إبراهيم اليوسف
ثمة عبارة، طالما كانت بعض الأمهات الكرديات يرددنها، مفادها: “فلان” مكسور العين” مقابل “فلان” تنكسر عينه، وكانت من بينهن من تضيف عليها عبارة “لن أكسر عين ولدي” أو “أولادي” أو لربما ” أطفالي” والطفلات مشمولات- هنا- بما أرمي إليه، وهو ما كان معياراً لشخصية الشجاع في المجتمع “عينه لا تنكسر”، وفي المقابل لطالما كان يقال عمن يجبن في أية مواجهة إنه “مكسور العين”، وهكذا فإن العبارة المعيارية التي لطالما كنت أسمعها من أمي- الجبلية- كما كتبت عنها في مجموعتي “هكذا تصل القصيدة”، وهي كانت تصر على هذا العنصر في التربية لمن حولها من النساء، قائلة لبعضهن: لا تكسري عين ابنك. هذا الكلام أنموذج لثقافة المرأة الكردية التي تتباهى بابن لا يجبن في المواقف، أية كانت، ومن هنا فإنه لطالما كانوا يقولون، بسبب طبيعة تلك المرحلة، والحاجة إلى الأبناء الشجعان: “الخروف الذكر خلق للذبح”،
ومع عدم استساغتي لتلك العبارة، آنئذ، والآن، لأنها كانت مرتبطة بالذبح الذي كنت ولا أزال أكرهه، وأنبذه. بحالة التناحرات التي كانت، وتقلصت إلى درجة التلاشي، في مرحلة الانتقال إلى الدولة، ولعلها كانت ثقافة جيلي، والجيل السابق علي، وإن تم اختراقها عبر- تنظيم ب ك ك- باسم مشروع كردستاني كبير، وراح الآلاف من الشباب الكردي قرابين ذلك، وهذه إحدى النقاط التي سأتناولها، في إطار حديثي عن شخصية القائد
منذ وقت طويل، وأنا أحاول تناول هذا الموضوع الإشكالي، والشائك، حول: من يصلح في مجتمعنا الكردي أن يكون قائداً؟ بل لطالما كنت أردد لم لا يوجد من بيننا من يصلح لأن يكون قائداً، يكتسب رمزيته لدى أهله الكرد، ليكون ذلك تأشيرة مرور جماهيرية له نحو الكردستانية والعالمية، مع افتخارنا ككرد سوريين بكل قائد سياسي-جدير- في الأجزاء الكردستانية الأربعة، ولقد رأيت ضرورة أن أسلط الضوء على مواصفات شخصية القائد/ كردياً، وهنا أخص جزأنا الكردستاني، لاسيما وإن لدينا فائضاً من الشخصيات القيادية ممن صاروا بالمئات، إن لم يكونوا بالألوف، منذ تأسيس أول حزب سياسي كردي1957، ولقد وجدنا المؤهل القيادي لدى العديد من هذه الشخصيات، سواء من بين مؤسسي هذا الحزب، أو ممن انشقوا عنه منذ ستينيات القرن الماضي، إلا أن طبيعة كردستان سوريا فرضت حصاراً على بعض الشخصيات التي برزت، إما نتيجة أخطاء طفيفة طبيعية أو ذاتية استراتيجية كبيرة لدى بعضهم، ناهيك عن اشتغال آلات الدعاية ضدهم: آلة أجهزة أمن النظام التي راحت تشوِّه كل اسم كردي بارز، من خلال الكذب عليه، وأتذكر أن ضابط أمن و في أول تحقيق معي، خارج بيتي، ومدرستي، قال: كلهم يمرون عليّ، أمس كان فلان وفلان هنا، وكان من بين هذه الأسماء من هو راحل، ومن هو غائب مفترى عليه، وهو ما كان يتكرر على نحو واسع، ضد القيادات الكردية الوازنة، أضف إلى كل هذا التطوع بالوكالة عن هذه الآلة من قبل أوساط واسعة من الوسطين: السياسي و الشعبي لتشويه صورة أي قيادي، أو أي مناضل ذي موقف، بل حتى أية شخصية اجتماعية، نتيجة المنافسة، أو عقد النقص أمام حضور أحدهم، أو حتى نتيجة رسوب في مؤتمر حزبي، أو في إطار حملة ترسيب أية شخصية ذات حضور مناسب، وإن كنت متأكداً من أن هناك من كان يتم اختراقه، أو تنظيمه السياسي من قبل ندرة من الشذَّاذ ضعيفي النفوس، وهذا أمر يحتاج إلى دراسة مطولة من قبل الحركة السياسية الكردية التي لم تتناول، على نحو جدي، مثل هذه الظاهرة، أو سواها من الظواهر الخطيرة التي طالما كانت عقبة كأداء في طريقها النضالي!
