د. محمود عباس
إدارة دونالد ترمب من بين أكثر الإدارات في البيت الأبيض مثيرا للجدل والنقاشات، والخلافات السياسية، وأول مرة في تاريخ أمريكا يتم فيها وصف الرئيس بتدني مستوى لغة الحوار والخلفية الثقافية؛ وفي المعرفة العامة خاصة في مجالي التاريخ والسياسة، ويقال إن جميع كتبه، كتبت له، ومشاركته كانت بعرض الأفكار الرئيسة، أو ما يجب الكتابة فيه. مع ذلك أتبعه شريحة واسعة من الأمريكيين العنصريين الذين كانوا قد تم كتم أصواتهم بعد التعديل الدستوري في قانون الرق، بداية الستينات؛ بعد اغتيال كل من الرئيس الأمريكي جون كيندي وممثل حركة حقوق الإنسان والدفاع عن السود مارتن لوثر كينك.
مسافات زمنية وأبعاد استراتيجية ستفصل ما بين دونالد ترمب وجوزيف بايدن، الرئيس السابق والقادم، في الاستراتيجيتين الداخلية والخارجية، ومن ضمنها المسألة الكوردية. فمن المتوقع، حال تمكن الديمقراطيين التحكم بمجلسي النواب والشيوخ، أن يتم إزالة الكثير مما فعله ترمب خلال السنوات الأربع الماضية، كقانون النافتا الاقتصادي بينها وبين كندا والمكسيك، ومثلها العلاقات الجمركية مع الصين، وأوروبا، وقضية بناء الجدار الفاصل بين أمريكا والمكسيك، ومعالجة قرابة 12 مليون مهاجر يعيشون في أمريكا بدون إقامة رسمية، والتي أوقف إدارة ترمب النظر فيها، وحاول إعادتهم إلى دولهم، رغم أن بعضهم كونوا عائلات على مدى العقود الماضية. ومثلها قضية التأمين الصحي، المسمى تحت أسم أوباما، التي حاول ترمب إيجاد بديله، وغيرها من قضايا التأمين المتعلقة بالمتقاعدين والعائلات ذوي الدخل المتدني. وكذلك إعادة النظر في توزيع الميزانية بين الوزارات، الدفاع والثقافة والصحة، وتصليح البنية التحتية لأمريكا، وغيرها من محاور الخلافات بين الحزبين الحاكمين، المرتبطة بإشكاليات زيادة الضرائب على المجتمع أو تخفيضه. وبالمناسبة كنت وعائلتي نربح في هذا المجال تحت قوانين إدارة ترمب، وبالمقابل كنا نخسر في مجال التأمين الصحي. وهذه يمكن أن تساق على معظم الواقع الأمريكي المعيشي، ولا ننسى طرق مواجهة مرض الكورونا والتي كانت من أهم عوامل نجاح بايدن وخسارة ترمب.
لا شك كل هذا لا تهم دول وشعوب العالم المرتبطة بالسياسة الخارجية الأمريكية، والتي تتأثر باستراتيجيتها سلبا أو إيجابا، وليس صحيحا أن إدارة البيت الأبيض لا تملك إمكانيات التغيير في المعادلات الخارجية كثيرا، بل يمكن القول أن كل الإدارات تبحث عن مصالح أمريكا، لكن كل منها ترى تكتيكا مخالفا للأخر في العلاقات الدبلوماسية والاقتصادية والحضور العسكري لتوسيع مصالحها، وقد تبين لجميع المحللين السياسيين والاقتصاديين أن دونالد ترمب وجد المصلحة الأمريكية في البعد الاقتصادي حصرا، وكان من المتوقع جدا نجاحه ثانية على خلفيتها، وعليه ألغى منطق التمييز بين الصديق والعدو؛ الجدلية التي انعدمت في حضور الربح والخسارة، وعلى أثرها كانت مواقفه من القواعد العسكرية في المحيطات وعلى جغرافية العديد من الدول، مثيرة للجدل، عرضها كمشاريع خاسرة، وعلى أثرها بدأت مسيرة القضاء على أمريكا كإمبراطورية مترامية وذات أبعاد متنوعة، وتم وضع خيارات أمام دول كاليابان وألمانيا والخليج العربي، ودول حلف الناتو، إما دفع تكاليف تلك القواعد أو سحبها من أراضيهم، أي بما معناه لا حماية بدون مقابل.
