ماذا حصل للأدب الكوردي بعد الإسلام؟ – الجزء الأول

 د. محمود عباس
   يؤكد العديد من الباحثين والمؤرخين وعلماء اللغة، أمثال باسيل نيكتين، ومينورسكي، وويل ديورانت، وموريتزو غارتزوني (1734-1804) والمستشرقين، الروسي ألكسندر جابا، والبريطاني ميجر سون، وغيرهم، وبناءً على قرائن تاريخية ولغوية، إلى جانب بعض الكتابات الأركيولوجية، كالتي بقيت من أثار الشاعر الميدي المعروف بربوز قرابة عام 330 ق.م ومنها رباعية لا تختلف كثيرا لفظها وكلماتها عن الكردية الحالية، إلى جانب الكلمات الواردة في تاريخ هوميروس عن لغة الماديين، على أن اللغة الكوردية الحالية بلهجاتها تعود بأصولها إلى لغة الميديين، والفهلوية الساسانية وهذه الأخيرة لا تزال باقية كلهجة كوردية يتكلمها كورد منطقة إيلام، وهي لا تختلف عن الكتابات المحفورة على جبل بيستون حيث صور شابور الثاني أحد ملوك الساسانيين.
فغياب الأدب الكوردي بلغة الأم تلك أو ما انبثق عنها، وعلى مدى قرون طويلة بعد انهيار الإمبراطوريتين وخاصة الأخيرة، والتي كانت لغة الإدارة والمراكز الثقافية وأغلبية المجتمع الحضاري حينها، وظهورها بطفرات متباعدة زمنيا وجغرافية، يعد من أحد أوجه الغرابة في تاريخ الشعوب؛ وأدبهم وثقافاتهم، كما وأن ضياع الكم الهائل من الذخيرة الأدبية والروحية والفلسفية، التي أنتجتها مراكزها العلمية والثقافية المنتشرة في معظم مدنها، من كندي شابور إلى نصيبين إلى أمد إلى أربيل ورها وتسيفون عاصمة الإمبراطورية وغيرها، ومن دور ولغة عبادات أديان شعوبها، تعتبر خسارة للإنسانية قبل أن تكون للشعب الكردي، الذي بالكاد أستيقظ من السبات بعد مرور قرابة عشرة قرون من الظلام الذي حل به وبثقافته الأدبية. 
  سقوط الساسانية كإمبراطورية وزوالها كحضارة، وحلول سلطات وبلغة تضاربت وثقافة شعبها، وروحانياته، أثرت بشكل كارثي على الوعي العام، وسببت في ظهور مرحلة خالية من الإبداع الأدبي والفكري والروحي. فرغم استمرارية حضور الشعوب المتكونة منها أسس الإمبراطورية، وعلى رأسهم الشعب الكوردي الذي كان منهم حكام ساسان، بديمغرافيته الواسعة على جغرافية مترامية والتي هي ذاتها جغرافية كردستان الحالية، والحفاظ على لغتهم كلغة التعامل اليومي، وإسهام علمائهم ومبدعيهم وروادهم الروحانيين في الثقافات المجاورة خاصة تلك التي حلت مكان الٍإمبراطورية الساسانية؛ بعد قرابة قرنين من الزمن من هيمنة سلطات لا تمت إليهم، لم تؤدي إلى بروز حضارة أخرى في نفس المنطقة، والأسباب متعددة، وعلى رأسها سيطرة سلطات لا تمت إلى الفكر الحضاري، المنتهجة منطق البداوة والعلاقات القبلية، إلى جانب التضارب بين الثقافة القادمة وروحانيتها وثقافة الشعوب الإيرانية وبينهم الشعب الكوردي الذي نحن بصدده، والتي على أثرها غاب المبدعون الكورد الذين يكتبون بلغتهم الأم على مدى قرون عدة من انهيار حضارتهم. والإبداعات المتناثرة فيما بعد كانت نتاج مخلفات الحضارة المتنقلة مع ذاكرة الأجيال.  
 قبل البحث في هذه الإشكاليات، لابد من تبيان: حقائق تاريخية، حرفت أو طمست مع الزمن، تتعلق بالشعب الكوردي والفارسي. ولا بد من تصحيح أخطاء، ظهرت على خلفية الضحالة المعرفية للمؤرخين المسلمين العرب الأوائل، غض الطرف عنها العديد من الباحثين والمؤرخين، ودرجت كمسلمات، لم ينتبه إليها إلا البعض منهم الجديرين بالإسناد، الذين ينقبون في المعلومات ويبحثون على خلفية معرفية؛ وإدراك لمجريات التاريخ، فميزوا بين العجم كشعوب والفرس كمكون من العجم، بين الشعوب الإيرانية والشعب البارسي كمكون منهم. وبين أصحاب الحضارات التي نهضت بعد سقوط الإمبراطورية الأخمينية (550 ق.م-334 ق.م) بيد الإسكندر المقدوني، الإمبراطورية التي كانت تتمة لركائز الإمبراطورية الميدية (612 ق.