وطنٌ بلا جنسية

مسعود كاسو –  لندن
بعد سبعِ سنوات من الغربة في بلد أوروبي، حيث الحرّية والديمقراطية والحياة الكريمة، توجب عليّ العودة للوطن، والاغتراب مجدّداً.
مكرهاً أخاك لا بطل، ولأسباب عائلية بحتة، كان يتوجّب عليّ أن أعود لتلك البقعة المُسمّاة مجازاً (وطن)، بالرغم من جنون القرار، ففي حين يجازف الناس بأرواحهم للهجرة، تقرّر أنت أن تعود، تاركاً خلفك عائلتك، لتفي ديناً لم يسبق لأحد أن استطاع أن يوفيه لتستطيع أنت، ولكن عليك أن تسدّد ما استطعت إليه سبيلاً.
أن تضحّي بأمنك واستقرارك، لأداء واجب بل فريضة، وأن تترك إحدى أجمل وأأمن وأفضل المدن للعيش، لتذهب للعيش في منطقة حرب.
أن تتغرّب للمرّة الثانية في حياتك، وترك حياة الترف الخدمي، للعيش في مكان يفتقر لأبسط الأمور الخدمية.
نعم! الغربة في بلد كنتَ سعيداً يوماً أنك خرجت منه، ولم تفكّر يوماً بالعودة له.
عدت وأمضيت ثلاث سنوات، متقطعة، في غربي كردستان «روج آفا». ولكن اتضح لي بأنها لم تكن تضحية، بل كانت منحة، نعم منحة ونعمة، أشكر مَن كانوا السبب، مَن فضّلوا عليّ وهم بحاجتي، بسببهم عدت وعشت تجربة أشفق على مَن سنحت له الفرصة أن يعيشها ولم يفعل.
وكذلك لم تكن غربة؛ فلقد أحسست لأول مرّة أني أعيش في وطن أملكه، بالرغم من أني لا أحمل جنسيته، وعرفت أن الحصول على جنسية بلد ما، لا يعني بالضرورة أنك حصلت على وطن، أنا الحاصل على جنسيتين (السورية بالولادة، والبريطانية مؤخراً) ، لا وطن لي، ووطني لا جنسية له.
غربي كردستان ،«روج آفا»، شمال شرق سوريا، أو سَمّها ما شئت، تلك الجغرافية التي يحكمها حزب عسكري، احتكر الحياة السياسية والسلطة والاقتصاد، تفرّد بالقرارات ومصير الناس، لم يعرف للمعارضة معنى، فإما معي أو ضدي، إما أن تعيش حسب قوانيني أو ارحل.
حزب فرض نفسه بالقوة، ولكن فرض الأمن والأمان أيضاً، هذا الحزب نفسه حَمَى هذه البقعة من أن تكون كبقية جغرافية سوريا العربية، بتحالفاته البراغماتية مع الجميع وضد الجميع، استطاع أن يصبح رقماً كردياً – عسكرياً وسياسياً واقتصادياً – في المعادلة السورية، شاء خصومه أم لم يشئوا.
استطاع إدارة هذه المنطقة بكل جدارة، وأؤكد على قول جدارة، فأقدم وأقوى الدول لديها أخطاء وعثرات في إدارة الدولة، فما بالك بحزب لم يدرْ مكتباً خاصاً به من قبل، وشعب كان ممنوعاً عليه التوظيف بغير سلك التدريس، وما شابه من وظائف ثانوية وخدمية، وفي أدنى الدرجات الوظيفية، لم يكن يستطيع التحدث بلغته، وأصبح يدير ثلث سوريا، بقعة أكبر من عدة دول عربية جغرافياً، ويقود جيشاً عرمرماً، ويدير أغنى منطقة في اقتصاد سوريا، هل من عاقل يتوقع أن تكون أخطائه وتجاوزاته وانتهاكاته صفر؟
بالرغم من المعارضة الواسعة في الداخل، ومجاميع الأعداء في الخارج، والفاسدين من صلبه، إلا أن الإقليم بات كيان سياسي بإدارته الذاتية، بالرغم من عدم وجود اعتراف دولي أو إقليمي، ونستطيع تشبيهه بقبرص التركية، ولكن بدون دعم من دولة بقوة تركيا.
عشت في وطني، وبت أتمنى أن تستقر الحياة وتفتح المدارس؛ لأستطيع إعادة عائلتي بالكامل، كانت بالرغم من الفارق الخدمي والأمني أجمل من لندن، لا أخفيكم سراً، عندما أخبركم عن مدى سعادتي لرؤيتي لطابع كردي لأول مرة يلصق بورقة استدعاء، أخذت الهاتف وصورته ولا زلت أحتفظ بالصورة، كم كنت سعيداً وأنا أسجّل سيارتي في إدارة المرور، وأتشاجر مع الموظّف الكردي بسبب المحسوبية!! ولكني سعيد؛ فهذا ابن وطني، وليس منتدب من محافظة أخرى ليضطهدني حتى وأنا أدفع رسوم تسجيل السيارة.
لم تكن سعادتي توصف بزيارة مركز إذاعة أو مؤسسة صحفية، كم كنت فخوراً أن الصحفيين و قيادات الإدارة والمسؤولين أناس أعرفهم، وليس بيني وبينهم تلك الهوة التي بيني وبين مسؤولي سوريا أو بريطانيا، هلال أحمر كردي، شرطة النجدة كردية، المدارس كردية، كل شيء كردي بلا خوف بلا خجل، مؤسسة الأبقار ليست عربية، مركز الأعلاف لم يعد عربياً، القرى والمدن استعادت أسمائها، وكتبت بالكردية على لوحات مداخلها.
وضعت العديد من المشاريع والخطط في ذهني، لأنفذها في وطني، زرعت الأشجار الكثير من الأشجار، فأخيراً أنا صاحب وطن ولست غريباً يحمل جنسية.
الآن وبعد أن تغيّرت الأوضاع، وأصبحت هذه التجربة العظيمة على المحك، قلبي يتمزّق لمجرد التفكير أني قد لا أعود لوطني إذا ما خسرنا المعركة، وأشفق على كل مَن لم يعد لزيارة هذا الوطن.
مع أني لا أتوقّع المزيد من الخسائر، وأتوقع أن يتم الاعتراف بالإقليم ككيان سياسي ضمن سوريا، ولكن إن لم يحصل، فإما أنني لن أعود إلى وطني، وسأحتفظ بذكريات أسعد أيام حياتي، أو أني سأعود إلى الجمهورية العربية السورية التي أحمل جنسيتها، ولكن لم تكن يوماً وطني.
لقد عدت للحياة، نعم الكردي يستطيع العودة للحياة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

