د. محمود عباس
كان بين أغلبية السياسيين وخاصة قادة الأحزاب الكردية، فيما إذا كنا نستطيع أن نصنفهم سياسيين، والمجتمع حاجزا فكري، وربما لا يزال، مرده ضعف التراكم المعرفي، وتأثير ثقافة الأنظمة الشمولية. أصبحوا، وعلى مر السنوات، يعيشون التناقض، بين الشعور واللا شعور، فضلوا الذات على منظماتهم وأحزابهم، وقدموا الأخيرة على الوطن، علما أنهم كانوا في لا شعورهم وطنيون قبل أن يكونوا حزبيين.
والتناقض، استمر طوال العقود الماضية، وكان سبباً في معظم ما يعانيه الحراك، مثلما عانى المجتمع من إرهاصات الأنظمة الشمولية الاستبدادية. وبدأت أحدى المفاهيم الشاذة التي كانت تنشرها تلك الأنظمة عندما كانت تعاني من بعض الصعوبات، تظهر في الأونة الأخيرة، بين شريحة من السياسيين الكورد، كتغييرهم لجدلية الوطن، فيضعون سوريا كوطن أمام القضية الكوردية والحقوق القومية،
الشعار الذي تبنته وعلى مدى العقود الماضية وتناسته على خلفية ردود الفعل العنصرية من قبل النظام البعثي والأسدين، وأصبحوا يحيونه مثلما يطلبه البعض من العنصريين العرب للتمويه، ويعملون بشكل غير مباشر على حل القضية القومية من خلال المواطنة، تحت مسوغات وضع الدستور ليتم الاعتراف بالكورد، وفي الواقع لا خلاف على هذا وعلى بناء سوريا كوطن، والذي لم يكن لهذا المفهوم وجودا لديهم حتى قبل فترة، علما أننا نلاحظ غياب المصداقية فيها، لأنهم يقدمونها على أن سوريا قبل الحقوق القومية الكوردية وليست العربية، وبالتالي فهي ليست سوى خدعة ذات وجهين، تصاعدت مع بدايات التفاهم الكوردي-الكوردي، وعلى الأغلب ستعيدنا إلى ما كانت عليه سوريا الاستبدادية بغطاء الوطنية.
ومن الغرابة أن البعض من الأخوة الكورد بينهم سياسيون وقياديون، يتماشون مع نداء العنصريين العرب، فيشككون في المفاوضات مع الـ ب ي د، بل يطالبون بإيقافها، تحت حجج عدة، منها أيديولوجيتهم، الأمة الديمقراطية قبل القومية، في الوقت الذي لا يقل سلبيات هذا المفهوم عن سلبيات سوريا الوطن قبل القومية الكوردية، إلى جانب غيرها من الانتقادات المشكوكة في مصادرها.
وأصبحنا نسمع النداءات المتنوعة، الشعب هو الذي سيقرر الدستور، وهو الذي سيحدد شكل الدولة، وبالانتخابات سيتم الإقرار بالنظام الفيدرالي اللا مركزي أو رفضه، وغيرها من الخدع، حيث استخدام الديمقراطية في وجهها المشوه، أي الأغلبية والأقلية، وهي مرفوضة، فأية انتخابات حول الحقوق الكوردية يجب أن تتم ضمن الشعب الكوردي، وما يريده الكورد وليس الأغلبية العربية المعارضة.
وهذا ما يجب أن يتم اليوم على الساحة، وحيث التفاوض، وحوارات التفاهم، وما نقرأه بين السطور، ومن خلف الكواليس، نستنبط أن المتفاوضون يعيدون التاريخ حتى ولو كان بلباس أخر، يفضلون المصالح الحزبية على الوطنية، رغم كل التحذيرات والإملاءات الخارجية، بالتسارع في العمل، ومطالبة اللجنة الأمريكية بالعمل على اتفاق سياسي.
