عَلَم وشوكة

د. ولات ح محمد
    قبل أيام نشرت مقالاً بخصوص مجموعة من المواطنين الأتراك قاموا بالاعتداء في مدينة طرابزون التركية على مواطنين من إقليم كوردستان لأنهم رفعوا العلم الكوردستاني بغية التقاط صور تذكارية معه، وبدلاً من أن يقوم الأمن التركي بمعاقبة مواطنيه المعتدين قام باحتجاز السائحين الكورد وكأنهم ارتكبوا جرماً شنيعاً. ما كاد حبر ذلك المقال يجف حتى قام ضابط عراقي برتبة ملازم أول بإهانة مواطنين كورد بسبب اتشاحهم بعلم كوردستان أيضاً ولكن في بادية سماوة العراقية هذه المرة في أثناء زيارتهم مقبرة جماعية للكورد تام اكتشافها مؤخراً في تلك المنطقة. 
    منع العلم الكوردي وإهانة حامله هو الموضوع المشترك بين الحالتين، ولكن ما يميز الحالة العراقية عن التركية فارقان: الأول أن العلم الكوردي ليس علماً معترفاً به في تركيا، ومن السهل والوارد والمتوقع أن يتنطع شوفيني حاقد سواء أكان مدنياً أم موظفاً حكومياً بإهانة العلم وحامله وأن يتذرع كذباً فيما بعد أنه لا يعرف العلم وينتهي الأمر. أما في العراق فالعلم الكوردستاني معترف به في القانون والدستور العراقيين، والمواطن العراقي المدني والرسمي يعرف ذلك جيداً، وبالتالي يكون اعتداؤه عليه ناتج عن أحد أمرين: فإما أن ذلك الملازم وحده لا يعرف قانون بلاده الذي من المفترض أنه قد ارتدى اللباس الأمني الرسمي كي يفرض تطبيقه على الناس، وهذه مصيبة. وإما أنه يعرف القانون جيداً ويعرف أن رفع العلم الكوردي تصرف دستوري وقانوني لا غبار عليه، وأنه عندما يمنع رفع العلم أو الاتشاح به يكون هو نفسه المخالف للدستور والقانون وليس رافع العلم. وتكون هنا المصيبة أعظم، لأن هذا يعني أن الضابط الذي يمثل القانون في الدولة يتصرف من رأسه متجاوزاً القانون والدستور دون أن يخشى العقاب. وهذه رسالة سيئة جداً للشباب والنش بألا يحترم القانون وأن يعمل ما يملي عليه جهله وحقده ومصلحته، ليس بخصوص الكورد وحدهم وإنما في كل ما يتعلق بحياة المواطنين، حتى تصبح الدولة دولة “كل مين إيدو إلو” بتعبير غوار الطوشة السوري.
    الفارق الثاني بين الحدث الطرابزوني والحدث السماوي أن الأول كان في مناسبة سياحية، أما الثاني فإن الكوردي كان يزور أحد المقابر الجماعية التي كانت من منجزات صدام حسين قبل أكثر من ثلاثين عاماً وقد تم اكتشافها قبل أيام. كان ابن كوردستان يزور تلك المقبرة كي يقنع نفسه بأنه زار قبراً ربما كان أحد أقربائه فيها مع يقينه بأنه لن يتعرف فيها إلى شيء أو أحد. ابن الشهيد أو أخوه أو ابن عمه أو والده وضع العلم الكوردي على كتفيه وهو يقف على حافة المقبرة كي يذكّر العالم بمأساته وبأن النظام السابق دفنهم في مئات المقابر الجماعية لأنهم كورد فقط وليس لأي شيء آخر. أما ابن البلد الضابط العراقي الذي من المفترض أنه يمثل البديل الديمقراطي عن النظام الديكتاتوري الدموي (صاحب المقبرة) فإنه لا يعرف كل هذه المشاعر الإنسانية، ولذلك لا يستطيع أن يحترمها أو يحترم صاحبها، لدرجة أنه تناسى كل تلك المأساة وراح إلى مخالفة الدستور العراقي وتجاوز القانون لكي يهين الكوردي ومشاعره وعلمه ويسهم هو غيره بهذه الزعرنة في خلق الفتن والتفرقة بين الناس ويعلّمهم تجاهل القانون والتحدث فقط بمنطق القوة، فهو ضابط مسلح وذوو الشهداء مدنيون عزّل.
    حدثُ العلم في كل من بادية السماوة العراقية وقبلها طرابزون التركية مؤشر على أن تلك القماشة الزاهية المزينة بالأخضر والأحمر والأصفر والأبيض باتت مصدر قلق وإزعاج للحاقدين المرضى والمتخلفين، وشوكة تقض مضاجعهم التي لم يشعروا فيها براحة يوماً، وكابوساً يزورهم في أحلامهم التي لم تكن وردية في أي وقت مضى. ذلك كله لأنهم لا يستطيعون أن يقبلوا الآخر، أن يحبوا الآخر .. بل لا يقبلون حتى أنفسهم. ولذلك لا يستطيعون أن يروا في علم كوردستان علماً كباقي أعلام الدنيا المعترف بها في القوانين والدساتير، وإنما يرون فيه علماً.. وشوكة. 
    أما نحن فسنظل نردد: “كوردستان قادمة” حتى ولو كنا على يقين بأنها على بعد ملايين الأميال الزمنية. سنردد ذلك لكي يظل أولئك الحاقدون المرضى بشوفينيتهم يعيشون في قلق دائم، وكي يبقى العلم الكوردستاني بالنسبة إليهم شوكة في أجسادهم تنغص عليهم حياتهم، لأن من لا يحب الآخر يستحق أن ينام وفي ظهره شوكة، وأن يكتم أنفاسه كابوس يرى فيه علم كوردستان مرفرفاً عالياً.. يحاول بكل قوة وبمساعدة آلاف المرضى من أمثاله إنزاله ولكنه يفشل، ويبقى العلم ثابتاً شامخاً.. يصحو من الكابوس لاهثاً مقطوع النفَس وقد تصبب عرقاً وحقداً وتخلفاً .. وزاد مرضاً.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

