د. محمود عباس
وكما نوهنا سابقا، فهذا التاريخ العميق والغني بالحوادث، المثبتة بالوثائق والمصادر، للعشائر الكردية في الجزيرة والتي حرفت بمهنية عالية، هي التي يجب أن يقف عليها الباحث الكردي التائه بين صفحات شوهها البعض من الكتاب العروبيين، الذين حصروا تاريخ منطقتنا في حدث أو حدثين جريا في الثلاثينات من القرن الماضي، وضمن جغرافية مساحتها لا تتجاوز الخمسون كيلومتر مربع، متناسين أن تاريخ كردستان الجنوبية الغربية تمتد على مسافة ما بين البحر إلى ديركا حمكو، وهذا التجاهل سمح للأخرين سهولة الطعن في ماضينا وحاضرنا، وخاصة في هذه المرحلة الحساسة، إلى درجة أنه ظهر تجمع عروبي تحت ما يسمى بالـ (التجمع الوطني العربي) في منطقة الحسكة،
فعقدوا مؤتمرا وبأمر من السلطة في قرية جرمز بريف قامشلو، وأصدروا بيانا أقل ما يمكن القول فيه سافر وتشويه لتاريخ القبائل العربية ورحلاتهم ما بين حائل والجزيرة، وثورتهم ضد أل السعود والبريطانيين، قبل أن يكون تعتيم وتحريف للتاريخ الكردي، هاجموا فيه بيان (المجلس الوطني الكردي في سوريا، بل ومن خلالهم كل المجتمع الكردي) لتسميتهم الحسكة وقامشلو وتربه سبيه وعاموا بالمدن الكردية، مدعين عروبتها. ببيانهم ذاك أعادوا مسيرة العقود الطويلة من حقد السلطات العروبية والكراهية والعنصرية ضد الشعب الكردي على أرضه، من خلال شريحة متلاعبة بمفاهيمها من القبائل العربية الأصيلة.
ومن جهة أخرى ظهر كتاب انتهازيون يرتزقون من جهات مشبوهة، أمثال (صبحي الحديدي) وتحت عباءة الوطنية السورية، مدعين أنها مدن سورية وليست كردية، ولو اكتفوا، على أنها سورية لما كانت هناك إشكالية، لأنها حتى ولو كانت دولة سياسية لقيطة، لكن معترفة بها في الأوساط العالمية، إلا أن دعاة الوطنية دفعوا بمفهومهم الوطني هذا نحو العدم، ليس في نفيهم لكرديتها بل بالتغاضي عما ينشره العروبيون عن عروبة هذه المدن. فهو وأمثاله من الكتاب المعروفين، المأمول منهم الإنصاف، يتناسون تحت عباءة الوطنية، أن سوريا بجغرافيتها الحالية ظهرت على مصالح سياسية، ومن الغريب أنهم حتى قبل سنوات لم يكن يشعرون بها كوطن وبعضهم لم يكن يعترفون بها، وبرزت هذه الغيرة المشكوكة في أمرها فجأة عندما حصل الكرد على بعض المكتسبات، وهم أعلم من الكثيرين أنها من ضمن الدول اللقيطة المصنوعة من قبل فرنسا وبريطانيا، وجزء كبير من هذه الجغرافية المسماة بالوطن السوري، متكونة على حساب الجغرافية الكردستانية المحتضنة للمدن المعنية.
وبالمناسبة، أين كان هؤلاء يوم كانت أعضاء من الحركة الكردية تقبع في السجون على خلفية مطالبتها جعل سوريا وطن للجميع؟ والمحير أنهم يتغاضون، بتصريحاتهم الوطنية هذه، عن بيان فلول داعش والبعثيين والمسمى بالتجمع الوطني العربي، المنتهكين حرمة الوطن أرضا وعرضا، مركزين فقط على الجانب الكردي. أليست هذه من دلالات الانتهازية الفاضحة، يحافظون بها على مصادر الارتزاق؟
ولهشاشة أعلام حراكنا الكردي، وخاصة إعلام المجلس الوطني الكردي، والإدارة الذاتية، والأحزاب المدعية أنه لها إعلام، والتهائهم بالصراعات التخوينية الداخلية، وتحشيدهم للعديد من الكتاب ضمن خلافاتهم، تنفتح الأبواب على مصراعيها للقوى والكتاب المتربصين بالكرد بتحريف تاريخنا كما يريدون ودون رادع.
فإشكاليات التحريف للتاريخ، ومحاولات خلق الشكوك حول كردستانية الجزيرة، وتصغير دور العشائر الكردية فيها وتحديث تاريخ وجودهم، وتقزيم تاريخ الأمة في حدث أو شخص، أو خلق الرواية عن الخوة والمتممة للجزية الإسلامية، جميعها قضايا يبحث عنها المتربصين بالكرد للطعن ليس فقط في بعض العشائر الكردستانية أو عشائر منطقة معينة، بل في تاريخ الأمة الكردية، خاصة عندما يضعف الإحساس بأهمية مجريات الأحداث المنسوخة من قبل الأعداء، وتفضيل الانتماء إلى العائلة أو العشيرة أو الحزب على الانتماء إلى الوطن، المقتسم بين السلطات الناهبة لخيراتنا، والفارضة علينا الخوة تحت اسم حضاري وهي (الضرائب) كضريبة الدخل، وضريبة الأرض وهي ارض كردستان، وضريبة تسجيلنا كمواطنين عرب سوريين، وغيرها.