م-550 ق.م) وبسند من أحد قادة الميديين العسكريين الداعمين لكورش وأبنه قمبيز الذي خلفه، حسبما يقول المؤرخ (هيرودوتس 484 ق.م-425 ق.م) تاريخ هيرودوتس ترجمة عبد الإله الملاح الصفحة (93)، بالمناسبة المترجم يغير العديد من الأسماء والأماكن الجغرافية ويضعها حسب نطقها العربي الحالي، فعلى سبيل المثال لا توجد أية كتابة أو نقوش مكتوبة عليها أسم البارس إلا بعد صراع الأثينيين والأخمينيين وانتصار الإسكندر المقدوني على الإمبراطورية الأخمينية والاستيلاء على عاصمتهم برسبوليس .
  الأخطاء التاريخية تلك، أدت إلى تشويه ليس فقط تاريخ الشعب الكردي، بل تاريخ معظم الشعوب الإيرانية والتي قامت على أكتافهم الحضارات اللاحقة السلوقية والأشكانية والساسانية، ولكن تم تمجيد المكون الفارسي على حساب تاريخ الشعوب الأخرى وفي مقدمتهم الشعب الكوردي، على خلفية ما تم نشره بعض المؤرخين المسلمين الذين دخلوا مع بدايات الغزو الإسلامي منطقة بارسا بسهولة، بعدما صعبت عليهم فتح المناطق الشمالية للإمبراطورية الساسانية، ونشر أسم بارسي بعد تحوير عربي له إلى الفارسي، وفيما بعد رسخت المملكة السامانية والغزنوية هذا التحوير كما أسلفنا، إلى درجة أصبح تاريخ كل الشعوب الإيرانية وآداب ومآثر وثقافات حضاراتهم وعلى مدى قرابة 1500 عام تاريخ ومآثر للفرس، وكأنه لم يكن في إيران شعب إلى الشعب الفارسي، وهذه دلالة من دلالات جهل المؤرخ الذي يحصر تاريخ المنطقة ومآثر شعوبها بين شعوب ثلاث  الفرس والعرب والترك.
 علما أن العنصر الفارسي، غاب حضوره عن الساحة السياسية والأدبية ما بين سقوط الحضارة الأخمينية إلى مرحلة ظهور المملكة السامانية (819م-999م) والدولة الغزنوية (963م-1186م) وبين الأخمينية وهاتين المملكتين الفارسيتين قرابة 1200 عام، وضمن جميع الإمبراطوريات التي برزت كان الشعب البارسي، القاطن في وسط جنوب إيران الحالية، وهو مكون من بين عدة شعوب أخرى كانوا تابعين لسلطات الحضارات الإيرانية المتتابعة، لكنهم لم يكونوا يوما جزء من السلطة فيها، بل في بعضها كانوا تابعين كحكام مقاطعتهم بارس، وأحيانا أخرى مهملين سياسيا وثقافيا، ومن أحد أهم الحقائق التاريخية، هو أن العنصر الفارسي لم يسود على أية سلطة سياسية خارج منطقتهم بارس، باستثناء فترة المملكة الغزنوية.
 وكما هو معروف لجميع المؤرخين، أن لغة حكام السلوقيين اليونانيون الذين أقاموا إمبراطوريتهم على أنقاض الأخمينية، كانت يونانية وهي لغة السلطة والإدارة، أو ما سميت بالهلنستية في مراحل ما. أما الاشكانيون هم من القبائل الشمالية الشرقية الرعوية الإيرانية، ولغتهم كانت الفهلوية الشرقية الشمالية، إلى جانب اليونانية، لغة ملوك السلوقيين الذين ظل تأثيرهم حاضرا على مدى أكثر من قرن بعد انهيار إمبراطوريتهم، وتتبين هذه من الكتابات اليونانية على عملتهم ومنحوتاتهم المتبقية، وكل هؤلاء لا علاقة لهم لغويا أو عرقيا بالمكون البارسي-الفارسي. وفي عهد الساسانيون الذين كانوا كورداً، وبشهادة أخر ملوك الاشكانيين، أصبحت اللغة الفهلوية الساسانية، لغة الإدارة والثقافة والأدب، وتشهد عليها الحفريات المتبقية من أثارهم، ومن ضمنها الموجودة على جبل بيستون. وللمزيد من الاطلاع على كوردية الإمبراطورية الساسانية يمكن العودة إلى مقالات للباحث (محمد مندلاوي) (ادعاءات النساطرة “الآثوريون” بين وهم الانتساب إلى الأشوريين وخيال الانتماء إلى العراق، حلقة 3/9) و (نافذة على الآثار الساسانية: الحلقتين، في جبل بيستون، وجبل “Paraw” في شرقي كردستان) ومقالة الكاتب والباحث الكوردي مهدي كاكه يي (الساسانيون كانوا كرداً ولم يكونوا فُرساً- 1و2)…
يتبع…
   
