رياض علي
نادراً ما أتابع الصفحات الزرقاء لأني لا أجد في نفسي القدرة على تحمل المهاترات التي تحصل في هذا العالم الافتراضي، وربما يكون السبب الرئيسي هو أني لست من عشاق التكنولوجيا ومدمنيها، لكني أعترف باني في الايام التي تشتد فيها المأساة على الأرض السورية أجد نفسي مضطرا لمتابعة تلك الصفحات وأحيانا تكرار الخبر أو الرأي الواحد لأكثر من مرة، ورغم محاولاتي بتجنب مشاهدة الصور ومقاطع الفيديو المروعة للقتل والتهجير، إلا أنه من المستحيل عدم الانجرار في هذه المعمعة، خاصة اذا تكرر المشهد الواحد أمام عينيك مرات ومرات وأنت تحاول دفعَ الصفحة للأعلى،
وكان خبر الاعدام الميداني مع مقطع الفيديو لأناس مدنيين يوم السبت جنوب مدينة تل أبيض من قبل ما يسمى بالجيش الوطني المدعوم بالريموت كونترول التركي احدى هذه المشاهد والاخبار المفزعة، التي أجبرتني على الوقوف عندها والتمعن فيها، وربما أرغمتني على مشاهدتها أكثر من تلك المشاهد التي كان يتم تسريبها من قبل النظام السوري، ولعل السبب في ذلك هو أن كل شيء كان متوقعاً من ذاك النظام الذي نشأ وتربى على القتل والارهاب، أما من جيش أطلق على نفسه لقب الوطني وحمل راية الثورة التي استشهد وفقد وهجِّرَ في سبيلها ملايين السوريين، فهذا ما أوجع القلب وأبعد الأمل بأن القادم سيكون أجمل.
ومن الممكن أن يطل علينا أحدهم ممن لا يزال يحلم بتحقيق الأهداف التي خرج الناس لأجلها في البدايات، ويحاول اقناعنا بأن ماحصل هو خطأ فردي، وأن أكثر الجيوش تدريباً وأخلاقا قد يقع البعض من أفرادها في زلات وهنات، فلا يمكن أن نأخذ الكل بجريرة بعض الفاسدين المستفيدين، وربما يكونوا مأجورين من جهات أخرى بهدف تشويه سمعة هذا الجيش الذي يحمل اسم وعلم الثورة، أي اسطوانة المؤامرة التي عهدناها من كل الجهات، لكن سأقول له ياسيدي الوقائع التي أعقبت هذا التصرف اللا إنساني تؤكد بأن الأمر ممنهج وهناك ضوء أخضر من القيادات بأن يفعل العناصر ما يخطر ببالهم من موبقات وسرقات وجرائم في شرقي الفرات، بحجة أن عدوهم هو حزب الاتحاد الديمقراطي وأذرعه العسكرية بمختلف مسمياتها، ولن أستذكر هنا الجرائم والانتهاكات التي ارتكبتها الفصائل المحسوبة على المعارضة أو تدعي انها معارضة في منطقة عفرين وباقي المناطق التي خرجت عن سيطرة النظام السوري في الفترة الماضية، لأنه من الممكن أن تأتينا تبريرات من هنا وهناك، بأن تلك الفصائل لم تكن منظمة ولم تكن تحت قيادة واحدة وما إلى غير ذلك من مسوغات لا يمكن أن تبرِّرْ بحال من الاحوال تلك الانتهاكات، لكن سأستند هنا على البيان الذي صدر بعد ارتكاب تلك المجزرة المروعة بساعات قليلة فقط من قبل “هيئة الأركان العامة للجيش الوطني السوري” والمؤرخ في 12/10/2019، والذي ذكرت بأنه ” يمنع منعاً باتاً وتحت طائلة المسؤولية إساءة معاملة الأسرى والمدنيين والتعرض لأموالهم وممتلكاتهم، كما يمنع على العناصر تصوير مقاطع فيديو بجوالاتهم …”، ولم يتضمن البيان أي اشارة الى ضرورة محاسبة من ارتكب الجريمة المروعة التي نشرت عبر وسائل التواصل الاجتماعي.
