د. ولات ح محمد
في انتخابات البلديات التركية الأخيرة أصر حزب الشعوب الديمقراطي على التحالف مع المعارضة (خصوصاً في إسطنبول) بغية الإطاحة بمرشح أردوغان في تلك البلدية الكبرى. ولكن سرعان ما صحا الحزب على حقيقة خطئه عندما شاهد كيف صوتت تلك المعارضة داخل البرلمان بنعم على قرار أردوغان بغزو الشمال السوري واحتلال المدن الكوردية في أكتوبر الماضي. كانت هذه ضربة لرهان الحزب على تلك المعارضة. الضربة الثانية جاءت بعد عملية الغزو والاحتلال تلك عندما سكتت (أو وافقت) المعارضة ذاتها على إقالة حكومة أردوغان لعدد آخر من أعضاء الحزب المنتخبين من رئاسة البلديات وزج بعضهم في السجون، في إجراء مناف للقانون والديمقراطية.
هذه المحطات أصابت الحزب بخيبة أمل من “الحلفاء” في المعارضة التركية، فتوجهت آنذاك الرئيسة الشريكة للحزب بروين بولدان بانتقادات لاذعة لتلك المعارضة قائلة: “من أجل ديمقراطية تركيا كنا قد أقمنا تحالفاً كبيراً. في المقام الأول إسطنبول التي لم نقدم مرشحينا في الكثير من مناطقها. الأطراف التي التزمت الصمت حيال الأحداث الجارية اليوم سيتلقون بالتأكيد جواباً من طرفنا”.
من الواضح أن بولدان كانت تشير إلى تحالف حزبها مع المعارضة لدعم مرشحهم أكرم إمام أوغلو ضد مرشح أردوغان للمنافسة على رئاسة بلدية إسطنبول. ويبدو أن حزب الشعوب الديمقراطي كان يعتبر تلك المعارضة أكثر ديمقراطية من أردوغان وحزبه وكان يراهن على وقوفها في وجه اندفاع أردوغان وإجراءاته التعسفية ومشاريعه التوسعية. ولذا بدا الحزب مصدوماً من موقف “الشركاء” في المعارضة الذي لم يختلف عن موقف أردوغان بشيء. وهذا ما جعل رئيسة الحزب تهدد باتخاذ موقف مختلف.
ما لم تقله السيدة بولدان في تلك الكلمة هو أن المعارضة التركية لم تلتزم الصمت فقط حيال اجتياح أردوغان للمدن الكوردية، بل صوتت قبل ذلك بـ”نعم” في البرلمان على قراره بذلك الاجتياح. الأمر الآخر هو أن حزب السيدة بولدان لم يكتف بعدم تقديم مرشحيه في مناطق كثيرة من إسطنبول، بل وجهت جمهورها للتصويت بقوة لمرشح المعارضة أكرم إمام أوغلو، مقابل بضع كلمات لا قيمة لها جاءت على لسان كمال كليجدار أوغلو، مثل: “سنعالج القضية الكوردية في أربع سنوات، ويجب إطلاق سراح صلاح الدين دميرطاش” وما شابه ذلك من عبارات للاستهلاك الانتخابي. كما أن سكوت تلك المعارضة المتكرر منذ سنتين على إقالة رؤساء بلديات منتخبين من حزب الشعوب الديمقراطي (الذين تجاوز عددهم الأربعين مقالاً) هو سكوت بحجم الموافقة. كل هذا ما لم ترغب السيدة بولدان في قوله، لأنها بذلك ستقر بأن الطرفين من طينة واحدة وأن رهان حزبها على تلك المعارضة كان خطاً كبيراً.
المفارقة أن الحزب بدلاً من “اتخاذ موقف” ـ كما توعدت بولدان ـ عاد بعد أيام قليلة فقط من تلك الكلمة ليطلق دعوة لانتخابات مبكرة وتوحيد صف المعارضة من جديد، إذ قال في بيان في 20/11/2019 “نحن نقول انتخابات مبكرة لتتخلص شعوب تركيا من سلطة حزبي العدالة والتنمية والحركة القومية. هذه دعوة للمواجهة… ندعو المعارضة كلها لتوحيد صفوفها على هذا المطلب لإجراء انتخابات مبكرة واتخاذ موقف”!!!.
