جان كورد
لعب الكورد دوراً أساسياً وهاماً في تاريخ هذه البلاد في العهد الأيوبي الذي دام لأكثر من قرنٍ من الزمن، في أحلك ظروف الاحتلال الصليبي و غزوات الأقوام التركية، بل منذ عهد الميتانيين، وهذا ما يحاول العروبيون العنصريون من قامات المعارضة “الوطنية!” السورية طمسه والتنكّر له مع الأسف، لذا فلنقل ونحن صادقون بأنهم لعبوا ذات الدور الريادي الكبير منذ تأسيس الدولة السورية بتجميع الفرنسيين لدويلاتٍ عديدة وبرسم خريطة لم تكن سوى أجزاء من تركة الرجل العثماني المريض، فهل نسي هؤلاء العنصريون تماماً أن زعماء سوريا عندما رفعوا طلبهم إلى عصبة الأمم للسماح لهم بإقامة الكيان السوري قد حددوا حدها الشمالي بنهر الفرات وليس بنهر دجلة؟ أم أنهم يعلمون ذلك ويتهرّبون من حقائق التاريخ؟ فمن هم رؤساء سوريا، سواءً تحت الانتداب الفرنسي أو في عهد الاستقلال، أليس منهم ستة رؤساء كورد ورؤساء وزراء يعرفهم كل سوري غير ناكرٍ للماضي الواضح مرآه كالشمس في السماء؟
واليوم بعد سنوات الحرب الضروس الطاحنة، يظهر الوجود الكوردي على الساحة السورية مجدداً، ليعيد رسم السياسات ويوضّح معالم الطريق صوب مستقبلٍ في الحرية والديموقراطية، بعد أن حاول المحتلون الجدد طمس أفكار المجتمع السليم بشعاراتٍ متطرّفة وحلولٍ إرهابية وطنطناتٍ اشبه بدنين النحل الفاشي والنازي في آذان الشعب السوري، يمجّها السوريون بمختلف مكوناتهم واتجاهاتهم السياسية وتطورهم الذهني والحياتي، وظهور الوجود الكوردي إلى الضياء لا يعني أنه وُلد الآن كما يزعم أنصار الطورانية ومرتزقتها من زعماء المعارضة التي تدور في فلك الاحتلال، بل لأن كل قوى الطغيان والتعريب والتنكّر للكورد وحقهم القومي لم يستطيعوا جرّ هذا الشعب إلى مستنقع الإرهاب والتطرّف، فظل يقاوم بالسياسة والسلاح، بالعزم في استمرار الكفاح، من أجل الحفاظ على وجوده، ومن أجل متابعة النضال في سبيل جمهورية سورية حديثة، حرة وديموقراطية، تضمن للكورد أيضاً، كما لكل المكونات الأخرى، حق البقاء والحياة الكريمة والتمتّع بحقوقهم القومية والثقافية، فهذا كان شأن الحراك الوطني، الثقافي – السياسي لعموم الشعب الكوردي…
نعم، كان ثمة صراع دائم الحضور ضمن هذا الحراك الكوردي، إلاّ أن جميع المساهمين في استمراره، كانوا ولا زالوا متفقين على أمر أساسي لا جدال حوله، ألا وهو: إعادة بناء سوريا كدولة حرة، ذات سيادة وطنية، ديموقراطية، مؤمنة بحق كل مواطنيها في المساواة والعدالة والحرية وتطوير الذات، ومؤمنة بالحق القومي في تقرير المصير للشعب الكوردي الذي يشكّل المكون الثاني في الحجم والانتشار إلى جانب المكون العربي الكبير. فلا يمكن الزعم بأن بعض القوى الكوردية تؤمن وتعمل من أجل مبادىء الحرية والديموقراطية في حين تقف بعضها في خندق الإرهاب والعداء للحريات والتعايش والتآخي. فالكورد مجبولون عبر تاريخهم العريق بقبول الآخر، حتى ذاك الذي لا يقبل بهم، وها هو التاريخ بين أيدي الجميع بفضل التطور التكنولوجي الحديث فليراجعوه ويدرسوه بعد رفع الغشاوة العنصرية البغيضة عن عيونهم المرهقة.
