في وداع روحيّ للكبير محمد روح

إبراهيم محمود
لا أذكر أن هناك لحظة تحادثنْا فيها: الصديق عبدالغني ليلي ” المقيم في لندن الآن ، ومنذ سنوات “، وأنا، مثل هذه اللحظة التي شارفت فيها شمس نهار يومنا هذا ” الجمعة ” على المغيب، وهو مختلج الصوت، صوت يترجم حشرجة روح من على آلاف الأميال، أخافني بصوته ذاك، وبعد محاولة تهدئة، أشار إلى شخص، أظهر تفضيله حتى على أولاده، وعلى نفسه، وهو يخبرني برحيله البارحة ” الخميس 4-2/ 2021 “، عن عمر ناهز الـ ” 75 ” عاماً، وأسمعنى اسمَه ” محمد روح ” الملقب بـ” أبو بسّام “، من سكان ” يلدا ” الشامية. 
في الحال أرجعتني الذاكرة إلى الوراء، إلى ما كان يردّده على مسامعي عن إنسانيته، وأنا أتخيل صورته، حين جاء صحبة عائلته الكبيرة، بعد انفجار الأحداث في سوريا، بدعوة من الصديق ليلي ” أبو روني ” مقيماً في بيت أخته سبعة أشهر، ليمضي إلى مصر، ويعاني المرارات، ومن ثم ، وبعد سنوات، يرجع إلى بلدته، ليرمّم بيته، سوى أن محمد روح الذي خرج من يلدا، وهو منجرح بما جرى، وخلفه أملاكه، ومعمله، وأهله ومعارفه، صحبة عائلته، غير محمد روح الذي عائد منكوباً، مطعوناً في روحه، هو وزوجته، دمشق يومه، ليست دمشق أمسه،ولا بيته الذي رآه في بروده، وآثار النزف السوري، والعنف السوري في جهاته، هو بيته الذي كان يضج حياة .
أتذكر محمد روح، أعني الكبير قلباً وروحاً محمد روح، وهو في بيته الذي كان يشار إليه بالبنان، ويستقطب كل ذي حاجة، ويشتعل وداً وكرماً وروح ضيافة، وفي الطابق الثاني، كان ثمة طابق أشبه بقاعة كبيرة، مسمى بـ ” طابق قامشلي ” يستقبل فيه كل من يقدِم إليه من جهات قامشلي، ويسمِعه فقط كلمة سر، لم تكن سر ” أنه من طرف ليلي “، نظراً للصداقة الحميمة بينهما، والتي استغرقت سنوات، ليقيم فيه، أياماً مرحَّباً به .
أتذكر محمد روح، أعني دائماً: الكبير محمد روح، أبو بسام، حيث كان البيت الذي استقر فيه هو وعائلته، على مبعدة خمسين متراً من بيتي في ” كورنيش “.
وبعد خروجي، كغيري، حيث عاش كل خارج، وهو يستفظع جرحَه الأهلي، الوطني، البلَدي، الإنساني، السوري، يشكّل رواية واقع لا تتكرر، برعب مفاصلها، مثلما عاش ويعيش كل داخل، إلى هذه اللحظة، من أقصى البلد إلى أقصى البلد، مآسي الأهل والأصحاب والمعارف والولد، وتصبح خريطة البلد الجمر المتضخم مع الزمن، كما هي كرة الثلج، سوى أنها نارية هنا، وهي تلسعه في كامل جسده، وتكويه، بعد خروجي هذا، والذي يستمر خروجاً إلى البلد، مثلما أن البلد في بنيته، وهويته،خرج من البلد كبلد، انشغلت، كغيري، بالملح الذي كان ينبت ويتكاثر في الجرح الذي يستغرق الجسد،وبين الحين والآخر، أسمع أن أحدهم أنهته لسعة النار تلك، في الرقعة الفلانية، أو أتت على روحه غفلة، قهراً، وفي رقعة أخرى .
وحال الكبير محمد روح، أبو بسام، كحال عشرات الألوف ممن عاشوا كرامة روح، وأنفة روح، وعطاء روح، حتى الخروج الأخير من البلد، وليعيش هذا العزيز في روحه، وإنسانيته، صنوفاً من الذل والخيبات، وهو غير مصدق ما يجري، وهو يراه بأم عينه، كيف يسرح رعب ويمرح في مشرق البلد ومغربه.
يلفظ الكبير محمد روح، أبو بسام، أنفاسه الأخيرة، في بيت منكوب، بارد، لا أهل، لا أصحاباً فعليين، وحيث توفيَ قبل أن يتوفى، إزاء هذا الذي رآه بأم عينه.
كم من عزيز قوم ذل في هذا البلد، يا أبو بسام، وكم من خسيس قوم صيَّر اسمه نجماً بين ليلة وضحاها، يا أبو بسام!
سلام لروحك يا  أبو بسام، أيها الجنتي الكبير.
عزائي لعائلته، وأفراد عائلته المشتتين هنا وهناك، وأنتم في إثر هذا الكبير.
عزائي لروحك الطيبة يا الصديق ليلي أبو روني، وأنت في حِداد على صديقك الروحي محمد روح أبو بسام .

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

محمود عمر*   حين أزور دمشق في المرّة القادمة سأحمل معي عدّة صناديق لماسحي الأحذية. سأضع إحداها أمام تمثال صلاح الدين الأيوبي، وسأهدي أخرى لبيمارستانات أخواته الخاتون، وأضع إحداها أمام ضريح يوسف العظمة، وأخرى أمام قبر محمد سعيد رمضان البوطي، وأخرى أضعها في قبر محو إيبو شاشو، وأرسل أخرى لضريح هنانو، ولن أنسى أن أضع واحدة على قبر علي العابد،…

مصطفى جاويش بعد مضي عام على معركة ردع العدوان وعلى سقوط النظام السوري ووصول احمد الشرع الى القصر الرئاسي في دمشق بموجب اتفاقيات دولية واقليمية بات الحفاظ على سلطة الرئيس احمد الشرع ضرورة وحاجة محلية واقليمية ودولية لقيادة المرحلة الحالية رغم كل الاحداث والممارسات العنيفة التي جرت ببعض المحافظات والمدانة محليا ودوليا ويرى المجتمع الدولي في الرئيس احمد الشرع انه…

ماهين شيخاني مقدمة يواجه الشعب الكوردي في سوريا منذ عام 2011 تحولات سياسية وأمنية عميقة، أفرزت بيئة معقدة تتداخل فيها عوامل داخلية وخارجية. وفي ظل غياب تسوية سياسية شاملة، برزت ثلاثة أطراف رئيسية تركت أثراً مباشراً على مسار القضية الكوردية وعلى الاستقرار الاجتماعي والسياسي في مناطق توزع الكورد. هذا “الثالوث” يشمل الجماعات المتطرفة، والإدارة الذاتية، والمجلس الكوردي، وكلٌّ منها يمتلك…

حسن مجيد في الوضع الكوردي العام وبشكل خاص في إقليم كوردستان العراق كل أصناف المعارضة مرفوضة وخاصة المسلحة منها فالقيام بأعمال الشغب حتى لو لم تكن مرتبطة بأجندات إقليمية أو خارجية فقط يحق لك أن تعارض ضمن مجالات حرية الرأي والتعبير . إن النيل من المنجز بطرق غير شرعية وتخريبية تخدم المتربصين والذين لايريدون الخير للكورد . الواجب الوطني…