ترامب المودرن واتفاق «العار» والأمريكي المهزوم

د. ولا ح محمد
    لا شك في أن وقف إطلاق نار العدوان التركي بشكل جدي وعودة السكون إلى المنطقة سينقذ أرواح عشرات الآلاف وسيعيد الناس ـ ولو بعد حين ـ إلى حياتهم الطبيعية وسيوقف أطماع أروغان التوسعية في سوريا والعراق (المناطق الكوردية منها تحديداً) مستغلاً ضعف السلطة في البلدين. ولكن السؤال الذي سيبقى مطروحاً لفترة قادمة هو: ألم يكن للأمور أن تنتهي بشكل أفضل مما تم؟ ألم تكن أمريكا قادرة على فرض ما تم أمس على الطرفين من دون خوض حرب قتلت الآلاف ودمرت بيوتاً وهجرت مئات الألوف؟. 
    بالتأكيد أمريكا ليست عاجزة عن فرض حل على تركيا يرضي بعض غرورها واندفاعها ويحفظ لأردوغان ماء وجهه، ويحافظ في المقابل على المكونات المجتمعية وعلى السلم الأهلي في الشمال السوري ويمنع المجموعات الإرهابية من ممارسة هوايتها المفضلة بالقتل والسحل والنهب. بالتأكيد كان ذلك ممكناً، وبسهولة؛ فأمريكا قادرة أن تفرض على أردوغان المهزوز ما تشاء. كما أن قوات سوريا الديمقراطية لم تكن قادرة على رفض الحل الترامبي الذي تم أمس، وقد تبين ذلك في استجابتها للطلب الأمريكي بتنفيذ الاتفاق. 
    إذاً لماذا لم يتم كل ذلك دون هذه الحرب وكل هذا الإجرام والقتل والتشريد؟ أجاب ترامب أمس في كلمة له بعد توقيع الاتفاق قائلاً: ما فعلته شيء عظيم وتم بطريقة غير تقليدية. قليل من القتال ضروري أحياناً. هكذا أحب ترامب أن يجرب قتل الناس وتهجيرهم وتدمير بيوتهم بطريقة حداثية، طريقة مودرن وليس تقليدية. ترامب يريد أن يقدم نفسه دائماً في تصرفاته وطريقة جلوسه وأسلوب مخاطبته ولغته الهابطة وقراراته المتقلبة على أنه رئيس غير تقليدي.
    إن أغرب وأسوأ ما في هذا الاتفاق هو أن الحرب لم تتوقف وأن القصف متواصل والهجرة مستمرة والعدوان قائم، على الرغم من أن أول بند في الاتفاق وأهم بند أعلنه نائب ترامب كان وقف القتال. وهذا ما عبر عنه مجلس سورية الديمقراطية اليوم الجمعة عندما أعلن “أن أنقرة وجيش احتلالها والآلاف من مرتزقتها ضربوا باتفاق وقف إطلاق النار عرض الحائط واستمر عدوانهم وكأن الاتفاق لم يحدث بالأساس”. فما الذي تم الاتفاق عليه إن لم يكن يوقف إطلاق النار ويحفظ في حده الأدنى أرواح الناس؟. وإذا كان الأمر بهذا السوء من الفوضى والتنازلات فلماذا لم يتم إنجازه منذ البداية قبل البدء بكل هذا القتل والتدمير والتهجير الذي لم يتوقف حتى الآن؟؟؟. مع التذكير بأن رسالة ترامب إلى أردوغان في اليوم الأول من عدوانه (وقد كتبت عنها مقالاً مفصلاً أمس) تظهر أن قسد أبدت لترامب استعدادها لتقديم تنازلات (ربما الانسحاب) قبل بدء العدوان وأن أردوغان هو الذي رفض الحلول المطروحة.
     كارثة قرار الانسحاب الترامبي في هذا التوقيت وبهذه الطريقة جعلت كل المؤسسات الأمريكية تتحد في وجه الرئيس المتهور، فصوت أكثر من 80% من أعضاء الحزبين في مجلس النواب ضد القرار، فتحداهم ترامب ووقع الاتفاق مع أردوغان وقال بعد التوقيع: ما فعلناه شيء عظيم، ولم نكن بحاجة إلى موافقة مجلس النواب. وهي الطريقة الاستبدادية الفردية ذاتها التي اتخذ بها قرار الانسحاب في المرة الأولى وكذلك في الثانية. 
    كارثية قرار ترامب بالانسحاب وكذلك اتفاقه مع أردوغان لا تكمن في مبدأ الانسحاب نفسه (فهو في النهاية يقف على أرض ليست أرضه وسينسحب يوماً ما، سواء أكان هو الرئيس أم غيره)، وإنما تكمن كارثية ما فعله ترامب في توقيته وشكله والأسلوب الذي تم به، لأنه سيخلف وراءه كوارث أخرى قد يكون من بينها احتلال تركي لن يزول بسهولة وسيفرض به كلمته على الحل السوري إذا تم أو سيعرقله على أقل تقدير. وقد يكون من نتائجه مجازر جماعية وتهجير جماعي وتطهير عرقي وتغيير ديموغرافي للمنطقة وانتشار عصابات متفلتة. كل ذلك قد يحدث لأن شخصاً مثل دونالد ترامب يحكم دولة بحجم أمريكا.
