حتى لا تتكرّر المأساة

شيركوه كنعان عكيد

   تتميز سوريا كما يعرف الجميع بتنوعها القومي والديني وكذلك الطائفي، هذا التنوع الذي استطاعت السلطة البائدة أن تبقيه تحت السيطرة والتحكم لعقود طويلة في ظل سياسة طائفية غير معلنة، ورغم أن علاقة الدين بالدولة بقيت متشابكة، إلا أنها لم تصل إلى حد هيمنة العقلية الدينية أو الطائفية على مؤسسات الدولة بصورة صريحة.

أدى ذلك الوضع تدريجيًا إلى تشكّل طائفة صغيرة مختارة من أتباع الطاغية باتت تعرف باسم (طائفة الأسد)، وهي تلك الطائفة متعددة الألوان والأطياف، والتي كانت تتمتع لوحدها بكل الامتيازات السلطوية والخيرات الاقتصادية، وبذلك تم استبعاد كل المكونات الأخرى من المشهد السياسي الفاعل، لكن السلطة المستبدة دأبت مع ذلك على عرض المكونات المتنوعة كنموذج للتعدد والتآخي في المجتمع السوري من خلال تطعيم الحكومات المتلاحقة بأفراد من هذا المكون أو ذاك، فقط لتجميل اللوحة العامة.

ذلك الوتر الذي عزفت عليه السلطة المستبدة طويلًا، والذي تمكنت من خلاله من خداع العالم وإظهار نفسها بمظهر الدولة المدنية والديموقراطية (الملائمة لخصوصية الشعب السوري الواحد!)، وهي في الواقع الديموقراطية ذاتها التي سقط باسمها آلاف الشهداء والجرحى والمفقودين والمهجرين على مدار حكم طائفة الأسد للبلاد. تلك المعزوفة النشاز كان لا بد لها من نهاية وتلك المأساة التي لم تعد تحتمل، حيث بدأت الجماهير تشعر تدريجياً بوخز في كرامتها المنقوصة، وبدأت تعاني من ألم القيود التي حرمتها الحرية وحولتها إلى قطيع في مزرعة الأسد، فهبّت منادية بالحرية والكرامة، ودفعت من جراء ذلك أفدح الأثمان والخسائر.

أما شعبنا الكوردي فقد كان قد أدرك منذ زمن بعيد مكمن الخلل في تركيبة الأنظمة الشوفينية المتعاقبة والتي دأبت على حرمانه من أبسط حقوقه القومية والوطنية، ومارست بحقه قبل غيره كل أشكال التمييز والاضطهاد. فلا مراء في أن الشعب الكوردي كان له قبل وإبان الثورة السورية الدور الأبرز في النضال العام في مواجهة الظلم والطغيان، بل كان سباقًا في هذا الميدان، وله في انتفاضة آذار وما قدمته من شهداء خير مثال، الأمر الذي يعكس انتماءه الراسخ لقضية الحرية والعدالة ومواقفه الثابتة منها، سواء في الإطار الكوردي الخاص أو على المستوى الوطني العام.

    شكّل سقوط الأسد وفراره لحظة فارقة في التاريخ السياسي لسوريا، إذ فتحت الباب أمام مرحلة جديدة من الانعتاق والحرية والتحول الديمقراطي، حيث تبوأت سدة الحكم شخصيات جديدة تقود المرحلة، وتحظى بقبول شعبي معقول، فيما بات يسمى بالمرحلة الانتقالية، بكل ما فيها من تعقيدات وإشكالات  لا حصر لها وعلى كافة الأصعدة السياسية والأمنية والاقتصادية وعلى المستويين الداخلي والخارجي، وأعطى استلام السيد أحمد الشرع للسلطة بارقة أمل لدى قطاعات واسعة من الجماهير وكذلك استبشر شعبنا خيرا في المستقبل، لما أظهره من مواقف معتدلة ورؤية إصلاحية واعدة، تهدف في خطابها إلى إعادة بناء الدولة على أسس العدالة والمواطنة المتساوية.

