يشار كمال

موسى عنتر
الترجمة عن الكردية: إبراهيم محمود 
اندلعت الحرب سنة 1895 بين العثمانيين والروس. يقول أحمد خاني في شعر له ” الكرد دائماً حدوديون، وهم أهداف سهام الأعداء “، وقصده: أنه متى تحارَب كلٌّ من العرب، الفرس، الترك والروس، مع بعضهم بعضاً، تصيب سهامُهم الكرد، حيث أصبحت كردستان لهؤلاء الظَّلَمة معبَراً،  وأصبحت راهناً، مشكّلة لهم ممسحة أرجل. وقد كانت نصف حروب هذه الشعوب الغريبة تجري في كردستان، والأخيرة كانت سنة 1915 .
إذ كان العثمانيون يقتلون الأرمن، وكان الروس الأرمن ينالون ثأرهم منّا نحن الكرد. ونحن الكرد لم نكن مثل سكان تراقيا وأجَيِه. فاليونان والبلغار قدِموا حتى أدرنه، وقدِم اليونان حتى بورصه. ولم يخرج تركيُّ من بيته، بالعكس، لقد عزَم اليونان والبلغار. وهذه ليست إهانة، إنما حقيقة تاريخية. سوى أن الروس والأرمن حين دخلوا سرحد كردستان، لم يرض الكرد ذلك، تركوا ممتلكتهم وبيوتهم، وتركوا طعامهم على الموقد ” الإثفية “، وحملوا صغارهم، وهربوا صوب كردستان الغربية ” سرخت “. وللأسف، فإنه توجد مقبرة للمهاجرين الآن، في كل قرية من كردستان الغربية.وهناك من ماتوا جوعاً، ومن ماتوا عن مرض، والدولة العثمانية، حيث كانت الحكومة فيها تدار من قبل الاتحاد والترقّي، ما كان هؤلاء أيضاً، أقل عداء للكرد من الروس والأرمن. وإليك مثال والد يشار كمال الذي قدِم لهذا السبب إلى  أضنة. وأصله من مهاجري غواشي Gewaşê . وقد ولِد كمال في ناحية من قضاء أضنة. وهو كرديُّ الأبوين. سوى أنه ترعرع تحت وطأة التهجير والفقر والكردية المراقبة من قبل الأتراك.وهناك ذكريات كثيرة مشتركة بيننا. البعض منهم من مرحلة الفقر، والبعض الآخر من مرحلة العبثية.
ذات مرة كنت أعيش هذه الحقبة من شبابي، وقد توجهنا أنا وصديقي نجاة جميل باشا إلى شاطىء كوجوكيالي. ونحن مكتفيان شبعاً وغنىً، وكنا نسبح في البحر، فسمعنا صوتاً تناهى إلينا من خارج الشاطىء، وهو يغني ” bêmal “بصفيره، وكان لأداء صوته هذا التأثير الكبير فينا. فتحركنا ناحيته سباحةً، فأبصرنا على صخرة كبيرة خارج الشاطىء، ولداً بائساً، وأعمى، وهو يقتعد الصخرة تلك، فٍاله:
يا أخ، من تكون ؟
فرد غاضباً: من تكون أنت ؟
فقلت: يا صاحبي، كنت تصفّر بالكردية، وهذا أمتعنا، ولهذا أنا أسألك .
وماذا يعني ذلك؟ أن أصفّر بالكردية !
أأنت كردي؟
أياً أكون، أكون هو .
لا تغضب يا أخ. لقد أحببت جسارتك كثيراً، بحيث أعطيك عنواني، فتستطيع أن تزورني .
فتردد، وهو يتمرجح يمنة ويسرة، حتى قال: بلى.ومضى، وهو يخرج قلماً من جيبه، وكتب عنواني .
ومضت عدة شهر،على إثرها أراد أن يراني. ولقد عيّنت حارساً كردياً لي في محلة فرات يوردا، وكان في منتهى الصلف، فما عدا ما هو قانوني لم يكن يعرف شيئاً آخر.حينها يأتي كمال مستفسراً عني، سوى أن علي ينظر إلى هيئته وقيافته، لم يعجبه شكله، فيقول له: انقلع وِلَك، لن يتحدث معك المدير : ” قالها بالتركية “. والمدير بدوره هو أنا. سوى أن كمال يصر في طلبه. فجاء علي إلى الداخل، وقال بالتركية، مشيراً إلى منظره . وكانت سنوات الحرب، وهنالك فقراء كثيرون كانوا يقصدوننا. قلت له: من هو؟  قال: اسمه كمال. وهو يشار، وإحدى عينيه كفيفة.تذكرت، فقلت: تعالوا. لقد قدِم يشار كمال. ومن ذلك اليوم أدركت أن فيه خصلة رجولة.فنهضت إليه،وقبَّلته، ثم أجلستُه، ثم تجاذبنا أطراف الحديث. وحل الظهر، فكان هناك نزْل لي، وقد مضينا إلى هناك، فتغدَّينا، ولاحقاً صعدنا إلى الأعلى، فقال: سوف أذهب. فقلت: فلأساعده قليلاً. فدفعت إليه عشر ليرات. وقتذاك، كان هذا المبلغ كبيراً. حاولت المستحيل معه فرفض، حيث قال: كلا، فلتسلم، أنا أعمل، ومعي نقود، وأنا لم آت ِ إليك من أجل النقود. فتبيَّن لي أنه إنسان يختلف عن الكثيرين. فتركته، ومضى .
