الكردي في خيانات موصوفة.. مقاربات خارج التشخيص -رؤى-

إبراهيم اليوسف
بدأة، لا بد من أن أبين أنني أتطير من كلمة – الخيانة- ولم يحدث لي أن أطلقتها على أحد في بعدها الوطني والقومي والإنساني، وإن كنت أستطيع، ومن خلال الاحتكام إلى حقل تجارب منظورة التحدث عن نماذج من الخيانات ذات الطابع الشخصي لدى أبعاضهم، على أكثر من صعيد، ولعلنا وفق أي معجم لغوي لمادة “خون” *نرى أنها مرادفة ل : نقض العهد، والغدر، واللا إخلاص، والانقلاب، عدم أداء الأمانة، ولعل كل هذه الصفات المنبوذة تكاد تغدو جد عادية في غياب سمتي المبادئ والقيم، إلا أن من يرتكبون هذه الآثام قادرون على العيش بين ظهراني مجتمعهم وكأن شيئاً لم يحدث لهم، بل ثمة من لا يعيب على أحد هؤلاء، ولا يتخذ موقفاً أخلاقياً منه لطالما أنه ليس ضحية  أحد أشكال الخيانات الصغيرة أعلاه.
شخصياً، مررت في تجربة تنظيمية في مرحلة ما من حياتي، وانتفعت بها، ولقد صادفت: المناضل والمبدئي والصادق والمضحي والكريم وغير ذلك من الصفات التي كانت تتوافر في بعضهم من المعروفين أو الجنود المجهولين  خلال هذه التجربة الغنية التي تعرفت خلالها على الحياة وتصقيل الوعي، إلا أنني ومن حولي كنا نجد بأم أعيننا، ممثلين، مهرة، أشبه بالثعالب يلعبون أدواراً كثيرة، ولا أريد أن أمضي في تصنيفات هؤلاء، لئلا يظنن أحد بأنني أجد في هذه المدرسة – وحدها- أمثال هؤلاء، إلا أنني أتحدث عن تجربتي العميقة في مرحلة ما، ومن خلال حقل تجارب عيانية، إلا أن مثلهم في كل مكان. في كل مؤسسة. وكل مدينة. وحي. وشارع، فهم جزء من حالة اجتماعية عامة، وإن كانت ذات وعي مضاعف، بل لربما الأقل فساداً، لاسيما بين أوساط غير المنتفعين، من أي ضرع حرام، ولطالما كنت أواجه هذا النموذج في الشارع، أو الحي، أو مكان العمل، أو حتى في المؤسسة، وإن كنت أحاول أن أختار لنفسي من هو في منجى من هذه الآفات، لأراني مخطئاً في أكثر من حالة، وضحية خديعة، ولأرى أنني ظلمت آخرين، وكل هذا أمر طبيعي، لاسيما إذا أدركنا أن مناضل اليوم قد يكون نهاز الغد، ولعل” معيوباً “ما يستطيع التطهر، والتخلص مما هو فيه – إن كان إثمه غير مؤذ-  واعتبر من تجربته الشخصية، وإن كنت أعرف أن المال “الثروة” أعظم امتحان أمام جميعنا ناهيك عن غوايات الجنس التي لا يصمد كثيرون أمامها، والسلطة التي قد يستطيع المرء التعفف في مواجهتها.
وإذا كنت قد ذكرت الجنس ” المرأة/ الذكر”- هنا- فأنا مدرك أن ثمة قانوناً عاما ينظم العلاقة هنا، ولعلنا أبناء مجتمع ذي طبيعة معروفة من قبلنا، وإن كانت قولة كثيرين في الشارع العام: نحن لسنا كهنة!- وهو كلام قلت فيه الكثير، وناقشته مطولاً، وله قانونه الذي يمكن مناقشته في أجواء ينتظمها الوعي والصدق، وإن كان الحديث في هذا الجانب ينتمي إلى ما هو معتم في سيرة أي منا، إلا بالقدر الذي يكشفه هو منه. أعترف، أنني، وكما سيلاحظ القارىء الكريم، لما أدخل في متن ما هو مراد، وهو الحديث عن الخيانة الأخرى: خيانة القيم والمبدأ، سواء أكان ذلك ضمن المؤسسة التي ننتمي إليها سياسية كانت، أو مدنية، أو اجتماعية، أو قومية، تتعلق بالعقل الجمعي، فهي أيضاً على درجات بقدر علاقة هذا المفهوم بالدائرة العامة، وإن كان الأمر لا يختلف هنا إن كان في ذلك مس بحياة فرد، أو جماعة، أو شعب، لأن في مقتل امرىء مقتل شعب!
