مأمون فندي
ما إن يهدأ غبار الانتخابات الأميركية إلا ويكون جو بايدن هو الرئيس السادس والأربعين للولايات المتحدة، والسؤال في منطقتنا العربية هو: هل سيكون جو بايدن امتداداً لباراك أوباما وسياسته في المنطقة أم أنه سيكون شخصاً مختلفاً؟ بدايةً أُتيحت لي فرصة لقاء جو بايدن أكثر من مرة في إطار جلسات استشارية جمعتني وأكاديمياً آخر بدعوة من مكتبه لرفع مستوى إلمامه ببعض تفاصيل قضايا الشرق الأوسط، وكان الرجل بالفعل ملماً بالكثير من المحركات الأساسية للسياسة في دول الشرق الأوسط، وربما كان ذلك نتيجة خبرته بصفته رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ والذي يَرِد أمامه كثير من القضايا العالمية ومن ضمنها منطقتنا.
في هذه اللقاءات كان جو بايدن يسأل الأسئلة الصعبة التي تنمّ عن عقل يريد أن يعرف ومع ذلك كانت له آراء واضحة تصل إلى حد القناعة التي يصعب زحزحتها. ولكن يبقى انطباعي أن الرجل لديه نهم للمعرفة ورغبة في التعلم، ولكنه مثاليٌّ في فهمه للعالم لدرجة يمكن وصفه بأنه ولسونيان (نسبة إلى الرئيس الأميركي وودرو ولسون). وكان ذلك واضحاً من موقفه من سلوبودان ميلوسيفيتش وضغطه أيامها على الرئيس بيل كيلنتون للتدخل ضد سياسة التطهير العرقي في البوسنة. كان جو أيامها رئيساً للجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ.
يختلف جو بايدن كثيراً عن باراك أوباما في فهمه للعالم عموماً وللشرق الأوسط خصوصاً.
جو بايدن يرى لأميركا دوراً قيادياً مبنياً على تحالفات تكون فيها الولايات المتحدة على رأس الطاولة، كما جاء في مقاله الأخير بمجلة «فورين أفيرز» التي تصدر عن مجلس العلاقات الخارجية الأميركي بنيويورك.
بينما اهتم الرئيس دونالد ترمب بالتطبيع العربي الإسرائيلي من ناحية وفرض عقوبات على إيران من ناحية أخرى، أي ينظر إلى المنطقة من العدسة الإسرائيلية، نجد أن بايدن لديه منظور أشمل فيما يخص الأمن الإقليمي، ومنها سنجد تركيزاً لدى إدارة بايدن على النظر إلى المنطقة من منظور الملف النووي الإيراني كتهديد أكبر للاستقرار في الإقليم، ومن هنا تكون إيران وليس إسرائيل هي الأولوية.
وهذا لا يعني أن بايدن سيتخلى عن السلام العربي الإسرائيلي، ولكنه سيستخدم الملف النووي الإيراني للعودة بأميركا إلى تحالفاتها الدولية من خلال مجموعة الخمسة زائد واحد، أي الدول الخمس الكبرى في مجلس الأمن مضافة إليها ألمانيا، أو ما يسميه الأوروبيون ثلاثة أوروبيين زائد ثلاثة. وتلك هي أهمية الملف الإيراني الذي يخلق من حوله حواراً دولياً يأخذنا مرة أخرى إلى دور أميركي رائد في قضايا العالم الملحّة.
في إحدى الجلسات وعندما كان بايدن رئيساً للجنة العلاقات الخارجية بمجلس الشيوخ طرح مفهوماً جديراً بالتأمل فيما يخص الشرق الأوسط وهو مفهوم يعتمد على ثنائية السلام كمنظور للأمن الإقليمي، والإصلاح كمفهوم يخص توسيع المشاركة داخل الدولة الواحدة في الشرق الأوسط. وظنّي أن هذه الفكرة الجوهرية التي كان يتبناها قبل ظهور الملف الإيراني على السطح تظل باقية في ذهنه، ولذلك يجب أن نتوقع أن ملف الديمقراطية وحقوق الإنسان سيكون أولوية في نظرة بايدن للشرق الأوسط وسيدفع باتجاهها بقوة لم نعرفها من قبل. فرغم أن بايدن يبدو هادئاً مع تقدمه في العمر فإنه شخصية شديدة الحماس فيما يخص ما يعتقده صواباً، لا يترك أمراً إلا وينهيه.
