فيصل سفوك
كثُر الحديث في الآونة الأخيرة عن مساع ومبادرات أمريكية – فرنسية متزامنة، وذلك بهدف تحقيق تقارب وحل الخلافات بين الأحزاب الكوردية في سوريا، ومع وجود معلومات تؤكد على تقدم ملحوظ في المسارات والمشاورات، وحتى التوافق على بعض المسائل السياسية وكذلك على تشكيل وتحديد أسماء المشاركين في لجنتي التفاوض من الطرفين، يرى البعض على إنها خطوة إيجابية نحو التقارب والتصالح وطي صفحة الصراعات العبثية، وتقليص فجوة الخلافات العميقة بين أقطاب الحركة الكوردية، وعلى أنها بادرة في نهاية المطاف تصب في مصلحة الكورد، في حين يشكك البعض الأخر من الهدف الحقيقي لها ويعتبرها خطوة متأخرة جداً، معزياً ذلك إلى مدى أهميتها بالنسبة إلى الأطراف الدولية في الصراع السوري الدائر، وأنها تخدم بالدرجة الأولى مصالح ومطامح وتقوية نفوذ تلك الدول، لا بل جاءت أصلاً انعكاساً لتفاهمات سرية غير معلنة فيما بينه ، وربما بعد اتفاق مبدئي على رسم خارطة سياسية جديدة لمستقبل الدولة السورية، ومن أجل تثبيت تلك التفاهمات فإنها تسعى جاهدة إلى توحيد صفوف القوى المتصارعة والمختلفة من حلفاءها أو في مناطق نفوذها .
وبالعودة إلى فرص إنجاح هذه المبادرات وإمكانية تحقيقها على المدى المنظور، لابد لنا بالعودة إلى أسباب وأسس وجذور هذه الخلافات وكيفية تبلورها، والبحث عن إمكانية إنشاء آلية لتحقيق وحدة صف بين كل من حزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” كطرف سياسي قوي مادياً وعسكرياً موجود وبقوة على الأرض، ويتحكم بجميع المقدرات والإمكانات والثروات المادية والبشرية، وبين المجلس الوطني الكوردي “ENKS” كطرف آخر ضعيف وهش، وبالكاد فَقَد معظم قاعدته الجماهيرية الواسعة، التي طالما كان يتباهى بها في الماضي القريب، ويضاف إلى ذلك مجموعة من قياداته اثبتت فشلها وبجدارة، تتحكم بمصيره وقراراته.
ولكي يتثنى لنا سهولة التوصل إلى بعض أهم الأسباب والمسببات التي خلقت كل هذا الفرق الشاسع في التكافؤ وموازين القوى، وكيف أنها رسخت وعمقت هذا الشرخ الذي بات من الصعب ترميمه, والتأكيد على أن أهم معوقات وحدة الصف, هو غياب تكافئ وتوازن قوى حقيقي بين أطرافها الفعليين، لابد لنا من سرد مختصر لبعض الحقائق التي رافقت مسيرة طرفي الصراع والخلاف.
نتذكر جميعاً عند تأسيس “ENKS” في أواخر عام 2011 ، كيف تسارعت قياداته وأحزابه وبعد تلقيها الدعم المادي من الإقليم إلى الانشغال بفتح مكاتبها والتركيز على النشاطات الثقافية والندوات الجماهيرية والمناسبات الاجتماعية والوطنية، وفي المقابل تغافلت وأغمضت عيونها تماماً عن الطرف الآخر، والمتمثل بحزب الاتحاد الديمقراطي “PYD”، الذي كان يسابق الزمن والأحداث وبوتيرة عالية وبإمكانات بسيطة ومتواضعة، من أجل بناء وتعزيز قوته العسكرية والبشرية، بهدف السيطرة على المناطق الكوردية، وشاهدنا كيف تحول فيما بعد إلى جيش قوي، يعتمد عليه أكبر دول العالم في التصدي لأشرس وأخطر قوى إرهابية في العالم.