وإذا كنت أرى أن كثيرين من ذوي الشخصيات الكارزمية السياسية الكردية في سوريا لطالما توافرت فيها صفات القائد السياسي، إلا أنها حوربت على نطاقات عدة: من قبل السلطة ومن قبل الحركة الكردية نفسها- من ضمن الحزب أو من خلال غيره من الأحزاب الكردية- أو حتى نتيجة مواقف كردستانية، أو ضمن فضاء شعبوي، بسبب العمل المنظم ضد بعض هذه الشخصيات، فإنه لا بد من أن أؤكد أن طبيعة كردستان سوريا التي توزع كردها إلى ثلاث مناطق: الجزيرة- عفرين – كوباني، بالإضافة إلى كرد بعض المدن الأخرى ومنها المدن الرئيسة التي لطالما تعرضوا للتذويب، نتيجة وجودهم في أرخبيل ذي ثقافة أحادية، تم فرضها، لاسيما في مرحلة هيمنة المد القومي العروبوي العنصري- ولا أقول العربي- والذي لم يعترف حتى اندلاع الثورة السورية في ربيع 2011 بوجود قضية كردية، بل بوجود شعب كردي!
ثمة جو كردي عام، استدعى الحاجة، أو استدعى ظهور قائد سياسي كردي، وذلك منذ ما بعد انتفاضة 2004، ومن ثم الثورة السورية2011، وعلى نحو خاص بعد مرحلة احتلال كل من عفرين: سري كانيي/ رأس العين وتل أبيض من قبل تركيا، وتواطؤ روسيا وأمريكا، وتخاذلهما بحق الكرد السوريين، عبر صفقات مشبوهة مع الرئيس التركي أردوغان الذي يهرول لتصدير أزماته الداخلية، والهيمنة على كرسي الرئاسة، وتحقيق حلمه في أن يكون خليفة للمسلمين، أو سلطاناً، يسترد الماضي العثماني “الذهبي”، وأن يكون كل ذلك على حساب من يرى فيهم قوة صاعدة: الكرد سواء في كردستان سوريا، أو قبلها في كردستان العراق، إلا أنه في كل مرة كانت هناك كوابح لظهور مثل هذا القائد، من بينها: تشرذم الحركة الكردية، أو الشارع الكردي الذي اجتمع لأول مرة في انتفاضة 2004، إلا أن اختراقات كثيرة تعرض لها، وعلى نحو منظم، وبوتائر عالية من قبل أجهزة أمن النظام، لترتفع هذه الوتائر وتصل أعلى مستوى لها بعيد ظهور ب ي د، غير المرئي، من قبل، كحضور سياسي، فاعل، في مرحلة ما بعد 2011، وليتم ترسيخ البون الذي بدأه في انقسام الشارع الكردي. الانقسام الذي حدث بسببه منذ انطلاقته في سوريا، وبات يرفض سواه، ويكرس حضوره عبر الترغيب والترهيب، كما فعل ذلك في كردستان الشمالية التي عمل بطريقة مختلفة لفرض ذاته، وإلغاء سواه من التيارات والأحزاب الكردستانية العريقة السابقة عليه، ومن بين ذلك: التصفيات الجسدية، وقد وجد الفرصة سانحة في مرحلة مابعد 2011 كي يستعيد الكرة في كردستان سوريا إذ فرض نفسه، من: اللامرئي، اللافاعل، ماعدا سلاح العنف، والاغتيالات والترهيب والترغيب، إلى موقع فرض سلطته وسطوته، وإلغاء كل من سواه، إلا أن المجلس الوطني الكردي الذي بات يحارب من لدنه، ويتضاءل دوره في الداخل بسبب محاربته من قبل سلطات ب ي د، صمد في مواجهة محاولات تذويبه، وهو أعظم ما يسجل له، وإن راح يتخبط في سياسات خاطئة، نتيجة وجود بعض أعضائه في المعارضة السورية: الائتلاف، الذي سقط في فخاخ الأخوان المسلمين، وأحضان الاستخبارات التركية، وأقصد: الائتلاف وحده، ليكون مباركاً لرفع علمها على مدن سورية تحتل من قبل تركيا، ويظل مرتبطاً بها، على حساب رسالة الثورة السورية، وخيانتها، لطالما أنه يحوز على رضى تركيا، مفضلاً إياها حتى على روح الثورة، وحاضر، ومستقبل السوريين، وكان من الممكن أن يلتقط المجلس السوري هذه الحالة، ويتخذ مواقف صارمة في وجه المخطط التركي، وأداته الائتلافية، ومن يتبع لها ك” حكومة مؤقتة” أو ميليشيات ارتزاقية تجوعها تركيا وتسمنها “كربائط” من أجل استخدامها في مهمات في قتل السوريين.
