سوريو الاوطان البديلة

حواس محمود
 
بعد ان تم استخدام العنف الجنوني الأعمى ضد الشعب السوري وثورته من أجل الكرامة والحياة الحرة الكريمة من قبل النظام السوري ولجأ الشعب وقواه الحرة لحمل السلاح ، اضطر قسم كبير من الشعب السوري للهجرة الى دول الجوار ودول أوربا وأمريكا وكذلك أستراليا وباقي دول العالم .
منذ تلك اللحظة لم يتبق للسوريين وطن آمن مستقر ، أصبح المواطن في الداخل يعيش الموت اليومي والقتل المجاني بالبراميل الحارقة وحصار الموت والتجويع ، وغلاء المواد وفقدانها والتلوث البيئي والأوبئة والأمراض العديدة ، بحيث تحولت حياته الى أشبه ما يكون بجهنم حمراء وكأنه قد كتب على جبين السوري ان يتلقى عذاب جهنم قبل ان يرحل للعالم الآخر .
وباتت كل المناطق على نفس الحال بحيث لا تجد بقعة سورية يمكن لك او لأفراد عائلتك كسوريين ان تعيشوا حياة اعتيادية ولا نقول هانئة ومريحة ، وباتت كل المناطق تعيش حالة التمزق ، بعد أن تلاشت اسطورة الجيش الذي لا يقهر ، وأسطورة الدولة القوية المستقرة ، اذ تحولت الى ممالك حربية متنازعة ومتصارعة وكأن سوريا البلد الجميل مقدر لها ان تخوض هذه المعمعة الجهنمية وحرب المصالح المقيتة بدماء ابنائها ودموع ذويهم وحسرات الأمهات الثكلى والآباء المفجوعين بخيرة شبابهم الذين كانت كل احلامهم ان يكبر هؤلاء كأطباء ومهندسين ومعلمين ومثقفين يبنون وطنهم ويعلون من شأنه لا أن يحرقوا بنيران الجلاد لأنهم طالبوا بالحرية والكرامة .
هذا بالنسبة للداخل الممزق الذي التقت عليه كل الارادات الدولية والإقليمية لتحويله الى خريطة ممزقة مشتتة ، ويخاض عليه حرب الوكالة المزمن الى إشعار غير مسمى .
أما الخارج حيث المغتربات والمنفى الاضطراري والتوق الى الوطن والذكريات والأهل والحنين إلى الاماكن الاثيرة وكل ما يشد ذاكرة سوريي المغتربات هذه ، فهو موضع اهتمامهم وأحلامهم وامنياتهم المستقبلية
يبدأ السوري يلملم اوراقه وجهوده وأوقاته ليندمج ولو قليلا في المجتمعات الاوروبية والأمريكية يعاني صعوبات جمة في عملية الاندماج الصعبة والشاقة ومعه أطفال صغار تتخالط الاساليب التربوية وهو قد لا تسعفه ثقافته التربوية في اجراء عملية التكيف الايجابي مع هذه المجتمعات لكنه ماذا يعمل ؟ وقد أجبرته ظروف الحرب والتجويع الممنهجة والحصار وانقطاع أطفاله عن التعلم ماذا سيفعل وهو قد ترك أعز اصحابه في الوطن الام ، الوطن الذي لا زال يصارع آلام الاستبداد الناتجة عن خدعة في التاريخ المعاصر وهو مقاومة اسرائيل واسترجاع الارض العربية ( وقد انكشفت كل أوراقه وآخرها البيع النهائي للجولان وتسليم رفات الجاسوس كوهين ) ، في حين خسر الوطن السوري الجميل اعز ابنائه والباقي الى المنافي والتشرد والعذابات ولا زالت الاراضي السورية محتلة من اسرائيل وإسرائل أضحت اقوى دولة في منطقة الشرق الاوسط والدول العربية ممزقة مشتتة تنهشها الحروب الداخلية والمنازعات والعنف والتطرف والاستبداد والفساد والامراض والجوع والاوبئة ونقص التعليم والرعاية الصحية .. الخ