    قبل ثلاث سنوات عندما صار ترامب مرشحاً جمهورياً للرئاسة مقابل هيلاري كلنتون الديمقراطية شاركت على صفحتي الشخصية فيديو يظهر فيه ترامب في إحدى حلبات المصارعة الحرة (WWE) ويقوم بوساطة آلة حادة كشفرة الحلاقة بحلق شعر أحد المتصارعين (على الصفر) عقوبة له، وأرفقت الفيديو بهذه العبارة: “ما الذي يمكن أن يحدث للعالم لو أن شخصاً كهذا أصبح رئيساً لأمريكا؟”. هذا القادم من حلبات المصارعة الحرة وأجوائها ومراهناتها، ومن عالم التجارة والربح والخسارة والنساء وغير ذلك، لا يمكن أن يدير بشكل سليم شؤون مدرسة، ناهيك عن دولة، ناهيك عن دولة بحجم أمريكا ومكانتها على الخارطة العالمية وتأثيرها في تشكيل العالم، ولن يهتم لأبعاد قراراته حتى لو أدت إلى كوارث إنسانية.
    لغة الجسد وملامح الوجه لنائب الرئيس الأمريكي مايك بنس أمس في لقائه مع أردوغان كانت تعبر عن شعوره بالخجل والانكسار والإهانة والغضب من توقيعه اتفاقية كارثية مهينة ومذلة لأمريكا ليس له ولا لغيره أي دور فيها سوى تنفيذ أوامر ترامب بالتوقيع، لأنها اتفاقية قررها رئيسه بمفرده متحدياً كل إدارة الدولة ومؤسساتها. ظهر بنس عابساً متجهماً دون حتى ابتسامة مجاملة أمام صاحب الضيافة، وكأنه يوقع اتفاق الأمريكي المهزوم أمام أردوغان، لا الأمريكي الذي اعتاد في مثل هذه الحالات على أن يقول لأردوغان وأمثاله كن فيكون.
    ترامب المستبد المغرور والضعيف سياسياً ومعرفياً يمارس غروره وعجرفته باتخاذ قرارت يظن أنها تعبر عن قوة شخصيته (ربما تعويضاً عن ذلك الضعف السياسي والمعرفي)، ولكنها في الواقع تعبر عن مرض نفسي قالت عنه نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب قبل أيام إن ترامب مريض ونصلي له لكي يكون بصحة أفضل. أما عن اتفاقه الفردي مع أردوغان أمس والذي قال عنه ترامب إنه أنجزه بطريقة غير تقليدية، فقد قالت بيلوسي وتشاك شومر زعيم الديمقراطيين في مجلس الشيوخ في بيان مشترك إن ترامب سلم أردوغان كل شيء دون أن يحصل منه على شيء، ووصفا الاتفاق بأنه اتفاق “عار”.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي القضية الكردية في سوريا ليست قضية إدارية تتعلق بتدني مستوى الخدمات وبالفساد الإداري وإعادة توزيع الوظائف الادارية بين المركز وإدارات المناطق المحلية فإذا كان الأمر كذلك لقلنا مع من قال أن المشكلة إدارية والحل يجب أن يكون إدارياً وبالتالي حلها اللامركزية الادارية فالقضية الكردية أعقد من ذلك بكثير فهي قضية شعب يزيد تعداده على ثلاثة ملايين ونصف تقريباً…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية ومع مناصري ثقافة التسامح واحترام حقوق الانسان ومع أنصار السلم والحرية، نقف مع السوريين ضد الانتهاكات الجسيمة والاعتداءات الصريحة والمستترة على حقوق الانسان الفردية والجماعية، وسياسات التمييز ضد المرأة والطفل، وضد الأقليات، وضد الحرب وضد العنف والتعصب وثقافة الغاء الاخر وتهميشه، وتدمير المختلف، والقيام بكل ما…

نحن، المنظمات الحقوقية الكردية في سوريا، نهنئ الشعب السوري، بجميع مكوناته وأطيافه، على إسقاط نظام الاستبداد، إذ تمثل هذه الخطوة التاريخية ثمرة نضال طويل وتكاتف الشعب السوري ضد آلة القمع، وهي بلا شك نقطة انطلاق نحو بناء سوريا المنشودة. إن سوريا الجديدة، بعد إسقاط النظام البائد، تدخل مرحلة حاسمة، وهي مرحلة البناء والسلام والصفح. لذا، ينبغي أن تسود فيها العدالة…

خليل مصطفى بتاريخ 22/2/1958 (شهر شباط) تم التوقيع على اتفاقية الوحدة (بين مصر وسوريا)، حينها تنازل رئيس الجمهورية السُّورية شكري القوتلي عن الرئاسة (حكم سوريا) للرئيس المصري جمال عبد الناصر (طوعاً)، وقال لـ (جمال عبدالناصر): (مبروك عليك السُّوريون، يعتقد كل واحد منهُم نفسهُ سياسياً، وواحد من اثنين يعتبر نفسهُ قائداً وطنياً، وواحد من أربعة يعتقد بأنهُ نبي، وواحد من عشرة…