لكن الأحداث اللاحقة أثبتت بدون جدال أن ما تمت ممارسته عمليًا لم يكن متوافقًا بالمطلق مع تلك الوعود والآمال المرتقبة، فمع كل الوعود المعسولة التي أطلقها السيد الشرع، إلا أنه سرعان ما أعلن عن جملة من الإجراءات التي حالت دون أي تمثيل حقيقي للعديد من أطياف المجتمع السوري، وعلى رأسهم شعبنا الكوردي، الذي تعتبر قضيته من أقدم وأعرق القضايا في سوريا..

الإعلان الدستوري مثلًا جاء في كثير من بنوده مجافيًا لمبادئ التعددية والعدالة، وعكس شكل الحكومة الانتقالية التي تدور في فلكه، استمرارًا للعقلية الإقصائية التي سبق للشعب وان ثار عليها وعلى صانعيها.

لقي هذا النهج الإقصائي نقداً لاذعاً واستهجاناً من قبل شعبنا، فلقد تظاهرت الجماهير في مدن روجآفا وفي مناطق مختلفة، رافعة شعارات تطالب بالاعتراف الدستوري بالشعب الكوردي وحقوقه القومية والثقافية، والمشاركة الحقيقية في صناعة القرار السياسي.

   كما صدرت بيانات من قوى كوردية بارزة، في مقدّمتها المجلس الوطني الكوردي، ترفض الاعتراف بشرعية الإعلان الدستوري ما لم يُعدّل ليضم مطالب كافة مكونات الشعب السوري، وفي مقدّمتهم الشعب الكوردي الذي يعّد ثاني أكبر قومية في البلاد.

   كما عبّرت الكثير من القوى الوطنية، السياسية منها والمجتمعية، عن رفضها واستنكارها لسياسات التهميش والإقصاء تلك، واعتبرت هذه القوى أن استبعادها من المشهد السياسي بعد كلّ ما قدّمه الشعب من تضحيات من أجل مجتمع العدالة والحرية والمساواة، لا يعبّر فقط عن إنكار تلك التضحيات، بل يكرّس مجددًا منطق الإقصاء القومي والديني الذي مارسه النظام السابق لعقود طويلة.

وبصراحة، فإنه لا يمكن في هذا السياق إعفاء الحركة الكوردية من بعض المسؤولية عما آلت إليه الأمور، فهي لم تنجح في التوافق على خطاب موحّد وتقديم مطالب واضحة وبلغة سياسية مشتركة، تعكس قوتها وقدرتها في التأثير في المشهد العام، في ذلك الوقت الذي كانت الأوضاع  فيه تتطلب أعلى درجات التنسيق والتكاتف، بالرغم من الدور المهم والبناء الذي لعبه الرئيس مسعود بارزاني وقيادة إقليم كوردستان في دعم حقوق شعبنا الكوردي في روجآفا، ودعم المبادرات السياسية والدبلوماسية وتشجيعه الدائم للأطراف الكوردية المختلفة على التفاهم والتقارب، من أجل معالجة مواكبة التطورات والمستجدات المتلاحقة في المشهد السياسي السوري الجديد .

   إن غياب وفد موحّد يتحدث باسم الشعب الكوردي في الحوارات الوطنية حينها، أعطى للسلطة إمكانية أكبر لتجاهل المطالب المشروعة لشعبنا، تحت غطاء الفوضى السياسية، ومكّنها من إبرام اتفاقيات أحادية ذات صيغة أمنية مع طرف كوردي دون آخر (اتفاقيات ساهمت في عدم استمرار إراقة الدماء) لكنها تبقى غير مجدية على الصعيد السياسي، الأمر الذي منح السلطة أريحية معقولة، أغرتها لأن تستمر على نهجها الإقصائي دون أن تحسب لشعبنا ولمجمل الحركة الكوردية أي حساب.