فما تقوم به تركيا ومعها إيران، أي عمليا سلطة بشار الأسد، ومحاولات الحصول على الدعم الروسي، لم تعد خافية على أحد، في البعدين، الدولي والإقليمي وتحريك المعارضة التكفيرية العربية، إلى جانب أدواتها ضمن الحراك الكوردي، للقضاء على التقارب الكوردي-الكوردي وهي في المهد، وإبعاد الأمريكيين عن المعادلة. كما وأن الانتخابات الأمريكية قادمة، ومصالحها، قد ينظر إليها بمنظار مختلف، علما أن الكورد اليوم أصبحوا يعرفون في الشارع الأمريكي وضمن أغلبية إدارتها، كأفضل حليف ومركز ثقة، وكان هذا هو سبب الرئيس في تراجع الرئيس ترمب عن قرار الانسحاب من سوريا. كل هذا يجب أن تؤخذ بالحسبان.
وإن لم تتمكن لجان التفاوض من تجاوز معضلاتهم الحزبية، فستظهر إشكاليات إن لم يكن اليوم ففي المستقبل، وتجربة جنوب كردستان بتألفها وتناقضاتها، وخلافاتها المخفية يجب أن تكون حاضرة أمامهم، رغم الاختلاف الشكلي في ثقل موازين القوى الدولية، والتي ستؤثر ليس فقط على أجواء الحوارات بل وعلى القوى الراعية لها، والتي تتبين جديتها وإصرارها على بلوغ نجاحها ما بين الأطراف الكردية.
والتي حاول أحد القادة الحزبيين الكورد المخضرمين، الذي كان منتدبا من قبل الغير، والأكثر وضوحاً، وضع مقارنة ساذجة بين المسيرتين، دون أن يلم بالأبعاد التاريخية والسياسية والاجتماعية والفكرية، مكتفيا بالظواهر، كاللغوي الذي يقول أنه للكورد أربع لغات مستندا على اللهجات، متناسيا الظروف السياسية وأساليب الأنظمة الشمولية وغيرها من العوامل القاهرة التي أثرت على المجتمع الكوردستاني ولغته، وبين بمقارنته عن ضحالته في معرفة الجدلية بين النظريات والمفاهيم الفكرية والفلسفية والعلاقات السياسية والمقارنات الإستراتيجية العالمية، منتشيا بضحالة التحليل والمقارنة.
ولا شك، هناك خلفيات تاريخية، وعوامل وظروف فرضت ذاتها، أوصلتنا إلى ما نحن فيه، وأدت إلى ظهور مثل هذه المقارنات، وصعوبة التوصل إلى التفاهمات وبطء المسيرة، أو بالأحرى وجود الخلافات بين الأحزاب الكوردية وهي لا تزال في مرحلة التحرر.
ففي الواقع الفعلي، وفي العقود الأولى التي تشكل ونشط فيها الحزب، بدأ المجتمع الكوردي يتمزق، وكانت أغلبية الركيزة المستندة عليها ملتهية بخلافاتها الداخلية، وعلى أسس ليس لها وجود، أي الصراع الطبقي. وبشكل غير مباشر أندرج قسم من الحراك إلى هذا الصراع الوهمي. فأصبح من السهل إرضاخ قيادات الحراك الحزبي للنظام، فظل البعث وعن طريق مربعاته الأمنية، كتتمة لما فعله الشيوعيون الكورد، يهدمون العلاقات الاجتماعية، كبداية للقضاء على أية قوة كوردية كامنة، اجتماعية أو حزبية، ومن ثم تمييع القضية الكوردية، ولتستمر الأحزاب الكوردية على القاعدة الاجتماعية الهشة، وبالتالي ستكون دون مستوى القضية، وغير جديرة ولا مؤهلة لقيادة المجتمع بعدما يكونوا قد قضوا على رؤساء العشائر والأغوات، وأصبح الفلاحين الكورد دون قيادة، والقيادات الحزبية أصبحت أضعف من تكون مؤهلة لتحل مراكزها من جهة، ومن جهة أخرى غير جديرة على إنتاج البديل عن العلاقات الاجتماعية الموجودة منذ قرون عديدة.
