د. محمود عباس
وفي البعد الديمغرافي-السياسي يتناسى كتاب الأنظمة المحتلة للجزيرة، ما تم خلال العقود القليلة المنصرمة من العبث بالواقع السكاني للمنطقة، والتي أدت إلى ظهور أوبئة ثقافية بين شريحة واسعة من مجتمعنا، وخاصة العربي المتأثر بتلك الأنظمة، رافقتها تحريف تاريخ المنطقة وبشكل خاص التاريخ الكوردي والمؤدية إلى ظهور تاريخ عربي مشوه، في الثانية تضخيمها بتحريفاتهم، وفي الأولى تهميشها قدر ما تمكنوا منه، تبنتها الأنظمة العروبية وأدواتها وبمخططات، كما وسخرت للثانية مؤسسات مختصة، لربما لم تدرك أن نتائجها ستكون كارثية بالحجم الظاهر حالياً، والتي سهلت تعريتها عصر الأنترنيت.
وفي الحالتين، شعوبنا بحاجة إلى منظمات ومراكز بحوث متمكنة لتعديلها وتنقيتها وإزالة الأوبئة الفكرية التي لا تزال تنتشر من خلالهم حتى اللحظة بين الشعب العربي، وهو ما يؤدي إلى تعميق الصراع الجاري، ولربما نقل المنطقة وبشكل خاص سوريا من الحروب المذهبية إلى حروب عرقية قومية، والمذنب الأول والأخير؛ هم شريحة من الكتاب والسياسيين العرب، الذين أصبحت أحد أهم أجنداتهم محاربة الكورد، بعدما أدت الأنظمة دورها، وحملتهم مفاهيم ألغاء الأخر والتلاعب بالبعد الوطني.
فما صدر خلال سنوات الحرب الحالية في سوريا، من دراسات وكتب في هذا المجال، ليست سوى شذرات من تيار فكري عنصري لا يزال جاريا بين شريحة من المثقفين العرب، رغم زوال البعث، والذي يضر بصاحبه وتاريخ الشعب العربي قبل الأخرين، وسيأتي اليوم الذي ستلعنهم فيه الشعوب السورية على ما نشروه من الأوبئة الفكرية والتاريخية بين المجتمع.
الغاية من الوارد لاحقاً، وما كتبناه سابقاً؛ رداً على البعض، إيقاظ شريحة الكتاب العابثين بمفاهيم مجتمعهم، وإنقاذهم من الخلفيات الفكرية الشاذة، ودفعهم للكتابات التي تخلق التآلف بين شعوبنا، ومنعهم من توسيع الصراع، وتعميق العنصرية، وإقناعهم لوضع حد للأوبئة الفكرية التي ينشرونها بوعي أو دونه.
ليس من المنطقي البحث في تاريخ كردستانية الجزيرة، وحيث الإثباتات أكثر من أن تحصى، دون التنقيب عن بدايات الظهور العربي في المنطقة، وبدايات تحضرهم، من البعد التاريخي وليس العنصري، كما وهي ليست محاولة للطعن في العلاقات الوطنية بين الشعبين الكوردي والعربي والسرياني والأرمني وغيرهم من المكونات المتواجدة حاليا على أرض الجزيرة.
بل هي دراسة لتبيان التحريف التاريخي الذي نشر عن تلك المراحل، وعن أساليب الهيمنة العربية الإسلامية وطرق تمليك المناطق والمدن شكليا للقبائل الغازية، فسموا المناطق، بديار بكر وديار ربيعة وبني مضر وبني تغلب وغيرها، والبعض من هذه القبائل لا أثر لها في التاريخ، خلقها مؤرخون إسلاميون من العدم، لبعد ديني- قبلي، وجلها تمت بعد الغزوات الأولى، وبعضها أثناء الخلافة العباسية، وفي فترات صراعها مع البيزنطيين.
فمهما تم تقديم الإثباتات، في الطرفين؛ أي الإثبات أو العدم، سيظل حامل الصورة النمطية المشوهة عن تاريخ الكورد نافيا للحقائق. فما رسخته أنظمة البعث والأسد في أذهانهم من الأفكار في الصغر ليس سهلا التحرر منها، وبالتالي فجل كتاباتهم وتصريحات سياسييهم ستصدر على نفس النمط الثقافي المهيمن عليهم، ونفس المفاهيم المغروزة في ذهنهم، وبالتالي سيدافعون عنها من وجهة نظرهم. ولن يحاولوا معرفة بدايات تاريخ المكون العربي في الجزيرة، لأنها تنافي ما هو مترسخ في ذاكرتهم.
