إبراهيم محمود
منطق الربح والخسارة منطق تجاري بحت. وهذه بداهة. سوى أن الذي يلاحَظ كردياً، يشكّل مفارقة كبرى، ربما بامتداد تاريخهم المديد، هذا إذا افترضنا أن لهم تاريخاً يعنيهم، وقد كتبوه بملء إرادتهم، ومن موقعهم الاستقلالي. ولكي نحدد إطاراً زمنياً لهذا المنطق، ويكون أكثر صراحة بمحتواه، سنقتصر على الراهن. رغم أنه امتداد ما لما سبق. إن منطق الربح والخسارة، يتطلب الحد الأدنى من الوعي الشمولي: من هم الذين يشاركون في التجارة، وفيم يتاجرون، وما هي نوعية ” البضاعة ” التي يتم تداولها، وفي أي سوق وموقع هذه ؟ وتبعاً لأي علاقة تجري عملية المقايضة أو البيع والشراء؟
أكاد أقول مباشرة، عن أن المعنيين بشئون ” القضية الكردية ” يفتقرون إلى لغة هذا المنطق، وصعوبة امتحانه: حين يعرّفون بأنهم أهلٌ لها، وحين يتعاملون مع الداخلين على خطوطهم، وهم ذوو نفوذ، ولهم مواقع متقدمة في القوة والنفوذ، وأننا بمقدار ما نوسّع ساحة الرؤية، ونحسبها، سنجد أن هناك تجارة تتم على أعلى مستوى. ليس للمعنيين بما تقدم، أي مقدرة في تحديد ربح يحصلون عليه، أو حتى خسارة محددة يتوقعونها، ليتهيأوا لها، ليحسبوا حسابهم المستقبلي.
من ذلك، ما يخص الذين يمثّلون الكرد في لعبة العلاقات الدولية، باعتبارهم ” أطرافاً ” كردية، وهم ، كما يعلنونها في إعلامهم السمعي والبصري، يجالسون هذه القوة الدولية أو تلك، أو حتى القوة الإقليمية والمحلية، دون أي سؤال فعلي عما إذا كانوا يجالسونها من موقع استقلالية ما أم لا، إذا كانوا يمارسون عملية حوارية، من موقع تكافؤ معين أم لا، ما إذا كانوا هم أنفسهم قيمة تجارية محوَّلة، يجري خفْضها، أو رفع أسهمها، لأن ليس لديهم أي قوة- على الأرض- التي يسمّونها باسمهم سياسياً، وأن الآخرين” ذوي النفوذ ” يقيّمونهم من هذا المنطلق، يستدعون هذا الطرف الكردي أو ذاك، وربما يذهبون لملاقاته، ليس لأنهم يضفون عليه اعتباراً استقلالياً، وإنما لأن هناك تجارة ممثَّلة بمنطق القوة والنفوذ. ولهذا، ينتقلون من هزيمة إلى أخرى. لهذا، لا يكادون يعرِبون عن فرح ما” دبلوماسي؟ ” ومن موقع المنتصر” كما رأينا في ابتهاجات نصر روجآفا؟! ليلة أمس. ليلة منيّلة !” دون أي تفكير في خلفية منطق التجارة بمفهومها الأميركي- التركي تحديداً هنا. وكيف أبلعَهم أعداءهم طعْماً قاتلاً، كما هو حال من كانوا قبلهم، وحال من يعتقدون حتى الآن، أن القوى السياسية ذات الحدود السياسية المعترَف بها دولياً، هي وحدها من تدير لعبة/ منطق الربح والخسارة، من تعطى صلاحية معينة للتبازر، ومن هنا يفسّر علاقات كثيرة، والكرد مُدارون فيهم. ولأن الكرد- حتى اللحظة، مجرَّدون من هذه ” النعمة: الخاصية، فليس في مقدورهم أن يعلنوها بالبساطة هذه، بأنهم يحاورون الآخرين، كما لو أنهم قوة معترف بها، ضمن حدود سياسية. هنا تكمن الكلمة الضائعة، وهنا يكمن ضياع الكرد، وتداولهم كسلعة في لعبة العلاقات الدولية، بمفهومها التجاري.
مثلاً، حين يجري رفض التفاوض معهم، عبر قوة جزئية، من هذه الدولة أو غيرها، انطلاقاً من هذه القاعدة المتينة في لعبة العلاقات، تأكيداً على هامشيتهم حتى الآن!
ماذا أخسر، ماذا أربح، تعني لغةً، من أنا، وأين أنا، وكيف أنظر إلى نفسي، وإلى أي مدى أنا ممنوح مثل هذا التصرف بمصيري، كطرف كردي، أحادي القوة، محدودها !
في لعبة المصير، ليس لدى الكرد، كما هم عليه، وفي أي جهة كانت، أي وعي ذاتي، سياسي دقيق، كما هو مقتضى منطق الربح والخسارة. وفي ضوء ذلك، نجد قوى دولية، ومن جنسيات مختلفة تدخل في البازار المحلي، والكرد يتوهمون أنهم محط أنظار العالم، وهم في واقع الأمر سلعة يجري تقليبها على وجوهها في كل مرة، وتعطى هذه قيمة في كل مرة، من موقع ما هم فيه.
ربما الشيء الوحيد الذي يستدعي منطق الربح والخسارة، هو ما بين الكرد أنفسهم، بوصفهم أطرافاً سياسية، أي باعتبارهم فرقاً، بغضّ النظر عن نوعية قوة كل طرف، على الأرض. كما هو منطق تفككهم السياسي الذي يعني في الحال خسرانهم الجلي في كل علاقة قائمة.. أي ما ينبغي عليهم أن يكونوا قوة تعنيهم جميعاً، ليكون لرصيدهم السياسي اعتبار في البازار المحلي والإقليمي والدولي. وهذا- وللأسف الشديد- غير موجود. أي حين يكونون على بيّنة من أنهم غير قادرين على الدخول في أي ” بازار ” سياسي، ومع أي طرف دولي، وإقليمي، دون هذا المنطق.
ربما في ضوء ذلك، يمكن تفسير ما جرى بالأمس، حيث ابتهج ” كردنا ” بانتصارهم على ” تِركو ….” بينما كانت ” طنجرة الماء المغلي ” في سوق السياسة، وعرابها الأميركي، وقصّابها التركي، تحضَّر لسلخ جلدهم، وإبقائهم ما دون العظم: دون لحم.
ربما، هكذا يمكن تعميم المفهوم: على مستوى السياسة، على مستوى الاقتصاد، على مستوى الثقافة، على مستوى النقد..
” ملاحظة ” : أنوّه هنا، إلى نقطة، أعتبرها مفصلية، بصدد ما أكتب، ودون ادعاء خاص بي، وهي أنني في مجمل ما أكتب، لا أتخذ من أي طرف كردي: سياسي، وأقيم معه علاقة كتابية من منظور نقدي، إلا من زاوية شاملة، أي ما يصل هذا الطرف بسواه كردياً، أي ما هو عليه كجزء، وهو ينظر إلى نفسه ككل. فتكون الخسارة الكبيرة. وثمة من يخرجون الكلام من خاصيته هذه، أي كوني أقيم علاقة ذات اتجاه وحيد. وما هي عليه قريحته البائسة، وحتى ضحالته في الوعي، حتى فقره المدقع في منطق الربح والخسارة. “.