ما أرغب تناوله، ومنذ وقت طويل، هو نقد بعض المفاهيم التي باتت تنتشر بين ظهرانينا، والتي تتعلق بارتكاب أفراد كرد، خيانات موصوفة في تواريخ شعوبهم، منها ما قد يكون لها بعد عاطفي- ويمكن إدراج نمائم بكون عوان ضمن إطارها- وهكذا بالنسبة إلى حالة المخبر على صعيد آخر مختلف، كما إن هناك حالات بارزة في التاريخ تواطأ فيها الشقيق ضد شقيقه، وغدا حصان طروادة للإجهاز على ذويه، وثمة أمثلة كثيرة يمكن أن تكون حالاتها نواة كتاب بعنوان” سيكولوجيا الخيانة في أمثلة من التاريخ” مقابل كتاب آخر” سيكولوجيا الخيانة في أمثلة من الواقع”، وإذا كان الحديث في الماضي ممكناً، إلى حد ما،  بل وإن كان للماضي حماته، وأهلوه، وورثته- ولو عاطفياً  أو غريزياً فحسب- إلا أن الحديث في الحاضر،  حتى وإن كانت أمثلته أكثر سطوعاً وسهولة أمام التوصيف والتشخيص، إلا أن القوة الحامية له رعناء، قاهرة، ضارية،  لاسيما في وجود نخب منتمية إليه- ولو اسمياً مرشحة للتخلي عنه في حالة أي تغيير- منتفعة منه،  بعد أن غدت مرتبطة المصيربه! 
ثمة أمر آخر، وهو أننا- وفي مجتمعنا الكردي- ولاسيما في ظل امتداد الحزب للحالة” المحمودكية/ العثمانكية” غير المتأتية من فراغ،  رحنا نسهل تمرير مفردة “الخيانة” عندما ينعت بها طرف طرفاً آخر، كان معه حتى الأمس، لمجرد الاختلاف معه بالرأي – وهو خارج دائرة العناية هنا- بالرغم من إمكان التفصيل- في هذا المقام- عن حالات الشقاق الهائلة، ولكن ضمن توصيف كل حالة: ترى على أية قاعدة تم هذا؟، وبخاصة عندما يتم تبادل المصطلح، وذلك في ظل استسهال هذا الفعل من قبل مرتكبه، لأغراض محض ذاتية، أولربما يكون الأمر مختلفاً، كأن يكون ذلك في مواجهة ماهو ذاتي، وليس من حكم من لدننا على أحد هنا، لأننا في إطار سرد الأمثلة، لاأكثر.
لقد تم تشويه تاريخ كثيرين من ضحايا- الحالة التحزبية- من قبل أندادهم، بسبب الاختلاف في وجهات النظر، أو حتى انطلاقاً من تحسبات لم تتم، ولقد رحل عن عالمنا بعض هؤلاء، من دون أن يعتذر منهم من أساؤوا إليهم، في لحظة صحو ضميرية، ولعل الغرابة هنا تكمن في مد الطرفين: المخون والخائن” وعادة كليهما ينعت الآخر بالصفة المذمومة”، أيديهم، إلى بعضهم بعضاً، في محطة تالية، من أجل مصلحة عامة أو خاصة، من دون نقد الذات من قبل الطرفين!؟
أعتقد، أنه لا ضير، الآن، أن نعود إلى أمثلة حية من التاريخ، لنشخص الخيانات التي تمت- بغرض الانتفاع منها وتنفير الأجيال منها-  مع التأكيد لمن هم امتداد طبيعي، سلالي لمرتكبي بعض الخيانات المدونة، أن ما قاموا به: مخيرين كما في حالات  البحث عن الأمجاد والمنفعية والسلطة والثأر،  أو مكرهين كما في  حالات بعضهم تحت ضغوطات التعذيب، أو نحوه، أو الجهل، ودراسة طبيعة الثقافة التي أدت إلى ذلك، لأن الخيانة بالرغم من قماءتها، وقبحها، ودناءتها، وشناعتها، فهي ممكنة الحدوث، ولقد رأينا أنه في ظل استبداد نظام البعث في سوريا أو في العراق، من تمت شراء ذممهم، وراحوا يلحقون الأذى بسواهم- ولن أمضي في التحدث عن حاضر بعض من هم بين ظهرانينا- وما يؤكد سمو روح الكردي هوأن هذه الأحداث نادرة، ومشينة، وتسجل كعارفي صفحات مرتكبيها، وهذا يعود إلى أن-العامة- هم من يدينونها، إلا أننا- وبأسف- نجد بعضنا، وتحت وطأة الانفعال، ومن دون أية مسؤولية قد نعمم مثل هذه الحالات، بما يسيء إلى تاريخنا الناصع. هذا التاريخ الذي وبسبب نبل الكردي، وصدقه مع سواه، ووفائه له- كما في العلاقة مع الإسلام- العلاقة مع الوطنيات” المصطنعة” التي عاش الكرد مع وجوهها، ودفعوا ضريبة إخلاصهم. أجل، ثمة حالة تاريخية. ثمة استبداد، هما وراء سقوط بعض الوجوه، وإن كانت عوامل: الجهل- الإيقاع بين الناس- التحاسد” وكلها أمراض مكتسبة في ظل الاحتلالات التي تعرض لها الكردي.