وتتالت السنوات، فأصبح كمال يشار كمال. سوى أنني حتى اليوم،لم نفترق عن بعضنا بعضاً. وفي سنة 1969، انعقد مؤتمر لحزب العمال التركي في بايزيد في القصر الأبيض، فمضينا إليه أنا وكمال، ولقد طوَّقنا الفاشيستيون، حيث هاجمون بالعصي والسكاكين. في البداية أمسكوا بعزيز نيسين، حيث رموه أرضاً وهم ينهالون عليه بالركلات والتفلات، وكنا أنا وكمال والدكتور مصطفى ديرَكليغيل معاً. فهجم علينا الفاشيستيون، وهم يقولون: أيها الشيوعيون، عديمو الشرف، ها قد جئناكم. فاقتربوا منا ليضربونا، فتقدم منهم يشار كمال بضخامة جسمه، وقال:  فليفعلها الشيوعيون في أمهاتكم. ألا تعالوا :
Komunîst bikutin diya we de werin
فما كان منهم، وهم ينظرون إلى ضخامة كمال المرهوبة الجانب إلا أن هربوا جميعاً. 
ومرة أخرى، تتسلسل السنون، واعتُقِلتُ، وأصبح يشار كمال ” محمد الصغير “، وحل على لسان البورجوازية في أوربا كذلك، وذاع صيته. نعم، قبل الآن بأربعين عاماً، ما كانوا يمنحون جواز سفر لي وله كذلك. إنما تالياً منحوه إياه، فلم يعد كمال “مداح الذئب “، أصبح كاتب الوجهاء الترك. إنما ما الجدوى، كان العالم جميعاً يعرف بأن أصله كردي، ويكتب بالتركية، ولهذا السبب، كان ذلك عائقاً أمام منحه جائزة نوبل بشكل لافت. إذ تبعاً لرأي لجنة نوبل، إن الذي لا يصبح معنياً بأصله، لا يكون مقبولاً، ولا جديراً بهذه الجائزة، وكمال الآن، يتعذب بهذا الحسرة. إنما ربما لا يكون لدي مقصد في هذا الشأن، حيث ما كنت أفطن إلى هذه الأمور. طبعاً، أصلي كردي، سوى أن المذنب لست أنا. إنهم العثمانيون، الروس، الأرمن، الجهل، والجمهورية التركية الآن .
أسفٌ على يشار كمال، إنما من يتأسف له ليس كمال وحده، فمن هم مثله قبله وراهناً كثرٌ، مثل شاعر الديوان نَفي، نَبي، ضيا غوكآلب، سليمان نافذ، وعلي أميري…الخ. إلى درجة أنه يمكنني القول أيضاً، وما شأني بالأتراك؟ سوى أن كتاباتي جميعها حتى الآن بالتركية .
رجائي ، من الآن فصاعداً، من شباب الكرد، أن ينظفونا. لسنا خونة، سوى أننا كنا جهلاء ومعدومو الحيلة، إذ كنا مضطَّرين إلى أن نصفّر بصفّارة الأعداء .
12 شباط 1992 
المصدر: كتابه:
Musa Anter : Çinara min , weşana Aram Istanbul, ç3,2013, r:85-87
موسى عنتر ” 1920-1992 ” دفع هذا الكردي الكبير ثمن صوته الزلال والعالي غالياً، حيث تم اغتياله. وأما يشار كمال ” 1923- 2015 ” فهو بدور، كردي الأصل، وكما ورد في متن مقال عنتر عنه، لم يُمح الكردية في كتاباته المسطورة بالكردية، والعالم عرفه هكذا. ولا يجب أن يكون ما قاله شهيد الكلمة النيّرة عنتر، عن كردية كمال، وكرديته، حجة لمن لا يدّخرون جهداً من كتّابنا في اعتبار الكاتب كردياً حين يكتب بلغته الأم، وفي كل مناسبة وغير مناسبة. تُرى ماذا يفعل هذا الكم الكبير من متفقهي الكردية هنا وهناك، والأحداث المفصلية أثبتت أنهم ما أن يستشعروا هجوم فيروس كورون معاد هنا وهناك، أو تهديد فيروس كورون عدو للكرد، لشعبهم، حتى يلازموا عتمة بيوتهم؟ وعنتر وهو يتأسف لأنه لم يكتب إلا بالتركية، تعبيراً عن موقف معين، وليس عن أصالة الدم الكردي القاني في بنية كتاباته. إذ ما أكثر ما يتكلم الدم الكردي في النزالات الكبرى غير لغته الأم، ويعرّف بها، وسط صمت مخز ٍ، لمن يلوّحون بها في الصالات المغلقة ….