ماجد ع محمد عندما تكون هنالك لقاءات دورية ومفاوضات مستمرة بين أطراف سياسية أو عسكرية معيّنة بهدف الوصول إلى الحل والاتفاق على بنود تخصّ الطرفين حيال القضية الشائكة، عادةً ما يتم العمل على تسوية الأرضية وتمهيدها وترطيب الأجواء بعطور التفاؤل وتهيئة المناخ العام لذلك الحدث المرتقب، باعتبار أن المناخ الحربي أو التخويني أو الاتهامي الكريه يعمل على النفور والتباعد وليس…

خوشناف سليمان بعد عام من سقوط نظام بشار الاسد وفراره المذل في ديسمبر 2024، دخلت سوريا مرحلة انتقالية هشة ومعقدة، تشبه رقعة شطرنج ضخمة تتداخل فيها تحركات اللاعبين المحليين والاقليميين والدوليين. يقود هذه المرحلة شخصيات مثيرة للجدل، معظمها خرج من تنظيمات كانت مصنفة ارهابية، لتصبح اليوم قطعاً تحتل مربعات حساسة داخل مؤسسات الدولة الناشئة. المشهد يعكس مأزق اعادة بناء الدولة…

شكري بكر إن ما يحدث في سوريا ومنذ سقوط نظام بشار الأسد البائد من أحداث وتطورات سياسية وعسكرية بين السلطة الجديدة في دمشق بقيادة أحمد الشرع ومظلوم عبدي قائد قوات سوريا الديمقراطية ، وما إتفاق 10 آذار هو إتفاق عسكري وإداري لا علاقة له بالقضية الكوردية لا من قريب ولا من بعيد . فالبنود الثمانية التي وقع عليها كل…

شادي حاجي   إلى السياسيين الكرد، إلى المثقفين، إلى النخب في المجتمع المدني، لنكن واضحين منذ البداية: لا يوجد إنجاز كردي حقيقي في سوريا دون تغيير جذري في طريقة التفكير. وكل حديث عن مكتسبات أو انتصارات، بينما العقل الذي يدير المشهد لم يتغير، ليس سوى محاولة لتجميل الفشل أو تأجيل الاعتراف به.   التجارب السابقة لا تحتاج إلى مزيد من…