إبراهيم اليوسف
لم يتعرَّض أي من أساليب- الكلمة- الشفاهية، والمدونة، للتمييع، والخلط، وسوء الاستخدام، كما النقد الذي بات يتحول إلى غطاء لأغراض خارج نصية، يتم إسقاطها من قبل ممارس المصطلح الذي يبتغي من خلاله: مدركاً أو غير مدرك الإساءة إلى سواه، وهو منتشر بكثرة في حياتنا اليومية، وباتت تتسرب إلى عالم الكتابة، كلما تم الابتعاد عن المعايير النقدية، بل والأخلاقية في ظل غياب الوعي وهيمنة الكراهية، وهوما بتنا نشهده سائراً نحو أعلى مستوياته، يوماً بعد آخر، وله أثر كارثي على علاقاتنا، وواقعنا، لاسيما في ظل تسيد الكثير من النتاج الملتبس بالنقد، في ذهنيتنا الممارسة، بل الذهنية المتحكمة بالسلوك، أو الشعور، ليس في إطار حياة أو مجموعة، وإنما في حياتنا شبه العامة، وهنا مكمن الخطورة!
لقد كان جدّ عادي، ونحن في مرحلة سبعينيات القرن الماضي، وعلى نحو أوضح، في مرحلة ثمانينيات القرن ذاته، أن نستقرىء تأثيرات سطوة حالة الضجر علينا، ومن خلال بعض من هم في إهاب النخبوية، وهكذا العوام، إذ كان من المألوف جداً أن يتم الحديث عن- ندوة ما- ثقافية، أو سياسية، ليظهر من بيننا من يقول، وقبل بدئها، سأحرج القائمين عليها. سأحرج المتكلمين. كل منهم- بحسب درجة مسؤوليته- أو حضوره في المشهد الثقافي، أو السياسي، ولقد كان جد مألوف قول بعضهم: لقد قال فلان كذا ورددت عليه كذا، وإذ بما يقول مجرد عبارة ممجوجة شفاهياً، تعلمها في المقهى، أو الحانة، أو من هيئته الحزبية- ناشرة الكراهية في مواجهة المختلف- ما شكل ثقافة بائسة، كريهة، ذات آثار خطيرة، ليس ضمن إطار زمني محدد، وإنما خارجه، أيضاً.
وإذا كانت تلك الثقافة لم تنتشر طولاً وعرضاً، عمودياً وأفقياً، بالرغم من آثارها الكبيرة، كحقول ألغام، إلا أنها أخذت- لاسيما في محطتي الثمانينيات وما بعد الثورة السورية أبعاداً أشد خطورة، بعد أن باتت تنتشر على نحو أوسع، وتكاد لاتترك أحداً خارج دائرتها، بل بعد أن باتت هذه الألغام المنطوقة، أو المدونة، بعد انتشار شبكات التواصل الاجتماعي، ومقدرة كل شخص أن تكون له وزارة إعلامه: منبره- جريدته- مذياعه- تلفزيونه، بل ومذيعوه- إن كانت هناك مصلحة ما تلوح في الأفق- لنستشعر صعوداً مرعباً للعنف المعنوي- بشكليه المنطوق والمدون بل والمتلفز- إذ غدونا أمام إمبراطوريات لبعض الجهلة باسم الإعلام، والثقافة، والسياسة، والحياة الاجتماعية!
لكم يصادفنا، في حياتنا اليومية أناس- ضجرون- رافضون لكل شيء. رافضون لمن حولهم، لأسرهم، لذويهم، لأقرانهم، لمحيطهم، من دون أن تتم أية مصالحة من قبلهم مع هؤلاء، إلا مجرد أنموذج من بينهم: إنه الأنموذج الذي يستخدم سلاحه هذا في سبيل تسيير أموره، وخدمة منابع المنفعة، ومواجهة من هم في الجبهة المقابلة، كما أن هناك من يعد ضجرهم. تأففهم، من كل شيء مدمراً لذواتهم، قبل محيطهم. كل هذا قد تفاقم في زمن ثورة المعلوماتية، لاسيما بعد أن ارتدى- لبوس- الرأي، بل النقد، إذ ثمة من لديه الولع، عبر موشوراته الشوهاء، في أن يبدل بين أسماء المتاقضات، ثم يعيدها إلى ماهي عليه، ليواصل لعبته العكسية، وازعه في كل ذلك: مجرد مزاج مريض.