يبدو أن هذا الحزب لا يريد أن يقتنع بأن كل هذا الركض واللهاث خلف المعارضة التركية وخلف وهْم دمقرطة تركيا لن ينفعه في شيء، لأن كليجدار أوغلو لا يختلف عن أردوغان وعن دولت بهجلي وآكشنر وغيرهم عندما يتعلق الأمر بالكورد وبحقوقهم أو بمحاربتهم، وأن ما ينفعه هو فقط الشارع الكوردي الذي منحه ثمانين مقعداً في أول تجربة انتخابية له وجعله الحزب الثاني على مستوى كل تركيا. ولكنه أبعد نفسه عن القوى الكوردية وعمل لحسابه الوهمي الخاص فتراجع وصار ريشة في مهب رياح الخصوم.
من جهتها عندما أرادت الحكومة التركية قبل شهور التصويت في البرلمان على إرسال قوات إلى ليبيا قام وزير خارجيتها بجولة على جميع الأحزاب لتبادل الرأي والمشورة حول الموضوع باستثناء حزب الشعوب الديمقراطي. لماذا؟ لأن الأتراك (حكومة معارضة) لا ينظرون إلى هذا الحزب على أنه حزب تركي. كما أن الحزب لا يطرح نفسه على أنه حزب كوردي. تراه يتحالف بصفة آنية مع أطراف تركية سرعان ما تتخلى عنه بعد أن تحقق غرضها، ولكنه لا يعمل مطلقاً مع أطراف كوردية، علماً أن قوته كامنة في الشارع الكوردي وليس في غيره. وهذه هي كلمة السر التي تفسر تراجع القاعدة الجماهيرية لهذا الحزب من ثمانين مقعداً في أول انتخابات خاضها، نزولاً إلى أقل من ستين مقعداً في آخر انتخاب برلماني.
على المتحاورين الكورد اليوم في قامشلي أن يضعوا هذه التجارب والحقائق في حساباتهم: إن أي معارض (تركي عربي فارسي) في بلده قد يعارض نظامه في كل شيء، ولكنه لن يختلف معه أو يضغط عليه بأي شيء من أجل مسألة كوردية، بل سيتفق معه على إسقاط “شريكه” الكوردي، لأن صراعهما أساساً على السلطة وليس على طبيعة نظام الحكم: بماذا اختلف موقف حكم أردوغان من الكورد (إلا في التكتيك) عن موقف الأنظمة التي حكمت قبله ثمانين عاماً بما فيها حزب كليجدار أوغلو؟ انظر إلى ما تفعله فصائل “المعارضة” في كل من عفرين وتل أبيض ورأس العين فقط لأن سكانها كورد. انظر إلى ما تفعله هذه المعارضة حتى بالقبور فقط لأنها للكورد. انظر إلى ما تفعله منذ سنتين بمواسم الحصاد وأرزاق الناس وأشجار الزيتون فقط لأنها للكورد. انظر إلى ما يفعله جميع هؤلاء من تغيير ديمغرافي لإنهاء وجود الكورد. انظر حتى إلى إلغاء مادة اللغة الكوردية من جدول الامتحانات التي تنظمها المعارضة!!!.
أمام هذه الحقيقة الثابتة وهذا الواقع المؤسف يبقى الكوردي دائماً منفتحاً على الجميع أكثر من الجميع ويرغب دائماً في أن يقيم أفضل العلاقات مع شركائه في كل الجغرافيات التي له فيها حضور. ولكن الحقيقة الثابتة أيضاً أن هذا الشريك لن يقيم للكوردي وزناً ولن يعقد معه أية علاقة قائمة على شراكة حقيقية واحترام واعتراف متبادل إلا إذا كان قوياً، ولن يكون قوياً إلا بتعاضده الحقيقي مع الكوردي الآخر، فالسياسة لا تسير بالمثاليات والوعود والنوايا الطيبة.
لذلك إذا أراد الكوردي ألا يكون مجرد مطية لغيره أو ريشة في مهب رياح الخصوم، وأن يكون ذا حضور محترم وصوت مسموع وشخصية قوية على طاولة الحوار في قادم الأيام والمناسبات، فليس أمامه إلا سبيل واحد: أن يرتب بيته الداخلي أولاً. وإلا فسيبقى في حلبة الصراع ملاكماً من وزن الريشة ينازل خصماً من الوزن الثقيل. والنتيجة.. السقوط بالضربة القاضية.