إضافة إلى الديمقراطية وحقوق الإنسان سنجد بايدن أيضاً شديد الحماس في قضايا تمكين المرأة خصوصاً من خلال نائبته كاملة هاريس، كما تنطق هي اسمها، والتي تهتم بقضايا الأقليات، فهي امرأة وسمراء وآسيوية من أصول هندية ومتزوجة من رجل يهودي فلديها تقريباً كل الحساسيات الخاصة بالأقليات.
ومع ذلك فنائب الرئيس يبقى في الظل، فالرئيس هو الرجل الأول، وكما كان بايدن بالنسبة لأوباما، تكون كاملة بالنسبة لبايدن.
هذه بعض ملامح سياسية أولية عن جو بايدن، ولكن بايدن الرئيس سيكون غير بايدن عضو مجلس الشيوخ أو نائب الرئيس. بايدن الرئيس سيكون مفاجئاً في قوة حجته وأحاديثه، وسيتحدث كثيراً وربما يخطئ كثيراً ولكنه يرى نفسه في مصافّ زعماء مثل الرئيس فرانكلين روزفلت، زعيماً يريد أن يغيّر وجه أميركا داخلياً وحول العالم.
لم يتصور أكثر المراقبين لجو بايدن أنه يمكن وفي يوم من الأيام أن يصبح رئيساً للولايات المتحدة، كان البعض يتصور أن آخر سقف جو بايدن هو نائب للرئيس، لذا لم يحظَ بما يمكن تسميتها عقيدة بايدن (Biden Doctrine). والحقيقة أن هناك ما يمكن تسميتها «عقيدة بايدن»، فهو رجل ينتمي إلى المدرسة الواقعية في السياسة بمثالية ولسونية. الفارق بينه وبين أوباما هو أن بايدن يحسب ثلاث خطوات ما بعد القرار، ولا يستخدم القوة في الحرب إلا بشكل هائل يبهر العدو مع استراتيجية خروج واضحة وتحسب لما يدور حوله، وهو في هذا أقرب إلى جورج بوش الأب منه إلى أوباما.
ولكي تعرف بايدن لا بد أن يكون لديك صبر لمعرفة قصصه الشخصية وعلاقتها برؤيته لأميركا والعالم، فغالباً ما يبدأ حديثه بـ«قال لي أبي: يا جو أنت تستطيع أن تغيِّر العالم ولكن لا بد أن تتمسك بإيمانك»، وهذه عبارة تجدها في أحاديثه الأخيرة وتويتاته، ويقول: «قال لي أبي: إذا كنت تتحسب لذئب خارج الباب فلا بد أن تعرف أن هناك ذئاباً أخرى في المحيط القريب». الإيمان والحذر واستخدام القوة بشكل كاسح هو ما يشكّل عقل ثاني رئيس أميركي كاثوليكي، وهو عقل يختلف عن عقل أوباما.
قد يفاجأ العالم بالاختلاف الشاسع بين جو بايدن وبارك أوباما. عندما يتملك بايدن زمام أموره ويصبح رئيساً للولايات المتحدة.
العلاقات الدولية بالنسبة لجو بايدن هي علاقات شخصية في المقام الأول فإذا استحسن بايدن أحد القادة انعكس ذلك على علاقة البلدين، وهو في ذلك غير أوباما الذي كانت تتسم علاقاته بالقادة بشيء من البروتوكول والأدب ولكنها كانت دوماً علاقات باردة.
لا أظن مثلاً أن بايدن سيكون صديقاً لنتنياهو، كما كان الحال مع ترمب أو باراك أوباما. بايدن لن يستسيغ نتنياهو، فكلاهما لديه إيغو (ego) أو غرور شخصي لا تتسع له غرفة، ونتنياهو يتمتع بما يسميه المصريون «الجَلْيَطة» السياسية (التذاكي الفج) وهذا لن يروق لبايدن أبداً. لا بد لنتنياهو أن يتخلى عن غروره وتصوير نفسه على أنه يعرف مصلحة أميركا أكثر من الأميركان حتى يمكنه التعامل مع بايدن.
هناك الكثير الذي يمكن كتابته عن عقيدة بايدن وتبعاتها على منطقتنا، ولكن لضيق المساحة المخصصة للمقال، سأترك البقية لمقال قادم، ولكن الخلاصة هي أن بايدن ليس امتداداً لأوباما، فهو رجل مختلف تماماً.
———
الشرق الأوسط