  في هذا الوقت الذي لا تزال فيه مداولات التقارب تراوح بين مد وجزر، فإن على جميع الأطراف التركيز على كيفية تحويل التباين والتعددية وتنوع التيارات فيما بينها إلى مصدر قوة بمواجهة الحالة الجديدة والتحديات التي أفرزتها، بحيث تصبح تجسيدًا واقعيًا للقضية الكوردية وتمثيلًا حقيقيًا لشعبنا، وألا تصّبّ جلّ اهتمامها على أجنداتها الحزبية الخاصة، مّما يعرض محاولات التقارب تلك إلى الفشل والجمود.

  تغلبت الخبرة السياسية أخيراً على كل المحاولات الهادفة لإفشال الحوار، وقطعت الطريق أمامها بإعلان الاجتماع الموسع والذي يضم كل الأطراف الكوردية للخروج بتشكيل وفد مشترك للحوار مع السلطة الجديدة، يمثل الشعب الكوردي ومطالبه المشروعة، وبذلك تكون الحركة قد أنجزت إحدى أهم مهامها وأخذت خطوة سليمة على الطريق الوعرة.

   إن استمرار النظام في اتباع المنهج الفكري الذي تم اتباعه حتى الآن بإقصاء المكونات المختلفة، قد يجرّ البلاد إلى حالة من عدم المساواة بين أبناء البلد الواحد، وانعدام العدالة على مستويات عدة، ليس أقلّها الافتقار إلى الديموقراطية التي كانت حلم الشعب السوري عامة، والشعب الكوردي بشكل خاص، على مدار أكثر من خمسة عقود في ظل الأنظمة الديكتاتورية القبيحة. لأن ما شهدناه وعايشناه في مختلف ممارسات النظام الجديد منذ أن تبوأ سدة السلطة إلى يومنا هذا، شاهد حيّ على خلفيته وأبعاده الفكرية، بدلالة تخبطه وتردده بين ما يقوله وما يفعله، ونأيه بنفسه عن المسار الديموقراطي، بل وحتى عدم ذكر هذه الكلمة ولو على سبيل الدبلوماسية أو المجاملة في خطابه العام.

   الحقيقة التي يجب أن يدركها الجميع، أنه لا يمكن إدارة شعب بهذا التنوع الغني بذهنية أحادية، دينية كانت أم قومية، دون أن يؤدي ذلك إلى نشوء حالة من الصراع والتناحر، وهذا ما نحن بغنى عنه بعد كل ما عانيناه، ولا بد هنا من الإشارة إلى إحدى الممارسات التي أقدم عليها النظام الجديد، وذلك  بتكرار بعض ممارسات النظام السابق، والمتمثلة في تعيين المقربين منه في مؤسسات الدولة، بناءً على الولاءات الشخصية أو الفكرية التي قد تفتقر الى المهنية والكفاءة المطلوبة لتلك المناصب الهامة، وبالتالي التوغل في سياسة الإقصاء والتهميش لبقية المكونات التي تذخر بالكفاءات والخبرات المناسبة والتي تجعلها ربما أكثر استحقاقا لشغل تلك المناصب. 

   هذا الأسلوب الذي اتّبعه النظام البائد كان أحد أسباب انهيار الدولة ومؤسساتها، الأمر الذي سارع في انهياره وسقوطه، فالشعب لم ينهض ثائرًا ضد شخص الديكتاتور فحسب، بل ضد منظومة الفساد والاستبداد برمّتها والتي شكّلت سياسة المحسوبية إحدى أركانها. 

