وعادوا ثانية يا سنجار..

كفاح محمود كريم
   

    قبل أربعة وثلاثين عاما وفي أواخر تموز وأوائل آب من عام 1972 اندفعت عشرات الدبابات والمدرعات وآلاف الجنود ترافقهم عصابات حزب البعث الى قرى وبساتين وتلال سنجار لتحرق الأخضر واليابس وتطمر عشرات الينابيع وتحرق مئات من خلايا النحل وأبراج الحمام وتسحق المئات من الأرانب البرية في طريقها للبحث عمن اغتالوا قائم مقام سنجار في السابع من تموز نفس العام.
  في ذلك الصيف الحارق وبينما الفلاحون البسطاء يحصدون غلالهم سبقتهم سيوف الأعداء فجزت رؤوسهم وبعثرت قذائف الدبابات أشلائهم، وما زلت اذكر أولئك العمال البؤساء وهم يحملون أكياس القمح من الحقل الى الشاحنة حينما داهمتهم مفرزة من الجنود والمدنيين من أعضاء حزب البعث آنذاك لتطلب منهم أن يضعوا أيديهم فوق رؤوسهم ويلتفتوا الى الشاحنة، ليمطروهم بزخات من الرصاص فتتهاوى أجسادهم وهي تتمزق وتنزف دماءً لتمتزج بالقمح والتراب؟   

   وتبقى تلك الأجساد العشرة تتلوى على الأرض وهم يضحكون قائلين إن الايزيديين نقصوا عشرة، وحينما كان احدهم يأن أو يتلوى كانوا يمطروه برصاص حقدهم حتى تنطفئ الروح في جسده الذي تمزق، وتسمو عاليا مبتعدة عن عالم النجاسة هنا.
   كان العاشر مسلماً، اسمه خطاب عمر، لم تنفعه الشهادتين وهو يتلوها نازفا من كل أنحاء جسده الذي مزقه رصاص الجنود ورفاقهم أعضاء حزب البعث؟
  في مكان آخر كانت الغيلان تداهم قرى في حواضن الجبل وظلاله لتحرق أشجار التين والزيتون وتحرق معها قسم الإله الأعظم بقدسية الشجرتين، وحينما قال لهم الشيخ الطاعن في السن:
   تلك أشجار الله التي انتقاها للقسم والتباهي دعوها ربما تتمتعون بثمارها، ضربوه بأخمص بنادقهم على رأسه حتى لفظ أنفاسه تحت ظلال واحدة من شجرات التين، التي لم يشفع لها قسم خالقها بها؟
  لم يتركو قرية أو حقلا أو بستانا أو ينبوع ماء، فقد داست حوافرهم كل شيء، بيوت النمل والنحل والأرانب والفراشات وأعشاش الطير والحمام والعصافير، ثم سرقوا قطعان الماشية من الأغنام والماعز وحرقوا حقول القمح والشعير ومعها أعشاش الطير والقطا؟
  وحينما اقتربت مفارزهم ومدرعاتهم من واحدة من أجمل القرى الصغيرة في حضن الجبل من ناحية الشمال (سنون)، كان الأهالي البسطاء من الفلاحين الجبليين يتصورونهم ضيوفا أو ربما لديهم واجب تدريبي هناك، حتى انهالت قذائف مدفعيتهم ورصاص أسلحتهم الخفيفة لتحصد تلك الرؤوس اليانعة الصغيرة لعشرات الأطفال من الأولاد والبنات والمتدلية من على أسطح البيوت الطينية التي كانت تتمتع برؤية تلك القطعات أو القطعان الهائجة.
  وفوق سماء جبل سنجار الأشم كانت طائرات الهليكوبتر تحوم لتقذف حممها على الرعاة والماعز والأغنام وتحرق بساتين التين والرمان والزيتون وتملأ الكهوف بنيران صواريخها لتحرق من فيها من أطفال ونساء وشيوخ الرعاة ومربي الماعز والأغنام.
  عادوا ثانية يا مدينة القمح والخبز الحار..