وهذا يعيدني بالذاكرة إلى الوراء عندما كنت في الخدمة العسكرية الالزامية عندما كنا نطلب من رؤسائنا إذونات غير نظامية كي نذهب الى المدينة القريبة لساعات محدودة بهدف الخلاص من الجو العسكري المقيت، فكان الجواب على الأغلب، بعد وعود لهم بجلب دخان أو معسل أو ما تشتهيه نفوسهم الدنيئة، “روح بس لا أنا شفتك ولا انت شفتني، عسكرية دبر راسك”، فبيان هيئة الأركان لا يمكن وضعها الا في هذا الخانة، لأن عدم محاسبة مرتكبي الجريمة والاكتفاء بمنعهم من التصوير، تعني السماح للعناصر بارتكاب ما تشتهيه نفوسهم المريضة من مجازر دون أن يراهم أحد وبشرط أن لا تكون مصورة والا فسيكون العقاب والحساب، والعقاب حينها لن يكون بسبب القتل بل بسبب التصوير والفضيحة، وتصرف هيئة الأركان يشبه أيضاً وإلى حد كبير ما فعلته الادارة الامريكية مع نظام بشار الأسد عام 2013 عندما إكتفت بسحب السلاح الكيميائي وتدميره دون محاسبة القاتل على قتله للمدنيين العزل بذلك السلاح في الغوطة، مع السماح له ضمنا بقتل الشعب السوري بجميع أنواع الاسلحة عدا الكيماوي، بل أن تصرف “هيئة الأركان” أكثر صفاقة من تصرف الادارة الامريكية فالاخيرة سحبت السلاح الذي تم استخدامه من قبل الأسد، بينما هيئة الأركان اكتفت بإعطاء توجيهات بمنع التصوير دون سحب السلاح المستخدم في القتل ولا حتى سحب أجهزة التصوير.
ولا يجوز لما يسمى بالجيش الوطني التذرع بأن الطرف المقابل قد قام سابقا بذات التصرفات حيال المدنيين أو الأسرى أو غير ذلك من الانتهاكات، لأن القانون الدولي الإنساني (اتفاقيات جنيف الاربع لعام 1949 وبروتوكوليها الاضافيين لعام 1977) حظَّرَ مبدأ المعاملة بالمثل في سياق العمليات الحربية، فلا يجوز لأي طرف متحارب أن يقوم بأي من الأعمال المحظورة قانونياً بحجة قيام الطرف الآخر بذات الأفعال، فلا يجوز له مثلاً اللجوء الى التعذيب أو قتل الأسرى والمدنيين أو التمثيل بالجثث وغيرها من الأعمال المحظورة قانوناً بحجة قيام الطرف الآخر بإرتكاب مثيلاتها، ولا يجوز اللجوء إلى الأعمال التي لا يحتاجها الطرف المقاتل، طالما لن تشكل له إضافة عملياتية، ولن تؤدي إلى إنهاك الطرف الآخر وإضعاف قواه القتالية، وهذا ما يسميه فقهاء القانون الدولي بمبدأ التناسب، وقد أدرج نظام روما للمحكمة الجنائية الدولية لعام 1998، الانتهاكات الجسيمة لاتفاقيات جنيف الاربع لعام 1949 في خانة جرائم الحرب.
وبناء على ماذكرناه وان كان “الائتلاف الوطني السوري لقوى الثورة والمعارضة” الذي انبثقت عنه الحكومة السورية المؤقتة التي تتبعها “هيئة الاركان العامة للجيش الوطني السوري”، جاداً في طروحاته، بخصوص ضرورة محاسبة نظام الأسد والميليشات التابعة له بسبب جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية التي ارتكبها طوال السنوات الماضية بحق السوريين، وبضرورة عدم افلات المجرمين من العقاب، وتطبيق العدالة الانتقالية في سوريا الجديدة، وفتح ملفات المحاسبة وما إلى هنالك من مصطلحات رنانة، فعليه أولا أن يقوم بمحاسبة مرتكبي تلك الجريمة المروعة موضوع هذا المقال، كونهم تابعين لهم ولحكومته المؤقتة، ورقياً على الأقل، كي يكسب أعضاؤه أو ما تبقى منهم، ثقة السوريين وكي يعلم السوري الذي عانى من ويلات الحرب طوال السنوات الماضية بأن هؤلاء أفضل حالا وأكثر احتراما لحقوقهم من بشار الأسد، وإلا ما الفائدة من استبدال المجرم بمجرمين آخرين قد يختلفون عنه فقط في مبررات القتل وأدواته.