أسباب (الأزمة) داخل فصائل اليسار الكردي في سوريا

ربحان رمضان *

لقد واجهت الحركة الوطنية الكردية في سوريا منذ نشوءها وصيرورة البارتي الديمقراطي الكردي في سوريا (الحزب الأساس) أزمات عدة خلال النصف قرن من عمرها، أولها انقسام البارتي على نفسه إلى حزبين في الخامس من آب عام 1965 وفيه حمل التياران نفس الاسم لفترة امتدت حتى بعد عقد المؤتمر الوطني الأول في ناوبردان في كردستان العراق وعودة الحزبين إلى الوطن بنفس الاسم ، مع بروز حزب الإخوة في (الحياد) وهو الاسم الذي أطلق على مجموعة الوطنيين الأكراد الذين تطوعوا لمساعدة الحزبين في التقارب والوحدة ، فحملوا اسم الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (القيادة المرحلية) ثم عدّلوا فيما بعد الاسم إلى الحزب الديمقراطي الكردي في سوريا (البارتي).
فعقد اتجاه اليسار كونفرانسه العاشر في مدينة دمشق، وكان من جملة قراراته إضافة اسم (اليساري) في آخر اسم الحزب.
ثم أدغم اليسار في الاسم ليصبح في مؤتمره الرابع (البارتي الديمقراطي الكردي اليساري في سوريا*، و تحول في مؤتمره الخامس إلى حزب الاتحاد الشعبي الكردي في سوريا.
انه  اول حزب كردي في سوريا واول من رفع شعارات و عبارات : “عاشت الاخوة العربية – الكردية ، والاتحاد الاختياري ، والتضامن العربي – الكردي”، وأول من طرح شعار اليساري، الماركسي – اللينيني المنظم، ودعى منذ ذلك الوقت إلى التضامن الأممي والتعاون المشترك مع الشعوب التي يتعايش معها الشعب الكردي.
ولم يكن غريبا ان يتأثر هذا الحزب في مسيرته بمسيرة ومصير الحركة الوطنية السورية التي آلت إلى تشتت وتشرذم لاسيما في مرحلة السبعينات من القرن المنصرم حيث أنعم النظام (على بعض أحزاب الحركة الوطنية السورية) بكراسي في بعض الوزارات الغير مؤثرة في حياة البلاد وعدة مقاعد في مجلس الشعب، والإدارة المحلية، فتراخت و(انفلشت)…
إزاء ذلك راحت بعض الأحزاب الكردية  تعلل نفسها بآمال وأوهام الوصول إلى السلطة عن طريق البرلمان والإدارة المحلية فجنحت إلى السكوت عن الحق والتراخي في مطالباتها بحقوق الشعب الكردي المشروعة وفي الاعتراف به ضمن الدستور والقوانين التي توضع للبلاد علها بذلك تشارك في الوزارات أو البرلمان ذات يوم ، ولكن هيهات أن يسمح النظام لها بذلك وهو لم يعترف بوجود الشعب الكردي بعد.


وفي جانب آخر وقفت فصائل كردية حيرى تجاه موضوعي العام والخاص، الوطني والقومي، ولهذا وجدنا في هذا السياق وفي محطات اتحاد وانفصال بين الأحزاب الكردية – الكردية مثال بارز على اختلال صياغة قيادات تلك الأحزاب للعلاقة بين البرنامج القومي الكردي الذي يتضمن تحقيق الحقوق القومية والاجتماعية والثقافية وصولا ً إلى توفير مستلزمات حق تحقيق تقرير المصير، والوطني السوري الذي يتصدى لهموم ومشكلات المواطن السوري من النضال ضد الممارسات الديكتاتورية وضد القمع والعسف وانتهاكات حقوق المواطن المدنية والنضال من أجل اطلاق الحريات الديمقراطية، وضد ارتفاع أسعار المواد الغذائية والتموينية وتوفير العمل المناسب للرجل المناسب، أو وضع الانسان المناسب في مكانه المناسب..

