د. عبدالباسط سيدا
كانت أنظار السوريين الثائرين على حكم الاستبداد والفساد متجهة في بداية الثورة نحو الكرد السوريين، الذين كانوا، وما زالوا، يعانون على مدى عقود من حكم البعث، خاصة في حقبته الأسدية من ظلم مركب، قوامه الظلم المفروض على جميع السوريين من جهة، والظلم الخاص بالكرد من جهة ثانية. هذا الظلم الذي كان يتمظهر في صيغة اضطهاد مزدوج يتجسد في جملة من المشاريع والإجراءات العنصرية مثل الإحصاء الاستثنائي 1962، و«الحزام العربي» 1973، والتعريب القسري الذي شمل أسماء البلدات والقرى، وحتى الأسماء الشخصية الكردية. هذا فضلاً عن حرمان الشباب الكرد من البعثات الدراسية سواء الداخلية منها أم الخارجية؛ وإبعادهم عن كليات الجيش والشرطة، وعن الوظائف لا سيما العليا منها.
وإلى جانب هذا وذاك، كانت دائما هناك الإجراءات الاستثنائية، والقرارات السرية التي تستهدف التلاعب بديموغرافية تلك المناطق، ودفع أهلها نحو الرحيل. ويُشار هنا على وجه التحديد إلى المرسوم 49 لعام 2008 الذي أفسح المجال أمام الأجهزة الأمنية للتحكم بكل شاردة وواردة في المناطق المعنية، عبر استغلال القوانين الخاصة بالمناطق الحدودية، لا سيما على صعيد التدخل في عقود البيع والشراء، وتراخيص البناء؛ وكل ذلك أدى إلى شل الحياة الاقتصادية التي كانت أصلا ضعيفة في تلك المناطق نتيجة سياسات السلطة المبرمجة. وحده قطاع البناء والعقارات كان هو الذي يحرك سوق العمل في تلك المناطق، وذلك بفضل جهود خاصة، فجاء المرسوم المذكور ليسد الطريق أمام المواطنين الكرد، ويرغمهم على الهجرة سواء إلى الداخل السوري أم إلى خارج البلاد.
أما الجانب الآخر من الاضطهاد المزدوج المشار إليه، فقد تشخّص في حرمان الكرد من جميع الحقوق القومية المشروعة التي باتت اليوم من البدهيات المسلم بها في مختلف أنحاء العالم، ويشار هنا إلى الحقوق الثقافية والاجتماعية والسياسية والإدارية، وغيرها من الحقوق التي تحترم الخصوصية الكردية على أساس وحدة الشعب والوطن.
وكانت حجة النظام المستمرة هي زعمه أن هناك نزعة انفصالية كردية لا بد من أخذ كل الإجراءات لسدّ الأبواب عليها؛ هذا مع العلم أن النظام نفسه كان يعرف من خلال أجهزته ومتابعته المستمرة للقضية الكردية السورية أنه لا يوجد أي أساس واقعي لمثل هذه النزعة، بل لا توجد امكانية لتحقيقها؛ ولا توجد أي دعوات رسمية من جانب أي حزب كردي يطالب بها. وإنما كان الموضوع برمته يدخل ضمن خانة الفزّاعات التي كان النظام يسوغ من خلالها سياساته في ميدان اشغال السوريين بقضايا وهمية، ليتمكن من التحكم بكل مفاصل الدولة والمجتمع السوريين، و«الفزّاعة الكردية» كانت شبيهة إلى حد كبير بـ «فزاعة الإرهاب» التي استخدمها، ويستخدمها، اليوم لمواجهة كل السوريين الثائرين على حكمه المستبد الفاسد المفسد.
غير أن الكرد السوريين لم يستسلموا من جانبهم لهذه السياسة الاضطهادية، بل اعترضوا عليها دائماً، وعملوا باستمرار على إلغائها، وطالبوا بحقوقهم المشروعة. وشكلوا من أجل ذلك الأحزاب والمنظمات، وتظاهروا واعتصموا وأقاموا الندوات، ووزعوا المنشورات، وأصدروا الجرائد والمجلات غير المرخصة. وكانت احتفالات النوروز عادة مناسبة للمطالبة برفع الاضطهاد، وتأمين الحقوق. وقد تعرض الكرد باستمرار للملاحقة والاعتقال، والفصل من الوظائف، وسد أبواب الوظائف بكل درجاتها نهائيا أمام الناشطين الكرد، وبلغت الاحتجاجات الكردية ذروتها في انتفاضة القامشلي ربيع عام 2004 التي شملت سائر المناطق الكردية السورية، وامتدت إلى المدن الكبرى، ووصلت أصداؤها إلى العواصم والمدن الكبرى في العالم حيث الجاليات الكردية السورية.
ومع انطلاقة الثورة السورية التي كانت رداً على تراكمات الاستبداد والفساد، وانسداد الآفاق أمام الجيل الشاب، وانعدام الأمل بمستقبل واعد للأجيال المقبلة؛ تطلع السوريون نحو الكرد، شركاءهم في الوطن والمصير، وراهنوا على تفاعلهم العضوي مع الثورة، هذا رغم عدم معرفة الكثير من السوريين بتاريخ وحجم وطبيعة القضية الكردية في سوريا؛ ولم يكونوا على اطلاع كامل بأبعاد ومآلات السياسية الاضطهادية التمييزية التي تعرضوا لها على مدى عقود، وذلك نتيجة سياسات النظام التي حرصت على الفصل بين السوريين، والتعامل مع كل القضايا الداخلية على أنها من أسرار الدولة التي يحظر الحديث عنها، وإبداء الرأي فيها.