ولعل أخطر ما في الأمر أن يتسيد أمثال هذا المزاج، الوبائي، العدواني دفة الرأي في مشهدينا الثقافي والسياسي والاجتماعي وغيره، إذ تجد من هو مستعد أن يبدي رأيه في نص واحد بألف شكل متناقض، تبعاً لطبيعة لحظته، أو تخندقه، إن ما يقدمونه من آراء عبر شبكات التواصل الاجتماعي بات بمثابة – مواد ديناميتة- سرعان ما لقيت من يلتقطها ليوجهها في الاتجاهات الخاطئة، بل الخطيرة. إنها طاقات- تشبه الإرهاب- بل لها فعل الإرهاب، وأسوأ، وإن نقل: أسوأ، هنا، فذلك لأننا ننبذ الإرهاب، ونتحاشاه، إلا أن هؤلاء النقدة المتذمرين من كل شيء. الرافضين لكل شيء. المدمرين لكل شيء، انطلاقاً من تراكم كميات الحقد المشتعل في نفوسهم إنما يلوثون، ويكربنون، ويدنمتون ماحولهم، وقد لعبوا دوراً جد سيء خلال السنوات العشر الماضية. سنوات الحرب، من خلال خلط الأمور، والتشويش على كل بارقة أمل، بل التشويش على الأصوات النقدية القليلة، وإرهاب من لديهم رؤى نقدية، وكبح أدوارهم التنويرية!
لا يقل دور هذا الصنف من- النقاقين- أو مشوهي النقد، وممارسيه في الاتجاه الخاطىء، سواء أكانوا يفعلون ذلك نتيجة دوافع ذاتية في نفوسهم، أو ضمن إطار تجنيدهم المستفحل- في كتائب هكرية – إماتة كل بصيص أمل، وتصوير ما هو مضيء على أنه جريمة كبرى، والترويج لما هو خاطئ مسيء، ولذلك فإننا نرى أن مثل هذه الآراء الشاذة، عندما تتلاقى، وتتواءم، وتوظف في الإطار التضليلي فهي تحاول نشر ثقافة ملوثة، وتضع الضمير النقدي. الضمير النقي، في دائرة المروق. كل هذا أدى إلى خلخلة المقاييس ونشر ثقافة الوباء التي لن نتخلص منها، إلى وقت طويل، حتى وإن حطت الحرب أوزارها!؟
إن هذا الشكل من الكتابة/ الكلام، الذي انتشر، كما النار في هشيم الواقع، له فعله التدميري الكبير، إذ إن وقوده مرضى متطوعون أو مجندون، سرعان ما تقع عيوننا على كتاباتهم، أو تتصادى ذبذبات أصواتهم الشاذة في ما حولنا، عند كل منعطف نصله، أو إزاء كل موقف إيجابي، أو أمام أي اسم ذي أثر من شأنه أن يقدم رأيا لمحيطه. إنه طاعون آخر له جذوره القديمة التي يمكن تتبعها، لمعرفة دواعيه، إلا أنه لم يكن يوماً كما هو عليه الآن، مع اعترافنا المسبق بأن محطات عدة قد غذته، وفاقمته، ولعل أطرها جميعها- أي تلك المحطات هو واحد- وأن أرومتها واحدة، وإن كان الوكلاء الحصريون لها. كل منها يوجهها في الوجهة التي يشاء، أنى دعا الداعي، أو لم يدع، لتنجم عنه ثقافة موبوءة قذرة رسمت آلاف الحدود ما بين تواصلنا!؟
*كلمة “النق” مأخوذة من سيامند ميرزو!