إن المرحلة الراهنة، بكل تعقيداتها والصعوبات التي تكتنفها، تضعنا جميعًا أمام الكثير من المهام والمسؤوليات التي لا يمكن التهرب منها، فكما أن على السلطة الجديدة أن تدرك أن بناء دولة المواطنة الحقيقية لا يتحقق باستبعاد مكونات المجتمع السوري مهما كان انتماؤها أو حجمها وعديدها من المشاركة الفعلية في ادارة المجتمع والدولة، فإن الحركة الكوردية أيضاً مطالبة بأن تكون على مستوى الحدث، وأن تستمر بالعمل على تجاوز نقاط اختلافها، وأن تعمل على توحيد رؤيتها السياسية بطريقة تعبر عن طموحات شعبنا المظلوم والمكافح، كما وصياغة خطاب كوردي موحد ومتماسك في معرض الحديث عن مطالبنا المشروعة  التي طالما ناضل شعبنا وضحى بالكثير من أجل تحقيقها على مدار اكثر من نصف قرن، ودون التفريط بأي منها.    

 إن الحفاظ على ما تبقى من الهوية الكوردية يتطلب عملاً دؤوباً ورؤية بعيدة المدى من كل الأطراف التي تتبنى قضية شعبنا وحقوقه لأن الوصول إلى دمشق حتى بصوت موحد يمثله وفد واحد، ليس إلا الخطوة الأولى على طريق شاقة،  قد تكون محفوفة بالكثير من المعوقات والصعاب وربما المفاجآت غير السارة، التي يجب إن نكون بالرغم من تفاؤلنا على أهبة الاستعداد لتلقيها.

فسوريا بشكلها الحالي رهينة المصالح الدولية والتجاذبات الإقليمية التي تجعل من المستقبل لوحة ضبابية لا يمكن قراءتها أو التكهن بمحتواها، ناهيك عن الصراعات الداخلية التي قد تنفجر بين لحظة وأخرى مع وجود كل تلك المشاكل العالقة التي لم تجد لها حلولاً بعد.    

===========

صحيفة ( كوردستان ) / العدد 751

شارك المقال :

1 1 vote
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

م.اياز خلف في زيارة تحمل رمزية عالية، اختار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السعودية مجددًا كمحطته الخارجية الأولى في ولايته الثانية، في مشهد يعيد إلى الأذهان زيارته الأولى عام 2017. هذه الخطوة ليست بروتوكولية فحسب، بل تشير إلى أن الرياض ما تزال مركز ثقل إقليمي لا يمكن تجاهله، خصوصًا في الملفات الحساسة والمتشابكة، وعلى رأسها الملف السوري. تأتي زيارة ترامب في…

صالح بوزان ـ دادالي ما إن تنفس الشعب السوري الصعداء بكافة أطيافه ومكوناته وتياراته يوم ٨ كانون الأول من العام ٢٠٢٤ بسقوط نظام البعث في سوريا وهروب رأس النظام بشار الأسد ، إلا أنه وبعد أيام معدودة من سيطرة الجهاديين المنضوين تحت لواء هيئة تحرير الشام (جبهة النصرة سابقًا)، بقيادة أبو محمد الجولاني ( أحمد الشرع )، وانتشار تلك…

يتابع المجلس الوطني الكردي باهتمام بالغ التطورات الأخيرة المتعلقة بإعلان حزب العمال الكردستاني، في مؤتمره الأخير، وقف العمل المسلح وحلّ الحزب، استجابةً لدعوة زعيمه السيد عبدالله أوجلان. ويعتبر المجلس أن هذه الخطوة تمثل تحولاً سياسياً مهماً وإيجابياً من شأنه الإسهام في تعزيز فرص السلام والاستقرار في تركيا والمنطقة عموماً. وإذ يثمّن المجلس الوطني الكردي هذا التوجه نحو المسار السلمي، فإنه…

فواز عبدي   حسب ما قرأت فإن ما حدث في بحيرة ميدانكي بريف عفرين لا يمكن اختزاله فقط في نفوق الأسماك أو انبعاث روائح كيميائية غريبة من الماء. إننا أمام جريمة متكاملة الأركان، تُرتكب عن سابق إصرار وتصميم، في منطقة أنهكتها الحرب، ولم تَسلم حتى مواردها الطبيعية من وحشية الإنسان. إن تسميم المياه ليس فقط خرقاً بيئياً أو تهديداً للصحة…