الخ.
أرهقت هذه المعادلات الهلامية قدرة الحركة القومية الكردية بمختلف فصائلها الوطنية السورية  وانعكست على برامجها وقدرتها على مخاطبة الناس الذين أسمتهم كما يروق للثوريين تسميتها بـ : “الجماهير!!” التي يفترض أن يلتفوا حولها في حين أنه يجب على تلك القوى الدفاع عن تلك الجماهير أيضا ً و عن مصالح الفئات التي كان يفترض ان تعبر عنها ، فبرز في هذا كله واحد من أهم عناوين مأزق الحركة اليسارية الكردية في سوريا.
أما ازمة اليسار واليمين الكردي (السوري) وفي العديد من جوانبها فتعود الى العلاقة المحورية مع فصائل كردستانية خارج سوريا، وأعني بذلك العلاقة مع فصائل الحركة الوطنية الكردية في كردستان العراق وعلى رأسهم الحزبان الرئيسيان (البارتي والاتحاد الوطني).
فتختلف عندما يختلف الفصيلان وتتوافق عندما يتوافق الفصيلان كما يمكنني القول أنها تعود أيضا ً لأسباب أخرى أو إدعاءات أخرى كالصراع الطبقي والفكري في حين أن لايوجد فرز حقيقي لطبقات الشعب الكردي في سوريا، والجميع مضطهدون ويعانوا من نفس القوانين والمراسيم القمعية والشوفينية.
في تشريحنا للحركة الوطنية السورية نجد أن اليسار السوري (الطرف الأكثر تفهما ً للقضية الكردية في سوريا) بعموميته كان مشتتاً ومبعثرا ً، و قد انقسم تاريخيا ً إلى عدة فصائل فأضعفت قدرته على تحقيق مطالب “الجماهير” الكادحة فلم يستطع قيادة تلك الجماهير في سبيل تحقيق أهدافه المعلنة بل تحققت انجازات اشتراكية على يد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر الذي أعطى بيد وأخذ بيد أخرى حيث لاحق قوى سياسية ممن لم تخضع لقراراته في حل أحزابها ودمجها في “الاتحاد القومي” الشبيه اليوم بالاتحاد الاشتراكي في مصر ، مما أشغل أولئك (الكادحين) عن أحزاب الطبقة العاملة ليلتفوا حول “حزب النظام” وانشق الماركسيون إلى فصائل عديدة  أذكر منها في مرحلة السبعينات من القرن المنصرم الحزب الشيوعي بجناحيه (اللجنة المركزية) والمكتب السياسي، ثم الحزب الشيوعي العربي (الماركسي – اللينيني) واتحاد الشيوعيين السوريين ، والحزب الشيوعي (منظمات القاعدة) وحزب العمل الشيوعي ، وحزب العمال الثوري، والكادر اللينيني، وأخيرا ً هيئة وحدة الشيوعيين..إضافة إلى حزب البعث الماركسي والمنظمة الشيوعية العربية التي أطلق سراح أحد رفاقها (عماد شيحا) في عام 2004 بعد ثلاثين عام من الاعتقال ..!! .


وانشق القوميون إلى فصائل لا تعد ولا تحصى فساعدها النظام وجعل أكثرها تفرخ تحت جناحيه .

وفي كل الأحوال فإن ازمة التيارات اليسارية القومية العربية لم تلغي مكونات الاسباب الخاصة باليسار الكردي – السوري نفسه في ذاته ومحيطه.


فاليسار السوري (بجناحه العربي) وهو المعني بالموقف الوطني تجاه القضية الكردية أكثر باعتبار انه نادى بحل مشاكل القوميات القائمة في أنحاء العالم (خارج الوطن) ، ابتعد عن واقع المواطن، ولم يتفهم خصوصية الشعب الكردي الذي يقاسمه الوطن منذ ما قبل تكوين الدولة السورية الحديثة في العشرينات من القرن المنصرم ، فلم يطرح في برامجه حلا ً للقضية الكردية، (باستثناء حزب العمل الشيوعي في مرحلة الثمانينات) ورغم كل التطور الحاصل لدى شعوب العالم وتحرر غالبية تلك الشعوب من “اللعنة” الاستعمارية بقي بعيدا دون التمعن في واقع ومستويات تطور المجتمع الوطني العام، ولم تعترف غالبية فصائله بوجود الشـــريك الكردي.
 ويجب أن لاننسى بأن الماركسية كأيدلوجية كانت وليدة الحاجة السياسية في الفترة التي عمت فيها الثورات في بلدان العالم الثالث ، وتمثلت في المنطقة العربية بالقوميون العرب الذي اعتنقوا الماركسية – اللينينة (كالحزب الاشـتراكي اليمني و الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين و “إفرازاتها “) كما اعتنقها ثوريو فيتنام وكوريا وكوبا ولاوس فنادوا بتحرر تلك الشعوب ، ووقفوا معها ، وغنوا لها قصائد وأشعار..

، وفي جانب آخر كانت موضة عصرية قلدها بعض تجار السياسة فاصبح فيها ما هو خارجي اهم مما هو داخلي وما هو شكلي بديلا لما هو جوهري، وعلى هذا الأساس لم تكن وقائع الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية مصدرا لبناء البرامج السياسية والاقتصادية لديهم.


وللأسف فقد استغلت غالبية قيادات تلك الفصائل والأحزاب (مجتمعة) مواقعها في القيادة وتحولت تلك الاحزاب الى انماط من الحكم الشمولي الزعامي بمسحات دكتاتورية وبيروقراطية ومراتبية ففشلت صيغة المركزية – الديمقراطية في توفير ناظم ديمقراطي متقدم للحياة الحزبية الداخلية ولم تستوعب الاحزاب اليسارية الكردية دروس نتائج انعدام الديمقراطية الداخلية لديها.