لا يخفى على أحد، أن كثيرين من شخصيات المجلس الوطني الكردي- ومن هم من خارجه- أعني من بين كل كرد سوريا، تتوافر فيهم المواصفات القيادية، إذ إن مستوى الوعي لديهم جد عال، نتيجة عوامل عديدة، فهم يشكلون مدرسة في التضحية والقيم والوفاء، لاسيما مع أهلهم الكردستانيين، كما أنهم كانوا كذلك ضمن بلدهم، مع شركائهم، وكان من الممكن أن يكونوا أنداداً لأمثالهم، من القيادات الكردستانية، في ما لو توافرت لهم ما توافر لأندادهم الكردستانيين، تاريخياً، من طبيعة، وإمكانات المطالبة بإيجاد حل عادل للقضية الكردية في سوريا، كما وقد ظهرت شخصيات قيادية من قبل ب ك ك وفرعه السوري: ب ي د، إلا أن هذه الشخصيات فرضت نفسها عبر القوة، من خلال ذراعها العسكري، بل كانت من منبع عسكري، أو غدت كذلك، ولقد أثبتت، في أكثر من مرحلة نجاحها عسكرياً- وهو بفضل ما يتبعها من قوات عسكرية من كرد سوريا تشكل العماد الفقري لها- إلا أنها لم ترتق سياسياً إلى ما حققته عسكرياً، ولعل فشلها الذريع بدا في اختراقها بعيد تحرير في ما سميته ب”ليلة الغدر” في 25-6-2015 ، وهكذا بالنسبة لموقفها في الحرب على عفرين، إذ صحيح أن القوات التابعة لها- وهي أبناء المكان وكرد كردستان سوريا ممن أبلوا بلاء حسناً وصمدوا صانعين المعجزات- وهوما بينته في مقالات خاصة آنذاك، كما صنعوا من ملاحم للصمود في مواجهة الاحتلال في خريف2019، إلا أن الخلل الذي بدا ، لم يكن إلا حاجتهم إلى الظهر السياسي!
لقد ظهر- مؤخراً- ومنذ بداية اجتياح تركيا لمناطق الجزيرة، وشرق الفرات، في ما سمتها تركيا ب” نبع السلام” وهو في الحقيقة” نبع الإرهاب” أحد الشخصيات العسكرية التي تحركت على نحو واضح الأخ ” مظلوم عبدي”، مستفيدة -أي الشخصية- مما منح لها على هامش الانتصار على داعش، وبالرغم من هشاشة بعض هذه التصريحات التي لايمكن أن نرى فيها إلا أمرين: الحرص على الأهل والمكان، ولو عبر انحناءة عابرة، وبالرغم من قول كثيرين :إنه شريك في كل ما ألحق بكرد سوريا من ظلم على يدي تنظيمه السياسي، بل من قبل قواته: مختلفة الأسماء، التي لم يكن أمامنا- وأنا أحد هؤلاء- إلا وأن ننقدها كلما ارتكبت خطأ، بل وقفنا إلى جانبها بقوة، أثناء دفاعها في المعارك والحروب عن مكاننا وإنساننا: محطة محطة، وهو ما لا يروق لكثيرين من قاصري الرؤية الذين لديهم الاستعداد للوقوف مع العدو، لطالما إنه يخلصهم من مظالم ب ك ك وهيمنته على المكان، وهو الدخيل الذي لا هدف له البتة إلا خدمة أجنداته، الأمر الذي اتضح منذ أن أبعد الحركة الكردية التاريخية عن المسرح، وحاربها، وشوه صورتها، ليصل الخلاف الكردي/ الكردي إلى أقصى درجاته، وأبعاده، وقد ساهم في الطرف الآخر: في المجلس الوطني الكردي، من كان دأبهم قمع الرأي الآخر، كصورة عن الاستبداد العام الذي يحكم سوريا، منذ وصول الدكتاتوريات إلى سدة الحكم ومروراً بحكم الأسدين: الأب والابن، الذي اغتصب بدوره السلطة منذ نصف قرن من الزمان، وما مستنقع الدم، والدمار، والخراب، الذي وصل إليه السوريون، إلا نتيجة ذلك!