الآن ونحن كسوريين نعيش في المنافي البعيدة عن الوطن الأم ، ما أحرانا أن نؤسس لوطن أو أو طان بديلة ، وكيف يكون ذلك ، لا أعتقد أن الوطن الذي استحكم فيه حاكم مستبد وجلاد فظيع وقف العالم كله يؤيده في حفلات الدم وأعراس القتل اليومي بكل انواع الاسلحة الفتاكة في العالم من الكيماوي الى المدافع الى البراميل المتفجرة – وهو على فكرة اختراع النظام السوري ومبارك له من قبل العالم دون خجل – أقول لا اعتقد ان يكون هذا الوطن الأسير يصلح لشعب يريد ان يعيش حرا سيدا مستقلا على الاقل في الفترة الراهنة والمدى القريب ، فهذا الوطن يحتاج حتما لمن يحرره من قبضة الجلاد لكن والعالم صامت أخرس يذهب بعيدا بحججه وألاعيبه الى حيث لا الم سوري ولا معاناة ولا تشرد ولا لاجئين ، وإنما هناك ارهاب نعم ارهاب غير ارهاب النظام وسفكه لدماء السوريين وتشريدهم الى اقاصي بلاد العالم ، نعم هذه هي نظرة العالم الى نزيفنا المستمر الى لا نهاية
الاوطان البديلة تعني ان تلتقي ارواح السوريين لتتحدث عن الذكريات والآلام والأحلام وتسرد مآسي الماضي واليوم ، وتبحث عن مستقبل يجمعهم في بلدهم الأم بعدما يعودون ان كانوا يستطيعون ذلك بعد ان يرتبط اولادهم بالمدارس والجامعات وميادين العمل ومجالات العلم والمعرفة .
الوطن هو خزان ذكرياتك التي تحملها وأنت طريد استبداد مقيت مميت ، هو الخروج من جغرافيا القمع والعسف والسجون المغلقة والمفتوحة الى فضاءات غريبة الجغرافيا غريبة السكان غريبة اللغات ، لكنها تتيح لك ان تحيا بلغتك وتعش انسانيتك وتتواصل مع من تريد حتى بأقصى بقاع الارض وتسافر بكل حرية كل بقاع الأرض إلا بلدك الوطن / المنفى وكما يقول الشاعر الكبير المرحوم محمود درويش ” ما هو الوطن ؟ أن تحتفظ بذاكرتك – هذا هو الوطن ” وهنا يأخذنا درويش لكي تطلق عنان عقلك لفهم الوطن فالوطن هنا هو قضية فكرية وعامل صبر وإصرار ، فذاكرتك هي الوقود للوصول الى الوطن ، أما وقد اجتمع عليه كثيرون في تعريف الوطن فهو أي مكان يتيح لك قول رأيك ويعطيك حريتك فهو وطنك ، هذا ما أشار اليه إدوارد سعيد يوما ، فهو حين يجيب عن السؤال ( هل تشعر ان لك بيتا ) يقول ” في فكرة الوطن مبالغة وفي فكرة ( أرض الوطن ) كثير من العاطفية بشكل لا يروق لي البتة ” ويضيف موضحا ” التجوال هو ما أفضل فعله في الحياة ” ، ” إنه يقاوم العودة إلى الأماكن التي ترعرع فيها ” في الشرق الاوسط
حقيقة الأمر أن إدوارد سعيد يدخلنا إلى النقطة الأبعد في تعريف الوطن وهي عندما يصبح المنفى وطنا ، فإن تنفس هواء الحرية الفكرية وإطلاق العنان للقدرة الشخصية في تحديد الخيارات دون العودة للعقلية الجمعية والإنفراد في تحديد مكامن الخلل في المجتمع دون الترويّ للنظر فيما يقول المجموع السائد ذلك يكون الوطن فحرية الفكر وطن وإن كانت في ارض غير أرضك – موقع تأبط حرفا مقال بعنوان ” في تعريف الوطن والمنفى “