وربما كان هذا سبباً رئيسياً دفع البعض إلى تحميل إقليم كوردستان مسؤولية ضياع وفقدان تلك الفرصة في تحقيق ذلك التوازن المطلوب لأية مبادرة تسعى إلى توحيد صفوفها، واعتبار الإقليم قد وقع في خطأ استراتيجي وتاريخي، بإفساحه المجال للتمدد الآبوجي في روج آفا، من خلال تسهيل دخول الدعم المادي واللوجستي عبر الحدود من جهة، والضغط على قيادات ال “ENKS” لدفعها إلى التقاعس والتراخي والتساهل في التعاطي مع ذلك المد من جهة أخرى، وذلك في ظروف مصيرية وحساسة جداً من تاريخ الكورد في روج آفا، إلى جانب تخليه الكامل في دعم بعض التشكيلات الكوردية المسلحة، والتي كانت قد تشكلت من مبادرات إما فردية أو مجموعات مستقلة، بهدف حماية المناطق الكوردية، ولكن تم القضاء عليها فيما بعد، لفقدانها أي شكل من أشكال الدعم المادي والمعنوي والسياسي أو العسكري، كل هذا كان بمثابة الضوء الأخضر ل “PYD” للعمل بكل أريحية وفي ظل غياب تام لأي منافس حقيقي وليس افتراضي، مع وجود تفاهمات وتوافقات كانت قد حصلت مسبقاً بينه وبين النظام السوري .
وبقراءة بسيطة لمجريات الأحداث نجد بأن إقليم كوردستان ربما تدارك فيما بعد ارتكابه ذلك الخطأ وأحس بخطورة استيلاء حزب الاتحاد الديمقراطي “PYD” على روج آفا، وخاصة بأن حليفه الاستراتيجي والمتمثل ب PDK-s، بات ضعيفاً وبدأ يفقد قاعدته الجماهيرية, لذلك سارع في التحضير لعقد عدة مباحثات ثنائية بين طرفي النزاع, أثمرت في النهاية إلى توقيع الطرفين على اتفاقيات اهمها اتفاقيتي هولير ودهوك والتي تمخضت عنها على سبيل المثال الهيئة الكوردية العليا، والتي لم تدم سوى شهور قليلة، وسرعان ما تلاشت قبل الاتفاق النهائي على تشكيل اللجان والهيئات الفرعية المنبثقة عنها.
في الحقيقة الافتقار إلى التفاؤل في تحقيق وحدة سياسية حقيقية بين أحزاب وأقطاب الحركة الكوردية، لا يعني إطلاقاً رفضها أو عدم قبولها أو تشجيعها أو الوقوف حجر عثرة في سبيل تحقيقها، ولكن ما أردنا قوله، هو أن أي وحدة لا تبنى على أسس متينة وروابط وثيقة، وليست نابعة من إرادة حقيقية لأطراف قوية ومتكافئة, ولا تستند في أولوياتها على مصالح وحقوق الشعب الكوردي، سوف تكون فرص نجاحها ضئيلة، وسوف تواجه صعوبات وعقبات كبيرة في استمراريتها، وخاصة في ظروف واجواء سياسية مشحونة وغير متهيئة، نتيجةً لخلافات مبنية على المصالح الشخصية والحزبية، وفي ظل صراعات وحروب إقليمية ودولية بالوكالة, أصبحنا فيها نحن الكورد جزء منها رغماً عن إرادتنا، وكنتيجة حتمية لتبعية جميع الأطراف إلى القوى الدولية المتصارعة على تقاسم الكعكة السورية.
وفي النهاية اعتقد من المفيد جداً أن نقرأ وبواقعية، أبرز النماذج والشواهد على مثل هذه الوحدات الإلزامية في تاريخ الحركة السياسية الكوردستانية، ألا وهو نموذج إقليم كوردستان بين كل من حزبيَ البارتي الديمقراطي الكوردستاني والاتحاد الوطني الكوردستاني والتي تمت أيضاً بمبادرة ورعاية أمريكية، وبالرغم من أنه لا يمكن لأحد إنكار حقيقة بعض الإيجابيات والنجاحات، من اجراء انتخابات شاملة نزيهة وشفافة وديمقراطية وتشكيل حكومة مركزية وبرلمان ..إلخ ، إلا أنه مازال الاتحاد الوطني يتحكم بمصير السليمانية وبعض المدن والبلدات والقرى التابعة لها، ويمتلك قوات بيشمركة تتبع سلطته وليس سلطة الإقليم الشرعية، ومازالت الى يومنا هذا تلك الخلافات القديمة، عميقة ومحتدمة ومستمرة، ومازال الصراع على النفوذ والسلطة قائم وبكل أسف.