كفاح محمود شهدت منطقة الشرق الأوسط تحولات سياسية كبرى خلال العقود الأخيرة، وكان من أبرزها انهيار حزب البعث في كل من العراق وسوريا، وهو الحزب الذي حكم البلدين لعقود طويلة بقبضة حديدية وحروب كارثية اكتوت بها شعوب البلدين وشعوب المنطقة وخاصة كل من لبنان وإيران والكويت، ناهيك عن الضحايا الذين فاقت اعدادهم الملايين بين قتيل وجريح ومعتقل ومهجر، أدت تلك…

بوتان زيباري في عالمٍ يموج بين أمواج الآمال والظلمات، يقف العرب السُنة اليوم على مفترق طرق تاريخيّ يحمل في طياته مفهومات المسؤولية وجوهر الهوية. إذ تتساءل النفوس: هل ستكون سوريا جنة المواطنة المتساوية أم ميداناً لحروب أهلية لا تنتهي؟ ففي قلب هذا التساؤل تنبعث أنوار براغماتية تعلن رفض الوهم الخادع لإقامة دولة إسلامية، وفي آنٍ واحد تفتح باب السلام…

فرحان كلش بلاد مضطربة، الكراهية تعم جهاتها الأربع، وخلل في المركز وعلاقته بالأطراف، فمن سينقذ الرئيس من السلطة الفخ؟ أحمد الشرع يسير على حقل ألغام، كل لغم شكل وتفجيره بيد جهة مختلفة. في الإنتماء الآيديولوجي قريب من الأتراك، في منحى القدرة على دفع الأموال والبدء بمشروع بناء سورية في جيوب السعوديين، التمهيد العسكري لنجاح وثبته على السلطة في دمشق اسرائيلي…

أزاد فتحي خليل* منذ بداية الأزمة السورية في عام 2011، شهد المجتمع الكوردي تحديات كبيرة واختبارات دائمة في ظل تلك الظروف المضطربة. لم يكن الصراع بعيدًا عن الكورد، بل كان لهم نصيب كبير من التداعيات الناتجة عن النزاع الذي استمر لعقد من الزمن. إلا أنه، في خضم هذه التحديات، برزت أيضًا بعض الفرص التي قد تعزز من مستقبلهم.