عادوا يا سنجار يحرقون من جديد براعم الحياة والأطفال ويدمرون المدارس ويحيلون البيوت والمعابد والبناء الى أكوام من الطين والأحجار.
عادوا ثانية يا سنجار في مساء الرابع عشر من آب 2007 بعد خمسة وثلاثون عاما من هجمتهم البربرية في آب 1972 ليحرقوا الأخضر واليابس، عادوا ليحملوا في شاحناتهم أحقادهم السوداء وعنصريتهم المقيتة وقسوتهم التي لاتطالها بربرية هولاكو والهكسوس والحيوانات المفترسة.
  عادوا بنفس أنفاسهم المليئة بالسموم ورائحة الموت والخراب والكراهية والبغضاء، عادوا ولم يشبعوا أو يملوا آلاف آلاف الجثث التي دفنوها في صحراوات بربريتهم وبدائيتهم.
 عادوا يحملون ثانية أنين أطفالنا وبكاء نسائنا وجروح شبابنا هدايا يوزعوها ذات اليمين وذات الشمال، ليستبدلوا الفرح والبناء بالدموع والدماء، وليحيلوا أكواخنا الى تنانير جحيم وتراب.

  عادوا ليقتلوا ثانية رشو وجردو وبسي وخناف وعيشان ودلوفان وآلا وكاروان، وليحرقوا أجسادا غضة ما كانت تحتمل ضوء الشمس فاكتوت بالنيران، عادوا ليكرروا القتل ثانية كما قتلوا أجدادهم هؤلاء وآباءهم منذ أعوام، ثانية جاؤوا هذه المرة ليخلطوا ترابنا بدمائنا ودموعنا بمياهنا، وليدمروا مدارسنا وحروف لغتنا ويحرقوا أغانينا وأناشيدنا، عادوا ثانية في خلسة من الزمن الذي طحنهم والعفونة التي انتجتهم، عادوا ولأنهم لا يدركون ضوء الشمس ودفأ الندى في مساءات سيبا شيخ خدر وكر عزير ونسائم كرزرك وكروفي ورمبوسي وكل القرى العاشقة في سنجار التاريخ والهوية، فإنهم يفجرون أنفسهم انتحارا أمام حقائق بربريتهم وحضارتنا ضنا منهم إننا سننتهي وقد نسوا إننا حينما نموت تكون الحياة قد ابتدأت ثانية فينا.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد بعد أن كرَّر الوالدُ تلاوة قصة الخريطة المرسومة على الجريدة لأولاده، شارحاً لهم كيف أعادَ الطفلُ بكل سهولة تشكيل الصورة الممزقة، وبما أن مشاهِدَ القصف والتدمير والتدخلات الدولية واستقدام المرتزقة من دول العالم ومجيء الجيوش الأجنبية والاقليمية كانت كفيلة بتعريف أولاده وكل أبناء وبنات البلد بالمناطق النائية والمنسية من بلدهم وكأنَّهم في درسٍ دائمٍ لمادة الجغرافيا، وبما…

صلاح بدرالدين لاتحتاج الحالة الكردية السورية الراهنة الى إضفاء المزيد من التعقيدات اليها ، ولاتتحمل هذا الكم الهائل من الاخذ والرد اللذان لايستندان الى القراءة العلمية الموضوعية ، بل يعتمد بعضها نوعا من السخرية الهزلية وكأن الموضوع لايتعلق بمصير شعب بكامله ، وبقدسية قضية مشروعة ، فالخيارات واضحة وضوح الشمس ، ولن تمر بعد اليوم وبعبارة أوضح بعد سقوط الاستبداد…

المهندس باسل قس نصر الله أتكلم عن سورية .. عن مزهرية جميلة تضمُّ أنواعاً من الزهور فياسمين السنّة، ونرجس المسيحية، وليلكة الدروز، وأقحوان الإسماعيلية، وحبَق العلوية، ووردة اليزيدية، وفلّ الزرادشتية، وغيرها مزهرية تضم أطيافاً من الأكراد والآشوريين والعرب والأرمن والمكوِّنات الأخرى مزهرية كانت تضم الكثير من الحب اليوم تغيّر المشهد والمخرج والممثلون .. وبقي المسرح والمشاهدون. أصبح للوزراء لِحى…

د. آمال موسى أغلب الظن أن التاريخ لن يتمكن من طي هذه السنة بسهولة. هي سنة ستكون مرتبطة بالسنوات القادمة، الأمر الذي يجعل استحضارها مستمراً. في هذه السنة التي نستعد لتوديعها خلال بضعة أيام لأن كان هناك ازدحام من الأحداث المصيرية المؤدية لتحول عميق في المنطقة العربية والإسلامية. بالتأكيد لم تكن سنة عادية ولن يمر عليها التاريخ والمؤرخون مرور الكرام،…