لا توجد -جينات- نبل، أو خيانة. وطنية أو لا وطنية. بطولة أو جبن، أخلاق أو لا أخلاق، وإنما هي عبارة عن مفاهيم تكتسب نتيجة تربية وثقافة محددتين، وفي ظل بيئة محددة، ونتيجة دوافع خاصة، لاسيما في ظل تضبب الرؤى، وامتلاك القوة، واستنهاض روح الثأر، والضغينة على المختلف معهم، أو تنفيذ المهمات الموكلة لأحدهم خدمة لجهة قوية، معروفة، أو مجهولة.
من يعد إلى تاريخ العالم، فإنه لواجد بأنه لم يخل- في يوم ما- من ارتكاب بعضهم الخيانات بحق سواهم، لاسيما إن الجهل كان صفة عامة في أجزاء واسعة منه، ناهيك عن أن الحروب، وحالات اللا استقرار هي بيئة مناسبة لتعشش فيها بذرة الخيانة، ولطالما وجدنا ثمة قادة، اكتشفوا أمور من حولهم، على أنهم خونة. وإن كنت أرى في الخيانة نسبية، وكمثال هنا فإن مقرباً يطيح بالدكتاتور هو خائن من وجهة نظر الدكتاتور وبطانته بيد أنه بطل في من خلال وجهة نظر العامة، ولعلنا نستطيع أن ندلي بمتوالية لامتناهية من الأمثلة المشابهة، على هذا المقياس، أو المبدأ؟؟!
ما يحدث، الآن، هو أن هذه الكلمة باتت جد بذيئة في- معجم مصطلحاتنا اليومية- إذ لابد من التدقيق عليها، وعدم إطلاقها إلا في إطارها الصحيح، بحيث تكون لنا معاييرنا المتكاملة، والرصينة، لاسيما بعد تمييعها في العقود الأخيرة، وبخاصة في السنوات العشر الأخيرة، إذ باتت أداة لرعب الآخر، وتكميم الأفواه، ولقد وجدنا كثيرين من نخبنا استسلموا أمام الواقع- البائس- إما منخرطين في لجة الخطيئة- وإن في إطار السكوت عنها- أو أنهم في إطار السكوت النهائي امام كل ما يحدث، والتصرف بروح –لا ابالية- حماية لذواتهم من التصفية المعنوية، بعد أن غدا القصف الإلكتروني آلم وأوجع من القصف الناري وحتى الكيميائي،  وهكذا فقد خسرنا الكثير من الأصوات المؤثرة التي كان يمكن لها أن تؤدي دوراً جد مهم في هذه المرحلة المفصلية.
إن أسوأ مافي مصطلح الخيانة هو أن يتم إطلاقه من قبل ممتلكي أداة القوة بحق الضعيف، وأن يكون لدى هذا الطرف وسائله الإعلامية، وجيش مرتزقته الذين انضموا إليه في لحظة قوته، بل والأكثر سوءاً من بين هؤلاء نخبهم. أو لأقل: النخب المكتراة من قبلهم الذين ينخرطون في إيذاء  وأبلسة المختلف مع الآلة المستبدة – في لحظة تحولها إلى بقرة حلوب وبارودة استقواء- ليتم التغطية على كل جرائم هذه الآلة، وتمرير  حالة من يرتكب فعلاً شائناً- هو في رامة الخيانة- أو ما بعدها، إلا أن لديه مطهره المركب من: العنف والإغراء، وفي هذا ما يميع، أو يجهض المصطلح.
