على حافتين وهاوية

د. ولات ح محمد
ما عدا السنوات الأولى من حكمه (التي تمسكن فيها حتى تمكن) فإن لعبة “حافة الهاوية” صارت لعبة أردوغان المفضلة مع خصومه وحلفائه على حد سواء. لذلك رأيناه كثيراً يتصرف ويصرح ويعلن عن مواقف تظهره في عين جمهوره رجلاً قوياً صلباً لا يتردد في مواقفه ولا يعبأ بأي طرف إذا عقد العزم على القيام بأمر ما، ثم سرعان ما يتراجع عندما يصل إلى حافة الهاوية مع الطرف الآخر وقبل أن يسقط سقوطاً مدوياً لا قيام له بعده. 
    مثل هذه السياسة مارسها أردوغان مع الروس عندما أسقط إحدى طائراتهم أواخر 2015 على الحدود السورية التركية، ففرض عليه بوتين عقوبات تجارية واقتصادية وسياحية وطالبه بالاعتذار، فرفض أردوغان تقديم أي اعتذار قائلاً إن الطائرة الروسية دخلت المجال الجوي التركي وإن قواته قامت فقط بواجبها الدفاعي وإن روسيا هي التي سوف تخسر بقطع تلك العلاقات. بعد جدل ومعاناة اقتصادية وسياحية دامت سبعة أشهر فقط رضخ أردوغان في النهاية واعتذر للروس ودفع التعويضات عن الطائرة المدمرة وعن طاقمها المقتول.
    ما إن اعتذر أردوغان وتراجع عن حافة الهاوية الروسية حتى ذهب إلى حافة أخرى مع أمريكا باعتقاله القس الأمريكي أندرو برانسون أواخر 2016 بتهمة التجسس والانتماء إلى تنظيم إرهابي مسلح. وعندما طالب ترامب بالإفراج عنه رفض أردوغان ذلك بدعوى أن المحكمة التركية هي التي أدانته وأنه لا يخالف أمر المحكمة. وبعد المزيد من الضغوط قال إنه لن يقوم بتسليمه إلا مقابل تسليم أمريكا للمعارض فتح الله غولن. ثم في النهاية وبعد أن رأى أن موقفه المتعنت هذا سيجلب له غضب ترامب وعقوباته رضخ وسلم القس لواشنطن وبقي غولن آمناً في مقره في بنسلفانيا.
    ضمن لعبة “حافة الهاوية” ذاتها ظل أردوغان خلال الفترة الماضية يستخف بالعقوبات الأوربية والأمريكية المحتملة، معولاً مرة على خلافات الدول الأوربية فيما بينها ومرة أخرى على حماية ترامب له من مطالبات الكونغرس بمعاقبته. وعلى هذا الأساس ظل متمسكاً بصفقة الصواريخ الروسية رغم الاعتراضات الأمريكية والأطلسية، بل هدد قبل شهور في نبرة متحدية بأنه سيعقد لاحقاً صفقة على أسلحة أخرى. ومارس الساسة ذاتها مع كل من القبرص واليونان وظل يتحرش بمحيطه وبجواره في المتوسط وعلى شواطئه دون أن يعبأ بالتحذيرات القادمة من الغرب الأوربي والأمريكي على حد سواء.
    قبل أيام وجد أردوغان نفسه على حافة الهاوية تماماً مع الإدارة الأمريكية عندما حدث أمران في يوم واحد؛ فمن جهة أعلنت المحكمة الدستورية فوز بايدن بصفة رسمية ونهائية بانتخابات الرئاسة ففقدَ بذلك حاميه وداعمه في تلك الإدارة. ومن جهة ثانية أرسل الكونغرس حزمة من العقوبات إلى ترمب كي يوقع عليها لفرضها على حكومة أنقرة. وبذلك صارت العقوبات أمراً واقعاً بعد أن كان أردوغان طوال السنوات الماضية يظنها شكلية وظاهرية وبلا قيمة. 
    هكذا وجد الرئيس التركي نفسه يقف فجأة بين حافتين وبات عليه أن يختار واحدة منهما: حافة بايدن وحافة بوتين؛ بايدن الذي قال قبل شهور إنه إذا فاز بالانتخابات فسيسقط أردوغان من خلال دعم المعارضة التركية (وهذا ما يظهر قيمة الرئيس التركي في حساباته المستقبلية). وبوتين الذي عقد معه أردوغان اتفاقات كثيرة خلال السنوات الماضية لتحقيق أطماعه في سوريا، كما أبرم معه صفقة شراء الصواريخ غير عابئ بالغضب الأمريكي ظناً منه أن بإمكانه أن يلعب إلى ما لا نهاية على حبال كثيرة ومتناقضة وبتلك الطريقة المكشوفة ويخرج في النهاية رابحاً كل شيء وعلى حساب الجميع.
    الآن إذا أراد أردوغان الابتعاد عن حافة بايدن والإدارة الجديدة بغية رفع العقوبات أو عدم السقوط في حفرة عقوبات جديدة على الأقل، فإن عليه أن يجد تخريجة لصفقة الصواريخ الروسية ويبتعد عن بوتين ويعود إلى حلفاء تركيا التقليديين في الغرب. ولكنه إذا فعل ذلك فإنه سيعرض نفسه للسقوط في هاوية بوتين، إذ لن يخسر فقط العديد من الاتفاقات والتفاهمات التي أبرمها معه خلال السنوات الماضية بخصوص الشمال السوري (وضحك بها على السوريين التابعين له)، بل سيجلب على نفسه أيضاً غضب الدب الروسي، وما يترتب على ذلك من خلط لحساباته في سوريا وإرباك لأطماعه في أراضيها. 
    إضافة إلى ذلك إذا تخلى عن صفقة الصواريخ الروسية تحت الضغوط والعقوبات الأمريكية فسيكشف لجمهوره بأنه كان مجرد نمر من ورق ليس أكثر. أما إذا ظل محافظاً على تلك الصفقة مصراً عليها متحدياً العقوبات الأمريكية ناكراً تأثيرها مقللاً من شأنها (كي يحافظ على اتفاقاته مع روسيا ويبقى في صورة النمر الحقيقي أمام الجمهور) فإنه غالباً سيجلب لنفسه ولشعبه عقوبات أخرى أشد هذه المرة، بل ربما يشجع الموقف الأمريكي الجديد الأوربيين فيفرضون بدورهم على أردوغان (الذي أزعجهم كثيراً بابتزازاته وتهديداته) عقوباتهم في آذار مارس المقبل، ما سيؤدي إل انهيار الوضع الاقتصادي المتردي أساساً. ولهذا سمعناه في الأيام الماضية وقد ليّن من لهجته تجاه كل من أوربا وإدارة بايدن (خصوصاً بشأن المتوسط وقبرص واليونان) تمهيداً لاتخاذ خطوات نحو الخلف خلال الفترة القادمة. 
    في النتيجة، إذا تقدمتَ أيها الرئيس إلى الأمام فأمامك حافة، وإذا عدت إلى الخلف فوراءك حافة أخرى، وكلتاهما من صنع يديك، فعلى أي حافتيك تميل؟. إن من يلعب مع الكبار لعبة “حافة الهاوية” ولا يحسب حساباً ليوم الهوى في الهاوية سيسقط يوماً في تلك الهاوية دون أن يدري ما هي.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…