قهرمان مرعي
(معدن بعض الرجال يصقله الزمن فيزداد بريقاً والبعض الآخر يتلوّن كالزئبق يسيل و يتزبَّد فيصبح غُثاءً )
عملت سياسات الأنظمة المستبدة في تاريخ سوريا السياسي الحديث وبخاصة منذ انقلاب حافظ أسد 1970 على تفكيك وتحطيم منظومة القيَم للشعب السوري وكانت أشد وطئاً وتدميراً على الشعب الكوردي، كونهم كانوا معنيين كغيرهم حسب السياسات العامة ومستهدفين وفقاً للسياسات الاستثنائية، ولم يزالوا يتعرضون بشكل مزدوج من مختلف الأطراف منذ بدء الأزمة السورية بثقلها الداخلي والإقليمي والدولي. فالقيم التي يتحلى بها الإنسان الفرد وفق نشأته الأسرية، تنعكس بشكل مباشر على منظومة القيم الاجتماعية التي تسود الجماعة وتختلف تأثيرها سلباً أم إيجاباً قياساً للتبدّلات التي تطرأ على سلوكيات الأشخاص بتغير أحوالهم الاقتصادية والسياسية ويبقى فئة قليلة من البشر لا يمكن للظروف الصعبة مهما بلغت سوءاً أو سعة الحياة وبحبوحة العيش، أن تنال من إرادتهم الحرة و كرامتهم الشخصية،
صحيح إن الأسوياء من البشر هم الذين يتحمّلون معاناة الحياة أكثر من غيرهم ويبقى الأمور في كل الأحوال نسبياً ولكن الخطر الأكبر الذي يداهم المجتمعات التي في طور التحول السياسي، يحدث بفعل تبدُّل القيم الجميلة والنبيلة بتلك القبيحة والشريرة ويزداد الخوف عندما تصبح ظاهرة، تغزوا المجتمع وتجعله مسلوب الإرادة ومهدد في تقاليده الاجتماعية وقيمه الحضارية .
مقياس القيم التي يتحلى بها كل إنسان، تتجلّى عندما يكون الشخص في موقع المسؤولية بغض النظر عن نوع هذه المسؤولية ـ وظيفة عامة أو سياسية، استغناء مالي واقتصادي، امتياز علمي أو مهني ـ سواء كانت هذه الخاصية شكلية أو جوهرية أو الاثنتين معاً و يبقى مؤشر القيمة على سلّم النتائج هو الأساس عندما يتعلق الأمر بالتكليف السياسي (المنصب) و بقضية عادلة لشعب مضطهد، لها من المعاناة ما تنوء على حملها الجبال، وهنا يبرز معدن الرجال .
سلّم القيم الايجابي يبدأ بالصدق، صدق الشخص الذي يعمل في الشأن السياسي مع نفسه قبل أن يكون صادقاَ مع الآخرين، فإمكانه وبشكل مستمر أن يضع نفسه تحت الاختبار و أعماله وتصرفاته للمحاكمة ويجري حساباً دورياً للمراجعة والتقييم فيما أنجزه وما لم يقدر على إنجازه وما يمكن استدراكه وإصلاحه وما لا يمكن، من منطلق المسؤولية الشخصية وتبعاتها الأخلاقية والقيمية، لا أن يكذب ويتهرب ويختلق الحجج ويحمِّل الغير والظروف تبعات تصرفاته وفشله ويختبئ ضمن دائرة التحالفات الحزبية التي أصبحت مجالس للأعيان بفعل الامتيازات وتبادل المنفعة والركود السياسي و عدم القدرة على الحركة والتجديد.
فالصدق لا شك، يخلق الثقة ويوسع من دائرتها ويُمِّتن العلاقة بين الأفراد الذين ارتضوا لأنفسهم العمل الجماعي ولا يمكن بناء الثقة وتعزيزها دون أن تقترن الأقوال بالأفعال والمشاركة في اتخاذ القرار وعدم التفرد والتصرف والاستحواذ على القرار الجماعي الذي يزعزع الثقة ويضعف القدرة على ضبطها وبالتالي فقدانها، فمن خلال قراءة الواقع والتجربة ومع مرور الزمن وتقلب الأحداث وتسارعها تصبح تلك (الهيئات) السياسية الجامعة للحزب السياسي الكوردي، مطية لتمرير المصالح الشخصية الدنيئة بفعل الانقسام وتشكُّل دوائر صغيرة في الهرم التنظيمي والسياسي، موالية ومعارضة كما هو شأن كل صراع على السلطة والثروة والوجاهة ، بغض النظر عن مدى شمولها و حجمها، وهكذا نكون أمام واقع صادم من الشك والريبة بفعل أشخاص بعينهم، يفتقدون في تربيتهم إلى ثقافة الاعتراف بالفشل وتحمل المسؤولية والتنحي، بل ينتقلون للاختباء وراء من يخلفونهم في المنصب من ذات الدائرة الفاسدة، مع الاحتفاظ بوظائفهم لحماية أنفسهم من المسائلة والحساب وهكذا يتحول صراع (المناضلين) اليائسين إلى تنافس حدّي ضمن مكعبات من التراكمات والاتهامات لا تحتوي سوى طاقة مستنفذة من التضليل والتزييف والتحريف ، يستعاض عنه شعورياً وحسياً بالتخلص، كل فريق من الآخر. وهنا يتكرر المشهد المألوف في الحياة السياسية للحركة الكوردية بأحزابها المستنسخة من خلال إيجاد فرص النفعية لأشخاص آخرين للفوز بالمنصب المماثل في تشكيلة الحزب الموازي على حساب بعثرة الجهود والوحدة، فيما القضية المصيرية تأخذ طريقها أدراج رياح التآمر و فصول الخداع بفعل فارق القوة والقدرة لغاصبي كوردستان مع انتفاء معايير المقارنة بسبب مرارة التجارب والانتكاسات.
وعلى مستوى تصرفات البعض، عندما تغيّر أحوالهم بسبب الهجرة واللجوء والكسب والتمتع ببعض المزايا في مكان الإقامة وخاصة في الجوار الجغرافي، وانعكاس سياسات تلك الدول والحكومات على واقعنا السياسي، ينكشف مدى سذاجة أصحاب النيات الصافية تجاه بعض ممن عملوا سوياً في السياسة، وبساطتهم في أخذ الأمور من منطلق حسن النوايا التي سبقت الثورة أو في بداياتها السلمية ، يتبين مدى التغيير الذي أصاب وجدان بعض الناس في الخارج لا يقل ما يحدث في الداخل للمجتمع من مخاطر يستهدف كينونته ووجوده.