزائر، حيث كان يرى فرنسا دولة سلام وأمن واطمئنان وأنس وثقافة عندما يكون فيها، إلاّ أن فرنسا لم تكن بجيوشها بمخابراتها وأدواتها وأذرعها العسكرية والمدنية الخفية على نفس تلك الصورة البهية في الجزائر إطلاقاً، بل كانت حاضرة بكل مقابحها في الجزائر، وحيث يقول: “في بلادها، في بيتها فرنسا جميلة، في بلادها في بيتها فرنسا لا تفكر أبداً في الحرب” بمعنى أنها لم تكن بذلك الجمال وتلك الصورة البهية إطلاقاً خارج فرنسا، أي في الجزائر.
وحقيقةً فإن هذا الاحساس الذي راود مالك حداد حينها، يعيش دقائقه الآن معظم كرد منطقة عفرين عن تركيا في تركيا التي زاروها فترة من الزمن، أو أقاموا بها شهور أو سنوات، وعن تركيا الموجودة عسكرياً واستخباراتياً في عفرين، وخاصةً أن ذاكرة كل أبناء عفرين ما تزال نضرة وتعمل بشكل جيد على إجراء المقارنات بين الحاضر والغابر، إذ يقول لسان حال معظمهم بأنه خلال سنتين فقط، أي منذ البدء بغزوة عفرين عام 2018 قُتل فيها أشخاص، وانتُهكت فيها حُرمات، وتعرض فيها الأهالي للسطو والسلب والنهب والإهانة أكثر عشرات المرات مما حصل في عدة عقود من عمر المنطقة ابان خضوعها لسلطة نظام البعث الحاكم، وهذا من كل بد ليس نوعٍ من الحنين لنظام الافك، باعتبار أن من يهينون الأهالي ويسطون على أموال وممتلكات الكثير منهم في الوقت الراهن كانوا في الأمسِ من جنود الأسد! إلاَّ أن حُرقة الأهالي وفق شهاداتهم الصوتية شبيهٌ بحُرقة ومأساة طائرٍ لم يصدق نفسه بأنه فر من قفصٍ حديدي على الأرض حتى انقض عليه باشقٌ في السماء.  
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين

كلامي موجه بالدرجة الأولى والاساسية الى الفئات المتعلمة من شعبنا الكردي السوري ، او مجازا المثقفين (بعد الاذن من غرامشي) ، واللذين يهربون الى الامام امام كل حدث ، او تطور سياسي في المنطقة والعالم .

وعلى سبيل المثال بعد الانتخابات الرئاسية الامريكية في تلك الدولة العظمى وفوز الرئيس – ترامب – من الطبيعي ان يتطلع رؤساء الدول ، وممثلي…

دجوار هرميسي

كي أختصر معاناة التفكير في العنوان، موضوعنا بعيد كل البعد عن المنحى الديني؛ إنما هو استعارة للمصطلح، والغرض منه إيصال الفكرة بصورة سهلة وواضحة. تعلمون أننا اجتزنا مرحلة التفاضل بين “أن الإنترنت جيد أو سيئ، أو ضروري أو غير ضروري”، لأن الإنترنت والعالم الافتراضي باتا يفرضان نفسيهما أكثر من الواقع الذي نعيشه، وأصبحا حاجة أكثر من أن نختارهما أو…

إبراهيم اليوسف

في عالمنا الحالي، تبدو السياسة وكأنها تخلت عن المبادئ الأخلاقية التي كانت تدّعي تمثيلها، ودخلت مرحلة ما بعد الحداثة التي يمكن وصفها بالسريالية. إذ تتسم هذه المرحلة بالانهيار الأخلاقي حيث تتداخل المصالح الاقتصادية والنفوذ السياسي بطريقة تفضح عمق التناقضات في المشهد الدولي. في هذه الساحة الغرائبية، يتماهى الغرب وروسيا، وتتراجع القيم الإنسانية لتصبح ضحية للسعي وراء السلطة والمكاسب.

السقوط الأخلاقي…

د آلان كيكاني

من بين الطلبة العرب، في هذه الجامعة الأوربية العريقة، يتم تداول اسم وسيم على نطاق واسع.

لا لكرمه ودماثته وحسن سيرته فحسب، بل لأسباب أخرى. سنتطرق إليها في متن هذا النص.

ولكونه صديقاً مقرباً من أحد أقاربي ارتأى الشاب الأنيق أن يدعوني إلى وليمة في مطعم فاخر على ضفة أحد الأنهار.

 

وفي الموعد المتفق عليه اتصل بي يطلب موقعي على نظام…