ان الحرية الشخصية عندما تحاصر وتقمع ، وعندما يمنع الانسان من ابداء الرأي المستقل ، وعندما تصبح الفردية الفكرية كفرا في الوطن وعندما تقود الثقافة الجمعية كل الآراء غير آبهة بها ، عندما يجد الإنسان انه مكبّل التفكير والإرادة فإنه يصبح غير قادر على التأقلم مع هذا الذي يسمونه وطنا يصبح غريبا حتى عن أهله يصبح بعيدا جدا عن تيارات الوطن التي يراها أنها تيارات تقودها قوى كقطيع لا رأي لهم ( وظلم ذوي القربى أشد مضاضة ,,, على المرء من وقع الحسام المهند – طرفة بن العبد ) ، هنا فإن المنفى الذي يعطيك كل ما حرمك منه الوطن هو الوطن – مصدر سابق مذكور تأبط حرفا
وفي الختام أقول: عسانا نحن السوريون أن نشكل اوطانا بديلة تتشكل من قلوبنا وعقولنا ، نفوسنا وذكرياتنا عن أماكننا الاصلية وقصص عشقنا وحبنا وعلاقاتنا الاجتماعية في بلداننا الأصلية ، طبيعتنا ، مضايفنا وجلساتنا وقهوتنا ، وشاينا المشروب على الأرصفة ، دكاكين اسواقنا وحوانيتها، اوقاتنا الجميلة ، أشجارنا ، حدائقنا ، شوارعنا ، اعراسنا ، تقاليدنا، زياراتنا لأهلنا الذين تركناهم واشتياقنا لهم ، وحوارينا الجميلة أطفالنا وهم كانوا يلعبون في ساحات وزواريب قرانا ومدننا ، وكل هذه الذكريات وغيرها الكثير ، لنشكل اوطاننا البديلة في منافينا المعاصرة بتلاقينا وتوادنا ومحبتنا لبعضنا البعض ، فالأوطان ليست جغرافية وحسب ، الأوطان حريات ، الاوطان كرامات الناس وأمنهم وتطورهم وحرصهم وارتباطهم بأرضهم ومؤسساتهم التي تحميهم ، فهذه الفظاعات والإبادات والهجرات والحروب الداخلية ، كلها قد تم تدشينها بعد خمسين عاما من الجعجعة والهوبرة والصراخ في الفراغ حول الجغرافيا والعزة القومية الشعاراتية المزعومة بتحرير فلسطين والأراضي العربية المحتلة ، ها قد بقيت فلسطين وشعبها في المحنة كما هي وشعوبنا أبيدت وقتلت وتدمرت بنى اوطاننا الداخلية التي بنيت بدما ئنا ومالنا ودموعنا وعرقنا وجهودنا ووقتنا وآلامنا وفقرنا وبؤسنا ، ليضاف اليها بؤسنا الراهن لتندلق الأوطان وتكب شعوبها الى خارج عنق الزجاجة الموبوءة عسفا قمعا واضطهادا وسجونا وزنازين وعتمة وظلاما يفوق عتمة وظلام القرون الوسطى ، لتكبهم على حدود وبوابات وغابات ومجاهيل العالم !، نعم فلنفتح قلوبنا وعقولنا كسوريين بمكوناتنا المختلفة ولننشأ اوطانا بديلة بأرواحنا المتناثرة لتجتمع وتتلاقى وتتعانق على المحبة والخير والثقافة والفكر والمشاعر النبيلة لنبني بها هذه الأوطان ، عسانا ننتقل بها الى وطننا الام الاصلي لنعود لبنائه من جديد دون قمع او فساد او ضيم او قهر او خنوع ،أو تشتت ، لنبني وطن الديموقراطية واحترام كرامة الانسان وطن الحريات والتعددية والمواطنة السليمة.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…