ورغم الدور الهام لحزب الاتحاد الشعبي في حياة اليسار الكردي فإن الرفاق الذين انفصلوا عنه ولعدة مرات لم يستطيعوا دفع هذه الحركة خطوات الى الامام  فقد كانت “الجماهير”  الكردية تطمح أن تتحول الحالة السياسية الكردية  إلى حزب فلم تتحول لا إلى حركة ولا إلى اتحاد ، وما لبث ان اصبح موقع الرفاق الساعين إلى الوحدة  في ذات الدائرة التي جاؤا منها معتقدين أنهم جاؤوا ليخلصوا اليسار الكردي من التشتيت والتشرذم.
وكانت غالبية حالات الانشقاق “المرَضية ” بين اطراف الحركة الكردية في سوريا نتاجا ً لتهلهل وارتباك في مجمل مسيرتها السياسية القومية والوطنية وحتى في حالات الاتحاد المفبركة مؤخرا ً فقد انزلقت إلى انشقاقات جديدة بأسماء لامعة .**
كما أنه ومن أسباب فشل اليسار السوري ومن ضمنه “الكردي” هو الافتقار إلى مشروع نهضوي مقنع معزز ببرامج واقعية تستجيب للمصالح الوطنية والقومية ، إضافة إلى تدني الوعي بالنظرية الماركسية التي طرحتها أحزابه حتى بافتراض صحتها المطلقة ، فلم يحسن القائمون على العمل الماركسي وفي صفوف قياداتهم الاولى على التعامل من خلال قناعتهم بها ، بل ربما عدم فهم النظرية ذاتها ، وأحجم معظم قادة “اليسار” عن حمل عبء قراءة عدد من الكتب الأساسية في برامجه ولذلك كانت الملخصات والعبارات المشهورة والاقتباسات بديلا عن العمل النظري الفكري الحقيقي ، فظهرت هناك وخلال مرحلة زمنية طويلة حالة من التشوش والارتباك والاختلاط معرفي.
ولأن اليسار الكردي استقبل استراتيجياته من أولئك الذين انتجوا هذا الخلل المعرفي نفسه فقد تجلى فشله في الطرق التي يجب ان يتم المرور بها للوصول الى تحقيق أهداف الشعب الكردي القومية والطبقية المشروعة ، ومن ثم تم فصل الاجتماعي عن السياسي والاقتصادي في تجن واضح على الواقع وحقائقه.


جدير بنا القول أن من أهم  الأسباب التي وقفت وراء فشل اليسار الكردي هو غياب الديمقراطية وتفشي البيروقراطية داخل فصائله السياسية  تبعا ً وتقليدا ً لغيابها في كل مؤسسات المجتمع السوري فانعكس ذلك على تعامل الحركة السياسية الوطنية الكردية فيما بينها وفي داخلها مما ادى الى الجمود والخواء في كل مجالات الحياة السياسية والفكرية والاقتصادية والثقافية.


= = = = = = = = = = =
* كاتب وناشط سياسي ، عضو قيادي في حزب الاتحاد الشعبي الكردي في سوريا.
** «يقف الان اكثر من 90% من الرفاق القدامى لتلك الأحزاب خارج اطر العمل الحزبي السياسي المنظم»

*** مرت منذ عقود حالات مشابهة لحالات الوحدة والانفصام التي تجري حاليا ً ، فقد انفصل في عام 1972 مجموعة “الرفيق !!” رفعت عثمان عن البارتي اليساري فطرد الأمين العام وحمل نفس الاسم، ثم انفصل تيار المرحوم عصمت فتح الله وبنفس اسم اليسار عن اليسار عام 1975 وأصدر يومها قراراً يقضي بفصل صلاح بدر الدين من الحزب ، ثم وفي عام 1980 انفصلت مجموعة عن حزب الاتحاد الشعبي الكردي بقيادة الأستاذ محمد خليل واتحدت مع الحزب الاشتراكي الكردي ، ووروجت أن الحزب اتحد كليا ً مع الاشتراكي الذي أصبح اسمه الحزب الاشتراكي الموحد ، وأصدرت قرارا بطرد صلاح بدر الدين من الحزب.

ثم وفي عام 1989 انفصلت مجموعة عن حزب الاتحاد الشعبي بقيادة الرفاق الثلاثة عبد الباقي صالح ، وحسن صالح، وفؤاد عليكو، روجوا أن حزب الاتحاد الشعبي الكردي في سوريا توحد مع حزب العمل الديمقراطي الكردي في سوريا، وطردوا السيد صلاح بدر الدين من الحزب.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. بعض السجناء أمضوا…

شكري بكر هذا الموضوع مطروح للمناقشة قد يؤدي بنا للوصول إلى إقامة نظام يختلف عما سبقونا من سلاطين وحكام وممالك وما نحن عليه الآن حيث التشتت والإنقسام وتبعثر الجهود الفكرية والسياسية والإقتصادية والعمل نحو إقامة مجتمع خال من كل أشكال الصراع وإلغاء العسكرة أرضا وفضاءا التي تهدر 80% من الإقتصاد العالمي ، إن تغلبنا على هذا التسلح يمكن…

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…