أما في ما يتعلق بالأخ مظلوم عبدي الذي أتمنى أن يقود القوى العسكرية لتحرير مكاننا، وحماية أهلنا: أبناء مناطقنا من كرد وشركاء آخرين، عسكرياً، وبحكمة، من دون أن تكون هذه القوة تابعة لمجرد جهة، ولا علاقة ل” قنديل” بها، ولن يقبل الإقليم إلا بدور المباركة لوحدة كرد سوريا، إذ لم يقدم لهم إلا يد العون، إلا أن التبعية أمر آخر، مرفوض، في أية علاقة كردستانية، ويمكن تقبل العون من أية جهة ما طالما أنها ليست مقابل الوصاية على كرد سوريا، كما فعل “الكادروات” الذين كان من بينهم من هم مخلصون وضحوا بأرواحهم من أجل رسالتهم- بشهادات كثيرين- ومن بينهم من كانوا مجرد مترجمين لإملاءات “قنديل” لإلحاق ما لحق بمكاننا، من أذى، ومن هنا، فإن ما ينسب إلى الأخ مظلوم من شراكة في مثل هذا الأذى هو أمر تعد قيادة قنديل ومن خضع لها من قيادات “ب ي د” المسؤولية، وأكرر: إننا ككرد سوريا مع قضية شعبنا الكردي في كردستان تركيا، وممثليه، كما حالنا مع قضيتي: كردستان العراق وكردستان إيران، كل ضمن إطار خصوصيته، وهو ما يجب أن يكرس حبنا لبعضنا بعضاً، من دون أن يكون على حساب علاقاتنا مع شركائنا، طالما أننا لم نصل بعد إلى العيش ضمن إطار دولة كردستان: حلم أي كردستاني، في أي جزء كردستاني، وهوما أقوله بمسؤولية ووضوح.
وبالرغم من كل ما سبق فإنه في تصوري الشخصي، أن الالتفاف حول هذه الشخصية العسكرية إنما هو نتيجة فراغ، في الحياة السياسية الكردية، بل نتيجة يأس الكرد في سوريا، عبر سنوات الحرب، إذ لا مانع من أن تتحرك هذه الشخصية في كل ما يتعلق بشؤون المواجهة العسكرية، كما أسلفت، لا في ما يخص الشأن السياسي، ولقد كان ردي هو الأول على بشارته، وهو يقول ما معناه: سنواصل مقاومة داعش، بقولي: إن مقاومة داعش، ليست طابعاً وحيداً مقابل عيشنا أحياء أحراراً، إذ إن من لم يقتنع بعشرين ألف شهيد منا، لن يرضى بأربعين ألف شهيد آخر!
ولعل الشخصية القيادية التي لابد وستلعب دورها، مستقبلاً، ونحن نعيش هذه المرحلة المفصلية الأكثر تراجيدية في كردستان سوريا، هو أن تسعى لرفع مخلفات سياسات الفرقة، والتمزيق التي تشكلت في مراحل شتى، وأوصلها تنظيم ب ك ك بسياساته إلى أقصاها، بالتزامن مع الاحتلالات المتعددة لمناطقنا، وبلدنا، وفق مرتكزات وشروط ضابطة، وهي مسؤولية كبرى. ولأكن دقيقاً، فإنه بالرغم من عدم تبخيسي أحداً حقه، فإنه خارج الأحزاب المتشكلة، قديماً وحديثاً، ولاحقاً، فإن هناك مستقلين من الممكن أن تكون لهم بصمتهم، وإن كان الحزب السياسي قد دأب على ألا يكون لأحد هؤلاء دوره، مالم يكن تابعاً له!؟