فماذا يعني عودة الكورد للحياة السياسية السورية بعد أن أرغمتهم النظرية العروبية الفاسدة على البقاء سجناءً بلا حقوق عقوداً طويلة من الزمن؟
نعم، عاد الكورد مجدداً لأنهم كافحوا ضد التشرذم والطائفية والتسلّط الدكتاتوري على المجتمع السوري، وكانوا رأس الحربة الكفاحية ضد اللاعدالة واللاديموقراطية والفساد وكبت الحريات منذ أن استولى البعثيون على الحكم وألغوا كل النشاطات الديموقراطية في البلاد في عام 1963، وقدم الكورد الكثير من التضحيات في سبيل حرية الشعب السوري، فهل يتذكّر المعارضون المتسكعون في شوارع أنقره الشاب الكوردي سليمان آدى والشيخ الجليل الخزنوي والسياسي الشهير مشعل التمو؟ أم أنهم لايعتبرون الكوردي الذي يسقط في ساحات الفداء من أجل “الوطن المشترك!” شهيداً من شهداء سوريا؟
عودة الكورد لها وقعٌ كبير على الحياة السياسية السورية لأنهم لا زالوا بعيدين عن التورّط في مستنقعات الإرهاب، بل حاربوه بقوة مما أذهل المجتمع الدولي وقاوموا التطرّف والمحاصصة المالية على فتات الخبز الذي ترميه بعض الجهات للمعارضات المختلفة الأسماء والأوصاف والرايات والارتباطات، وأثبتوا بأنهم مع الحوار المتمدّن بين سائر المكونات، بين السوريين وجيرانهم والقوى العالمية كلها، وفيما بينهم، بعد طول خصامٍ وجفاء. وبالتأكيد سيكون الكوردي عنصر بناءٍ وترابط وتعاونٍ لكافة السوريين، لأنهم يتميّزون بالترفّع عن الطائفية التي أنهكت الشعب السوري وتعمّقت من خلال تأجيج أعداء سوريا لها أثناء الحرب المشينة.
ربما يهاجم الجهلة العنصريون شعب الكورد لأنه أصبح قوياً وصار له أصدقاء على الصعيد الدولي، ومنهم من هاجم وألّف الروايات الكاذبة عن علاقات الكورد السوريين باسرائيل في الوقت الذي يزور زعماءهم العرب العتبات الاسرائيلية المقدسة في أرض المبعاد، وبأن الكورد إرهابيون بمقياس الطوراني الفاشي باغجلي الذي يطالب باحتلال حلب والموصل وكركوك، وطبول “العثمانية المتجددة” من أمثال ذلك الإعلامي الذي يمكن القول عنه بأنه “أكذب حمزة في التاريخ” ، إلاّ أن المستقبل سيظهر للعالم أن الكورد هم اسمنت البناء السوري في المستقبل القريب، وسيندم الذين حاربوهم وسعوا للقضاء عليهم والتنكّر لحقهم في تقرير مصيرهم بأنفسهم، بل استهزؤوا بهم وأطلقوا العيارات النارية الخلبية صوبهم لهدر كرامتهم وتقليل شأنهم في سوريا. وسيخجل الذين ساهموا في تدوين بيانات العداء لوحدة الصف الكوردي، فالأجيال السورية القادمة ستسخر من نذالتهم تلك.
ما أخافه على الكورد هو أن يصدّقوا أعداءهم التقليديين المتفقين فيما بينهم على تمزيق الصف الكوردي على الدوام وسعيهم لأن يظل الكوردي خارج ملعب السياسة الوطنية السورية، وأن يرتموا في أحضان القوى الاقليمية التي لا ترى لهم سوى مصير واحد: ألا وهو مصير العبيد.