ولديمومة هذ الضعف عملت المربعات الأمنية وبأساليب عدة، من نقل الصراع ما بين الفلاح والأغا، إلى الصراع بين الأحزاب الكردية، وعلى مسارات متعددة، وقد كانت استمرارية لما فعله الحزب الشيوعي في المجتمع الكوردي، ففي الواقع دمر هذا الحزب الفلاح الكوردي قبل الأغا، فقد أصبح هم الفلاحين ليس الحصول على حياة أفضل، والعمل في حقولهم، بل محاربة الكوردي الأخر، وبالمقابل لم يهتم الحزب الشيوعي في تطوير أدوات إنتاجه وتوعيته باستثناء تحريضه على توسيع تلك الخلافات في قراه البائسة، أي محاربة جيرانهم، الأغا بل وبعضهم البعص، بعدما تم ترويج مفهوم الكولاك، التسمية الروسية لشريحة فلاحية لا وجود لها في المجتمع الكوردي المعدم والمعدم، وجلهم من أبناء عشيرته أو المقربين من العائلة، إلى جانب أن نفس الفلاحين الذين كانوا يحاربون الأغا في قرية ما كانوا قريبي لأغا أخر ومن عشيرته وكانوا يتألفون معه، وعلى أثرها تمكن البعث من تجريده من أملاكه مثلما جرد الإقطاعي الكوردي (كما تلذذ الشيوعيون في تسميتهم) في الوقت الذي كان الشيوعيون ملتهين بتوسيع الخلافات بين المجتمع الكوردي.
والنقلة الأخرى التي استفاد منها البعث وتمتع بها، هي محاربة الحزب الشيوعي الأحزاب الكوردية، في الوقت الذي كان يبحث عن تحالف مع أخطر الأحزاب القومية العنصرية في المنطقة وهو حزب البعث وتم ذلك في النهاية، وعلى خلفية محاربتهم للأحزاب الكوردية، تمكنوا من نقل الصراع الطبقي إلى داخل الحراك الكوردي، وتفاقم تحت منطق اليسار واليمين، وفي الواقع لم يضعف هذا الخلاف الحراك الكوردي فقط، بل فاقم من تدمير المجتمع الكوردي ذاته.
وما تم بثه من مفاهيم اليسار واليمين وعلى مراحل، ضمن المجتمع، على أنهم يمثلون شرائح المجتمع الكوردي، الفلاحين والأغوات وتابعيهم، ولم تدرك قيادات الطرفين، لجهالتها وقلة وعيها وضحالة معارفها، أن نجاح الأحزاب الكوردية ضمن مجتمعه المتجانس مقارنة مع الشعوب الأخرى، كان سيسهل لهم توعيته، ومواجهة النظام والحزب الشيوعي الأممي، وهم كانوا من أبناء المجتمع، ولم يلاحظوا أن الفروقات الطبقية أو المادية تكاد تكون شبه معدومة، والموجودة كانت لا شيء مقارنة بما كان عليه المجتمعات الأخرى، وهنا كانت عمق الجهالة السياسية لديهم، وخاصة اليسار الذي تأسس كتقليد وليس عن دراسة وتراكم معرفي أومنهجية متكاملة ما بين القومية والطبقية، وكما نعلم؛ معظم من قادوها كانوا ذوي ضحالة معرفية أكاديمية وذاتية، وشبه عدم في الخبرة السياسية، وهو ما أدى إلى ظهور مشاكل عصية على الحل من جهة، ومن جهة أخرى نقلت القضية القومية إلى الصف الثاني في مسيرة النضال بعد الصراع الطبقي الساذج…
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1-11/6/2020م