وعلى المنطق ذاته، ركز منذ قرابة السنتين على سحب قواته من أفغانستان والعراق وسوريا، وقد قالها بشكل واضح أنها عمليات خاسرة، والجميع يتذكر عندما قال: لا توجد في سوريا غير الرمال، ولهذا عندما تم التراجع عن سحب جنوده من شرق الفرات وإعادتهم، ربطها بعملية حماية النفط، ولا يستبعد أن تكون الصفقة التي وقعت؛ ولا تزال في بعدها النظري ما بين الإدارة الذاتية وشركة النفط الأمريكية، درست في إدارته من بعدي الربح والخسارة الاقتصادية وليست على خلفية الهيمنة الأمريكية في المنطقة، ومثلها عملية التغاضي عن الاجتياح التركي لسوريا، كانت صفقة مبنية على تراجع تركيا عن مسيرة شراء صواريخ س 400 الروسية، بعدما عرض بديلها (صواريخ باتريوت) المرفوضة من قبل إدارة أوباما.
أما القضية الكوردية حتى قرابة السنتين الماضيتين؛ كانت من الحلقات الأضعف في الاستراتيجيتين الأمريكية والروسية في الشرق الأوسط، لكنها بدأت تصعد لتتصدر الكثير، ليس لأن الكورد فرضوا ذاتهم على الساحة من خلال محاربة الإرهاب الداعشي، وهم لا زالوا مشتتين سياسيا، ومهملين دبلوماسيا، بل بسبب الخلافات المتصاعدة بين الدولتين والدول الإقليمية، ومحاولات الأخيرة فرض ذاتهم وقراراتهم على المنطقة، وخاصة إيران وتركيا، بعدما حصلتا على بعض التكنلوجيا العسكرية، إلى درجة قدموا على مواجهة مصالح وإستراتيجية الدولتين، وعليه توجهت أنظار أمريكا وروسيا والدول الأوروبية إلى القضية الكوردية وترجيحها في هذه المعادلة، كورقة ضغط حتى الأن.
لم تهتم إدارة ترمب بالقضية الكوردية على مستوى الأحداث، وقد تضاءل كثيرا مقارنة بما كان يقدمه إدارة أوباما البادئ مع إستراتيجية القضاء على دولة داعش، بعدما لم يجدوا غير الكورد أدوات لأداء المهمة على الأرض. نتذكر كيف حاولوا مع المعارضة العربية السورية في تركيا والأردن وخسارتها الشنيعة في المحاولتين، وانضمامهما إلى المنظمتين الإرهابيتين النصرة وداعش، ويتوقع بعض المحللين الأمريكيين أنها جرت على خلفية الضغط التركي والإيراني على أطراف المعارضة السورية وعلى داعش. حينها كنا في المجلس الوطني الكوردستاني-واشنطن، نتحاور وبمساعدة جهات بعض المسؤولين في الكونغرس والبيت الأبيض، على مشروع متكامل قدمناه عن جنوب غرب كوردستان، أي المنطقة الكوردية في سوريا، وضمنها المحورين الجغرافي والاقتصادي للمنطقة، وعلى أثرها تم إصدار الجغرافية التي تمتد حتى المتوسط، بناء على الديمغرافية الكوردية، وتم الاتفاق على المشروع الفيدرالي للمنطقة تحت سلطة لا مركزية لسوريا المستقبل، بدون سلطة بشار الأسد.
وفي المرحلة التي بدأت دول التحالف قصف قوات داعش في كوباني، كان الحوار والموافقة على المشروع منتهيا، وأستمر العمل عليه، وعلى أثرها شاهدنا نشر خرائط عن المنطقة الكوردية مفتوحة على البحر الأبيض المتوسط، وكان للروس علما بذلك، تم إهماله في عهد إدارة ترمب، وهو ما فتح الأبواب لتركيا بالطعن فيه، وتنازلاتها لروسيا على حساب المعارضة السورية، كانت من أجل خرق المشروع، وسهل له النجاح على خلفيتين: الأول ترجيح إدارة ترمب المصلحة الأمريكية معها ومع بعض الدول العربية. وثانيها سياسة الإدارة الذاتية التي حصرت في يد الـ ب ي د المرفوضة تركيا، والتي تمكنت من إقناع إدارة ترمب. علما أن محاولات على توسيع الإدارة من قبل بعض المؤسسات الأمريكية كوزارة الدفاع وبعض مسؤولي ا لخارجية جرت للحد من التدخل التركي، إلا أن الإشكالية لم تنجح حينها، بل ولا تزال متلكئة، والأطراف الكوردية تختلق الحجج الواهية، وعليه لا زالوا دون نتيجة مقنعة للشارع الكوردي ولا لأمريكا.