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إياد أبو شقرا عودة إلى الموضوع السوري، لا بد من القول، إن قلة منا كانت تتوقّع قبل شهر ما نحن فيه اليوم. إذ إن طيّ صفحة 54 سنة خلال أقل من أسبوعين إنجازٌ ضخم بكل ما في الكلمة من معنى. سهولة إسقاط نظام الأسد، وسرعة تداعيه، أدهشتا حتماً حتى أكثر المتفائلين بالتغيير المرجوّ. إلا أنني أزعم، بعدما تولّت قيادة العمليات…

طارق الحميد منذ فرار بشار الأسد، في 8 ديسمبر (كانون الأول)، إلى روسيا، وهناك سيل من النقد والمطالبات للحكام الجدد، وتحديداً أحمد الشرع. والقصة ليست بجدوى ذلك من عدمه، بل إن جل تلك الانتقادات لا تستند إلى حقائق. وسأناقش بعضاً منها هنا، وهي «غيض من فيض». مثلاً، كان يقال إن لا حل عسكرياً بسوريا، بينما سقط الأسد في 12 يوماً…

خليل مصطفى مِنْ أقوال الشيخ الدكتور أحمد عبده عوض (أُستاذ جامعي وداعية إسلامي): ( الطَّلَبُ يحتاجُ إلى طَالِب ، والطَّالِبُ يحتاجُ إلى إرادة قادرة على تحقيق حاجات كثيرة ). مقدمة: 1 ــ لا يختلف عاقلان على أن شعوب الأُمَّة السُّورية قد لاقت من حكام دولتهم (طيلة 70 عاماً الماضية) من مرارات الظلم والجور والتَّعسف والحرمان، ما لم تتلقاه شعوب أية…

أحمد خليف الشباب السوري اليوم يحمل على عاتقه مسؤولية بناء المستقبل، بعد أن أصبح الوطن على أعتاب مرحلة جديدة من التغيير والإصلاح. جيل الثورة، الذي واجه تحديات الحرب وتحمل أعباءها، ليس مجرد شاهد على الأحداث، بل هو شريك أساسي في صنع هذا المستقبل، سواء في السياسة أو في الاقتصاد. الحكومة الجديدة، التي تسعى جاهدة لفتح أبواب التغيير وإعادة بناء الوطن…