ولعل هذا ما يفسر محدودية نطاق حالات التفهم والتعاطف مع الحقوق الكردية، فقد كانت حالات خجولة، إن لم نقل متوجسة، حتى بين الكثير من النخب المعروفة بمناهضتها للنظام. وقلائل هم من تفهم القضية الكردية السورية، وساندوها بقوة في سياق رؤيتهم لها بوصفها قضية وطنية سورية عامة، تستوجب الحل العادل ضمن إطار وحدة الشعب والوطن.
تفاعل الشباب الكردي السوري منذ اليوم الأول مع الثورة السورية، بل كان موجودا حتى في المراحل التمهيدية لها. وجميعنا يتذكر كيف كانت مظاهرات عامودا تُبث عبر الفضائيات بعد مظاهرات حمص الكرنفالية. وكان هناك حراك شبابي لافت في مختلف المدن والبلدات ذات الأغلبية الكردية، وكان الالتزام بشعارات الثورة وجداولها الزمنية، الأمر الذي كان يعزز آمال السوريين، ويثير مخاوف النظام.
وكانت وسيلته مع الكرد دفاتره القديمة – الجديدة مع حزب العمال الكردستاني. وتم الاتفاق بالتنسيق مع الإيراني، وربما الروسي، على ادخال قوات الحزب المعني تحت اسم قوات «حماية الشعب» وبقيادة حزب الاتحاد الديمقراطي، الفرع السوري لحزب العمال الكردستاني المرتبط بعلاقات وثيقة مع النظام الإيراني. وتم تسليم المناطق الكردية إلى تلك القوات، كما تم توزيع المهام والوظائف بينها وبين النظام، وكان الاتفاق على قواعد العمل، هذا إلى جانب تزويدها بالسلاح والمعدات والمال من جانب النظام.
وقد استمد هذا الحزب الكثير من أدوات النجاح من مواقف الأحزاب الكردية المترددة التي كانت تروّج بعض الأفكار لتتستر خلفها، وتواجه من خلالها الضغط الشعبي الذي كان يطالبها بالانضمام إلى الثورة. ومن بين ما كنا نسمعه في ذلك الحين هو أن النظام استبدادي، والمعارضة شوفينية، وعلينا أن ننتظر، لأن المهم بالنسبة لنا هو حصولنا على حقوقنا، هذا ما كانت تنظّر له بعض الأحزاب التي انضمت لاحقا إلى أدارة حزب العمال الكردستاني «الذاتية». هذا مع العلم أن المعارضة في ذلك الحين كان قد أصدرت أفضل الوثائق التي اعترفت صراحة بالخصوصية والحقوق الكردية في سوريا، ويشار هنا إلى وثيقة المجلس الوطني السوري ربيع عام 2012، ومؤتمر المعارضة السورية في القاهرة صيف عام 2012.
وهكذا استطاع الحزب المعني تثبيت وجوده، بعد ان تمكن من اخراج شباب التنسيقيات الكردية من الساحة، عبر الترغيب والترهيب، وكانت مجزرة عامودا صيف عام 2013 هي الذروة كما نعلم جميعاّ.
أما الأحزاب الكردية التي ظلت مترددة حائرة حتى بعد تشكيل المجلس الوطني الكردي 2012 بعد أيام من تأسيس الوطني السوري، فقد كانت ترفع السقف وهي تدرك سلفاً أنها لا تملك أوراق الضغط، وليس لديها القدرات التي تمكّنها من الصمود، ومنع حزب العمال الكردستاني من الاستفراد بساحتها.
وهكذا تحول هذا الحزب «العمال الكردستاني» عبر واجهته السورية، «حزب الاتحاد الديمقراطي»، مع الوقت إلى قوة أمر واقع. أعلن عن الكومونات والدستور؛ ثم جاء بفكرة الإدارة الذاتية، وقد استفاد لاحقاً من الطلب الأمريكي الخاص على المقاتلين الميدانيين لمواجهة «داعش». فبدأ يدفع بالشباب الكرد نحو محافظتي دير الزور والرقة، عبر فرض التجنيد الاجباري الذي يبدو انه كان قد توافق حوله مع النظام منذ البدايات.
واليوم، ورغم مرود أكثر من سنة على بدء المفاوضات بين حزب العمال الكردستاني عبر واجهاته السورية من جهة، والمجلس الوطني الكردي السوري من جهة ثانية، برعاية أمريكية، يُلاحظ أن هذه المفاوضات لم تسفر حتى الآن سوى عن نتائج متواضعة جداً، لا يمكن البناء عليها للوصول إلى اتفاق شامل كامل، يكون في صالح الكرد السوريين تحديداً، وفي صالح السوريين بصورة عامة. وليس سراً أن العقبة الكأداء التي تعترض سبيل هذه المفاوضات، تتمثل في العلاقة العضوية الشاملة بين حزب الاتحاد الديمقراطي، والمفاصل الأساسية في «قسد» من ناحية، وحزب العمال الكردستاني من ناحية ثانية. وهي علاقة وحيدة الاتجاه، بمعنى أن الطرف المتحكم هو العمال الكردستاني، الذي يستغل عدالة القضية الكردية السورية، ويتخذها ورقة من أوراقه الإقليمية التي لا تتقاطع مع مصلحة الكرد السوريين، ولا مع مصلحة السوريين.
القضية الكردية السورية هي قضية سورية وطنية داخلية، تسبّب النظام في استفحالها عوضاً عن معالجتها، فأصبحت قضية إقليمية؛ ثم غدت مع تطورات الأوضاع في سوريا منذ عام 2011 قضية دولية، ومثل هذه القضايا تستوجب حلولاً استراتيجية على مستوى الإقليم، إذا كانت هناك رغبة في تعزيز الأمن والاستقرار على اسس عادلة، ولمصلحة الجميع.
* كاتب وأكاديمي سوري