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
1/5/2020م

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

أزاد خليل* يُشكّل المسيحيون في سوريا جزءًا أصيلًا من النسيج الوطني، وقد لعبوا دورًا محوريًا في تاريخ البلاد منذ اعتناق المسيحية في القرن الأول الميلادي. تعتبر سوريا واحدة من المراكز الأولى التي احتضنت المسيحية، حيث يُعتقد أن القديس بولس تحول إلى المسيحية في دمشق، ومن هنا انطلق لنشر رسالته في العالم. كما تُعد مدينة أنطاكية، الواقعة شمال سوريا،…

كاميران حاج عبدو تُعدُّ سوريا مثالًا لدولة متعددة القوميات والأديان والمذاهب، تزخر بتنوع ثقافي واجتماعي ولغوي. ومع ذلك، فشلت الأنظمة السياسية المتعاقبة في توظيف هذا التنوع كعامل قوة لبناء هوية وطنية جامعة. بدلاً من ذلك، اعتمدت سياسات إقصائية اختزلت مفهوم الهوية الوطنية في إطار ضيق، بعيدًا عن الاعتراف الحقيقي بالتعددية التي تميز المجتمع السوري. على مدار تاريخها الحديث، لم تشهد…

خليل مصطفى أمس (السبت 25/1/2025) نشر الأستاذ إبراهيم اليوسف، مقالاً هاماً، عبره سلَّط الأضواء على أكثر الناشطين خطورة ليس على كورد سوريا فحسب، بل على شعوب الأُمَّة السورية. أقتبس (مع إضافة): يبدأ (أ. إبراهيم) قوله: يبدو لكُلِّ عاقل بوضوح، أنَّ بعض العُربان (السوريين) الناشطين على وسائل التواصل الاجتماعي، قد اتخذوا (لشخوصهم) دوراً محورياً في بثِّ خبثهم لتأجيج الخلافات بين الكورد…

عبدالرحمن كلو بعد سقوط النظام السوري، تغيَّرت معادلة توازن القوى في سوريا بشكل كبير وملحوظ. فغياب نظام الأسد وإيران معًا أحدث بيئة سياسية مختلفة تمامًا عما كانت عليه في السابق. ويبدو أن الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل رفعتا الغطاء بشكل كامل عن السلوك الإيراني في كل المنطقة، مُنهيةً لعبة القط والفأر التي أدارتها إدارة أوباما-بايدن مع إيران، والهلال الشيعي…