إعادة كتابة هذا التاريخ، بحذر وإدراك، من ضرورات المرحلة، وبعضها أوجهها تحتاج إلى مختصين، لتحليل التفاصيل وبدقائقها، والبحث في كل حدث بمهنية، وتوثيق وقائعها، لنخرج باستنتاجات لحاضرنا ومستقبلنا، ولكن شريطة ألا تكون على حساب تاريخ الأمة، لا أن يتم تسخير خدمات الشعب الكردي لترقية فرد، فيستغلها الأعداء للطعن في كرامة الأمة وتاريخها.
وعليه فالأسئلة التالية المؤلمة تفرض ذاتها علينا وعلى الإخوة الكتاب الكرد الطاعنين في كرامة البعض من العشائر الكردية، أو لنقل وبشكل غير مباشر في تاريخ جزء من الشعب الكردي.
1 حاضرا، أليست، جريمة، الدخول في سجالات عقيمة على عفرين فيما إذا كانت محتلة حاضرا أم ماضيا، وتصعيد خلافاتنا البيزنطية في الوقت الذي يتم فيه نهب الشعب، وتدمر ليس البنية التحتية فقط بل الفكرية أيضا، ويحاولون طمر بعدها الكردي والكردستاني؟
2 أليست جهالة وجريمة، عدم إزالة المطبات لفتح الحوارات بين بعضنا، في الوقت الذي تقف فيها تركيا والسلطة السورية والمعارضة على أطراف جغرافية شرقي الفرات لاجتياحها بأية لحظة، والقضاء على البقية الباقية من ديمغرافيتنا؟
3 أليست جهالة وجريمة تاريخية، ترويج البعض من كردنا مقولة: أن عشائر من الكرد في منطقة الآشيتا كانوا يدفعون (الخوة!) فهل هذا تدوين لتاريخ الشعب الكردي أم طعن فيه وتصغير لمكانة الأمة؟
4 هل العشائر الكردية مهاجرون في الجزيرة، ودفعوا الخوة صاغرين شاكرين من ضعف، وإحساس بأنهم ضيوف وعليهم دفع الجزية؟ أم أن القبائل العربية في الجزيرة الكردستانية، هي التي هاجرت من مناطقها في شمال شبه الجزيرة العربية، واستولوا على أراضينا وسلطاتهم فرضت الجزية والضرائب؟
5 متى تغيرت المعادلة، من كوننا أمة كردستانية محتلة بكل قبائلنا وأدياننا وكنا ندفع الجزية للسلطات الإسلامية العربية وليست الخوة للعشائر، والأن ندفع الضريبة، ليس فقط للعرب بل للفرس والترك، ولا زلنا؟ إلى أمة قوية وقبائل مستقلة رفضت دفع الجزية والضرائب لتلك السلطات؟ فهل هناك من يستطيع أن يفتخر على أنه لم يدفع الجزية ولا الضريبة؟
6 أين المذمة وأين الافتخار؟ أية عشيرة أو منظمة أو شخصية لها أن تفتخر وأية منها يجب أن تذم؟ أم أن الأمة الكردية هي كلها واحدة، مذمة ما دمنا محتلين، وتفرض السلطات الشمولية إملاءاتها وشروطها علينا متى ما تشاء، وطرف كردي واحد يشمل الكل؟ ووصف قسم من الحراك أو عشيرة على حساب الأمة سذاجة ومذمة في عمقها، فيما إذا كان الإحساس بالوطن حاضرا في الوجدان. فتعظيم شخص أو حزب أو عشيرة على حساب الشعب والأمة انتقاص وتصغير وطعن في ماهيتهما. فعلينا أن ندرك وننطلق من أن الكل الكردستاني كانت ولاتزال مستعمرة، تدفع من روحها ودمائها، وتسلب كرامتها وأموالها وثقافتها، وبدون توافق لن ننتصر ونتحرر.
7 أليست جهالتنا هي التي تؤدي بنا إلى الاستمرار في مستنقع التشتت والضياع والتبعية ذاتها، وسذاجة نشر مثل هذه الأقوال؟
8 ألم نزل شعب نبدد إمكانياتنا الهائلة ونعاني الويلات، ونحن بديمغرافية لا تقل عن معظم الدول الكبرى في أوروبا، وبجغرافية هي لنا جدلا، تتجاوز مساحتها العديد من الدول العظمى في العالم، محتلة ومقتسمه بين أنظمة شمولية دكتاتورية، لا سلطان لنا عليها؟
9 أليست تأويلاتنا المشوهة وتحليلاتنا الساذجة هي التي تعمي بصيرتنا وبصيرة مجتمعنا، وتضعف الأمل برؤية القادم الذي نحلم به، وهي التي تدفع بنا لنفضل الذات والعائلة والحزب على الوطن، والعشيرة على القومية، وهي التي تحفزنا لنخلق طوطما من صلب العائلة أو العشيرة أو الحزب، ونكون حول هذا الطوطم تاريخ، ونحن نرزخ تحت الاحتلال، مع ذلك نكتب عنه ونبدع فيه، بل والأبشع شريحة واسعة من حراكنا ومجتمعنا، يمجدون طوطما مخلوق بإرادة خارجية ويركزون عليه بكل ما يملكون من الإمكانيات الفكرية والمادية، ويتناسون في حضوره مادة أو روحا، تاريخ أمتنا وحاضر مجتمعنا ومستقبل وطننا؟ …
يتبع…
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
3-12-2018م