من المرجح وعلى خلفية ما يصدر من الإدارة القادمة، إعادة استراتيجية أوباما في الشرق الأوسط، مع بعض التعديلات التي قد تطال التجاوزات الإيرانية في المنطقة؛ وخاصة مصالح إسرائيل وأمنها، مع تحذير قد تكون على سويات عليا لأردوغان وتطاولاته على المنطقة، ومن ضمنها على جنوب غرب كوردستان حيث مصالح أمريكا في المنطقة، وهي خط حماية لأمن إسرائيل من إيران، ولهذا من المتوقع أن يتم إحياء المشروع القديم، أي النظام الفيدرالي مع اللا مركزية لسوريا، حتى ولو كانت في كثيره مرتبطة بمدى التوافق الكوردي- الكوردي، وتشكيل هيئات تمثل الشعب وليست أطراف حزبية.
من الأهمية ذكره أن تركيا وسلطة بشار الأسد منتبهتان لهذه المعادلة، ومثلهم روسيا، ولهذا دعت تركيا ممثلي جبهة السلام والحرية إلى تركيا متكفلة بمصاريف جولاتهم وإقامتهم، وفاتحة الأبواب لهم لعقد اللقاءات مع ممثلي أمريكا وروسيا والمعارضة السورية، في أنقرة وإستانبول، ومن ثم مع ممثلي القنصلية الفرنسية رغم التصعيد السياسي والإعلامي بينهما. وقد تكون بادرة سياسية ودبلوماسية ناجحة لفتح أبواب الحوارات بين تركيا والإدارة الذاتية، شرط ألا تكون الغاية منها: أولا، محاولة التحكم بمجريات المفاوضات الكوردية-الكوردية. ثانيا، لتظهر ذاتها للدول المعنية، أن ما سيتم في المنطقة الكوردية يجب أن تمر من خلالها، أي أنها تتحكم بأمور المنطقة. ومثلها، وبأسلوب أخر، أقدمت سلطة بشار الأسد على بث تهديدات مباشرة للإدارة الذاتية، كالتي تمت على لسان مستشارة الرئيس الجديدة، لونا الشبل قائلة: “رجال العز والوطن الجيش الباسل تحرير القامشلي من دواعش الداخل حان…”.
ذكر البعض من كتابنا الكورد أن أمريكا ليست العصى السحرية، وأنها لن تتخلى عن مصالحها الكبرى مع بعض الدول الإقليمية من أجل القضية الكوردية، كما وأننا نحن الكورد لسنا بسوية الوعي أو الإمكانيات الدبلوماسية في صب مصلحتنا في مجريات مصالح أمريكا أو روسيا، خاصة ونحن على خصام وتشتت، ونبدع في حجج الصراع الداخلي، إلا أن تجارب التاريخ تثبت أن العديد من الإمبراطوريات تخلت عن ممالك وإمارات لصالح شعوب أو حركات ضعيفة، عندما وجدت مصالحها تتعرض إلى الخطر على خلفية عنجهية تلك الممالك، وكما نرى أن تركيا، وسلطة بشار الأسد وبمساعدة روسيا، وإيران، يعرضون مصالح أمريكا وروسيا إلى خطر مؤكد، فلمرات عدة صرحت الدولتان الإقليميتان أن قوتهما العسكرية أصبحت كافية لمواجهة أوروبا، أو لأية جهة تعترض طريقهما عند البحث عن السيادة في المنطقة.
وبالتالي هنا نحن أمام معادلتين سهلتين حلهما: التشتت الداخلي وتحت أية ذريعة تعني نهايتنا. والثانية أن إدارة البيت الأبيض القادمة، تحت سيادة جو بايدن وكاميلا هاريس، قد يقدمان لنا ما لا نتوقعه، إلى درجة الحوار مع روسيا سيكون على النظام الفيدرالي للمنطقة الكوردية ومن ضمنها عفرين، وقد تعاد النظر في قضية الاستفتاء في جنوب كوردستان، وحتى في المناطق المتنازعة عليها، ولكن هل نحن جاهزون لهذه الخطوة المتوقعة؟
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
15/11/2020م