لهذا فالكتب ذات الخلفية العنصرية (للقومية العربية) طعنة في التاريخ (العربي الإسلامي) وكنا نتمنى ألا يشوهوا تاريخ الأمة الإسلامية أكثر مما تم من قبل أنظمتهم.
مع ذلك وكلمحة تاريخية لمراحل التحضر في الجزيرة الكوردستانية، والتي كانت مراعي للقبائل الكوردية العديدة والممتدة من عفرين إلى ديركا حمكو، وكانت عمقها تصل إلى مصب الخابور في الفرات (لا نود في هذه العجالة أن نكرر المصادر والوثائق التي تثبت ما نقول، وقد نشرناها ونشرها العديد من الكتاب سابقاً) وهي المنطقة الخالية من البشر على خلفية عدد سكان العالم ومن ضمنها سكان الجزيرة الكوردستانية، والتي كانت قراهم عديدة ومبنية في شمالها، وأسماؤها أكثر من معروفة، وقد بلغت في بعض الوثائق العثمانية قرابة 80 قرية تحت الخط الذي تم رسمه لاحقا ما بين فرنسا وتركيا الكمالية، ما بين عامودا وديركا حمكو، وتعود تاريخ بعضها إلى قرون خلت، والإثباتات التاريخية الأركيولوجية وما يتضمنه الأرشيف العثماني أكثر من معروفة، وكما ذكرنا تم نشر العديد منها سابقا، ونحن هنا لا نتحدث عن تاريخ الحضارات الكوردية، بل عن مراحل ما بعد الإسلام. وعلى سبيل المثال لا الحصر، يذكر الرحالة (الألوسي) ضمن مذكرات رحلته ما بين استانبول إلى بغداد عام 1851م في الصفحة (92)أنه وصل إلى قرية (دوكر) وهي كما نعلم حاضرة آل عباس، فيقول أنه كانت في القرية ما يقارب المئة بيت، وتوجد بينها وبين نصيبين قريتي تل الذهب، وتل شعير، والأخيرة من قرى آل حجي سليمانا، ويضيف أنه فيها أيضاً قرابة المئة بيت، وهنا نتحدث عن مئتي بيت في منتصف القرن الثامن عشر، وللعلم المسافة ما بين القريتين لا تتجاوز الخمس كيلومترات، ومثلها كانت قرية حلوة في جنوب شرق دوكر، وفي جنوبهم قرى آل اليوسف، وشرقها قرى آل المرعي، وبعدها قرى آل نايف باشا، وعشيرة هسنا وغيرهم، وجميعها كانت بنفس الكثافة السكانية على تقديرات تلك المرحلة الزمنية. ويقال إن الجد الأول لآل عباس كلمة قالها من على تل دوكر، فكان يرددها من قدموا بعده، أن مراعيه تمتد إلى حيث مدى النظر، وكانت جبال شنكال هو المعني، وهو ما كان يعني لكل العشائر الكوردية الأخرى، إن كانت في شرق منطقة آشيتا وحتى ديركا حمكو وجنوب تل كوجر. وغربا حتى كري سبي وسري كانيه، ومراعيهم الممتدة حتى مجرى الفرات، وهنا لا نتحدث عن منطقة عفرين والتي اقتطعت منها امتداداتها حتى البحر في بدايات القرن الماضي، واليوم تجري محاولات تدميرها ديمغرافيا وتاريخيا وبشكل ممنهج. وهنا نود أن ننوه أن البرية من غرب الفرات حتى مصب الخابور في الفرات، كانت مراعي للقبائل الكوردية، وحينها لم تكن للقبائل العربية الحالية في الجزيرة من وجود.
وكمقارنة لما ذكرناه عن الوجود الكوردي في الجزيرة قبل الغزوات العربية الإسلامية وبعدها، لا بد من تبيان متى ظهرت القبائل العربية في الجزيرة المعنية، ومتى اجتازوا الفرات نحو الشمال لأول مرة، المذكورة ضمن العديد من المصادر التاريخية الموثوقة؟
للعلم أن موجة الغزوات الإسلامية لم تتحضر في المنطقة، وظلت مجموعات غازية، تجول بين المدن الكوردية كحماة وجيوش جاهزة للغزوات، باستثناء مجموعة سكنت على أطراف الرقة، ولفترة قصيرة، بعد الطلب من أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، وحينها كانت اسمها(كالينيكوس) سماها العرب المسلمون بالرقة، وسمح لبعضهم بشكل فصلي لئلا تقف الغزوات، وقد كتبنا عن هذا عدة مرات وبسند من المصادر التاريخية الإسلامية، والتالي هو مقتطف من تلك الدراسة…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
13/2/2021م