ولابدَّ، من الاعتراف، أن استخدام- المصطلح- في غير مكانه، عبر تزكية الأتباع ولو كانوا مدنسين، والمختلفين ولو كانوا “مقدسين”- والتقديس هنا السمو الأخلاقي الإنساني لا الغيبي –  والقائم على: التضحية وخدمة العامة- ففي ذلك إمعاناً في تكريس حالة التشويه، والعماهة، وقد يبلغ الأمر ذروة التدمير المنظم عندما يتم إعدام أبطال حقيقيين، غيريين، والرفع من شأن من يبتذل المفاهيم، ويرتكب الفظائع بحق الضعفاء، وينحل من قيم الانتماء الناظمة: الوطنية- القومية- الإنسانية- من أجل منافع ذاتية، ولو على حساب شعب ووطن وأمة وعالم كامل!
*المقال هو الحلقة الثانية من” تراجيديا مصطفى سليمي وكشف اللِّثام عن قبائح وجوه اللئام..! “
– كفى الشهيد فخاراً أنه بطل لدى أشراف شعبه
ومن هنا: تشديد العدو على خيانة أحدهم تشديد على طهر
**يقول المثل الكردي:
من التي -ضرطت-؟  فيكون الجواب” فلانة” التي بلا أب وأم” أي اليتيمة”” والمراد: التي لا أحد لها”
***أرى حقاً، أن تكون من بين دراسات التاريخ  السياسي للكردي أطروحات جامعية حول” الخيانة/ التخوين” ودواعي مفاقمتها اصطلاحاً
**** يمكننا أن نتساءل: لماذا لا يستخدم الكردي – الآن- مفردة الخيانة بلغته الأم، وإنما يأخذها من العربية أو الفارسية أو التركية

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

خالد بهلوي تحت شعار “وقف العنف والتهجير – العيش المشترك بسلام”، وبمبادرة من مجموعة نشطاء من الشابات والشباب الغيورين، شهدت مدينة إيسين الألمانية يوم 21 ديسمبر 2024 وقفة احتجاجية بارزة للتعبير عن رفض الاحتلال التركي والتهديدات والانتهاكات التي يتعرض لها الشعب الكردي المسالم. الحضور والمشاركة: حضر الفعالية أكثر من مائه شخصً من الأخوات والإخوة الكرد والألمان، إلى…

د. محمود عباس ستكثّف الولايات المتحدة وجودها العسكري في سوريا وستواصل دعمها لقوات سوريا الديمقراطية (قسد) والإدارة الذاتية. تدرك تركيا هذه المعادلة جيدًا، وتعلم أن أي إدارة أمريكية قادمة، حتى وإن كانت بقيادة دونالد ترامب، لن تتخلى عن الكورد، لذلك، جاء تصريح أردوغان بعد عودته من مصر، ووزير خارجيته من دمشق اليوم كجزء من مناورة سياسية تهدف إلى تضليل الرأي…

شادي حاجي المرء لا يذهب إلى طاولة المفاوضات وهو خالي الوفاض وإنما يذهب وهو متمكن وقادر والمفاوض يكشف أوراقه تدريجياً تبعاً لسير العملية التفاوضية فعند كل منعطف صعب وشاق يقدم المفاوض بطريقة أو بأخرى معلومة ولو صغيرة حول قدراته على إيقاع الأذى بالطرف الآخر من أجل أن يكون مقنعاً فعليه أن يسأل عن مقومات الندية والتي تتركز على مسألة القوة…

إبراهيم اليوسف منذ سقوط النظام المجرم في 8 كانون الأول 2024 وتحول السلطة إلى السيد أحمد الشرع، بات السوريون، سواء أكان ذلك في العاصمة دمشق أو المدن الكبرى والصغرى، يتطلعون إلى مرحلة جديدة يتخلصون فيها من الظلم والاستبداد. حيث سنوات طويلة من مكابدات المعذبين في سجون الطاغية الأسد وأبيه”1970-2024″ كانت كفيلة بتدمير أرواح مئات الآلاف. إذ إن بعض…