علم كوردستان جريمة في تركيا؟!!.. إلى أين يمضي أردوغان؟

د. ولات ح محمد
    قام قبل يومين مدنيون أتراك في مدينة طرابزون التركية بالاعتداء على سواح كورد قادمين من إقليم كوردستان بسبب محاولتهم التقاط صور تذكارية سياحية مع العلم الكوردي، ثم تدخلت القوات الأمنية وألقت القبض عليهم ووضعتهم في الحجز قيد التحقيق. في أثناء كتابة هذا المقال ورد خبر يفيد بأن السلطات التركية قامت بالإفراج عن الموقوفين بعد صدور بيان إدانة عن كل من حكومة الإقليم وبرلمانه بالحادث ومطالبتهم بالإفراج عن المواطنين الكورد. وبغض النظر عن صحة خبر الإفراج عن الموقوفين وعدمه فإن السؤال الذي يبقى مطروحاً هو: لماذا تم إيقافهم أساساً؟ ولماذا تلجأ السلطات التركية إلى مثل هذه المضايقات بحق الكورد في كل مكان؟ وإلى أين يمضي أردوغان في علاقته بالكورد داخل تركيا وخارجها على حد سواء؟.
   منذ توليه الحكم مرت علاقة الرئيس التركي بالكورد بمراحل مختلفة تصاعدية نحو الأسفل يمكن وضعها تحت عناوين ثلاثة: أولها المرونة والانفتاح وتغيير الخطاب الشوفيني تجاه الكورد. وقد اعترف في هذه المرحلة بالوجود الكوردي في تركيا، كما استخدم عبارات مثل “الإخوة الكورد” ووعدهم بأن ينالوا كامل حقوقهم في تركيا. أما العنوان الثاني فهو أنه جعل من الكورد جسراً للعبور. وقد حافظ في هذه المرحلة على العبارات والشعارات السابقة ولكن فقط لغايات انتخابية بعد أن بدأت شعبيته تتراجع لدى الشارع الكوردي، خصوصاً بعد دخول حزب الشعوب الديمقراطي منافساً له على كسب ذلك الشارع. وقد رأيناه في هذه المرحلة يسمح برفع علم كوردستان في أثناء استقباله للمسؤولين الكورد، ليس فقط في غرف الاجتماع وإنما في مطاره الدولي في إسطنبول أيضاً، وعامله معاملة علم دولة مستقلة، ثم تذرع للمعترضين من الأتراك بأنه علم معترف به دستورياً في العراق.  
    أما العنوان الثالث فيمكن تسميته مرحلة الكوردوـ فوبيا، إذ تراجعت في هذه المرحلة تلك الشعارات السابقة في خطاب أردوغان وتبنى بدلاً من ذلك تجاه الكورد الخطاب القومي المتشدد لحليفه حزب الحركة القومية. وبات في هذه المرحلة الأخيرة والمستمرة حتى الآن يتصرف تجاه الكورد داخل تركيا وخارجها ككل الأحزاب الشوفينية التي حكمت تركيا منذ مائة عام. في هذه المرحلة شهدنا مثلاً موقفه وخطابه المقيتين من استفتاء إقليم كوردستان، على الرغم من إظهاره غير ذلك الوجه في المرحلتين السابقتين. كما شهدنا احتلاله لعفرين ومازلنا نرى يومياً تهديداته باجتياح غرب كوردستان تحت ذرائع واهية، وكاد أن يفعلها قبل شهور لولا الضوء الأحمر الأمريكي. 
    كان أردوغان على الدوام يسوغ تلك الإجراءات التعسفية بحق الكورد بأنها فقط موجهة لحزب العمال الكردستاني وحلفائه، ولكنه قدم بنفسه أكثر من إثبات وفي مناسبات عدة بأن هذه كذبة كبيرة يضحك بها على بعض العقول الصغيرة. ويمكن أن نسوق في هذا الإطار الكثير من الأمثلة الدالة على ذلك، نذكر منها ما يلي:
أولاً، أبدى الرئيس التركي موقفاً سيئاً من استفتاء الإقليم كما سبق القول، ثم وصف لاحقاً الإقليم نفسه بأنه “المستنقع” الذي لن يسمح بتكرار حدوثه في شمال سوريا. مع العلم أن الإقليم لا يخص حزب العمال وحلفاءه، بل إن هذا الأخير على خلاف مع إدارة الأول.
ثانياً، قامت سلطات الجيش التركي أصالة عن نفسها أو عبر وكلائها منذ احتلاله لعفرين بمحاولة محو الذاكرة الكوردية للمكان، من خلال تغيير أسماء الشوارع والساحات والقرى واستبدالها بمسميات تركية، ناهيك عن التغيير الديمغرافي الفاقع للمنطقة بغية تغيير لونها الكوردي. وهذا أمر لا يخص حزباً أو طرفاً سياسياً بل يستهدف وجود شعب بأكمله.
ثالثاً، كان أردوغان قبل شهور قد طالب شركة غوغل بحذف خارطة كوردستان الكبرى من موقعها الرسمي، علماً أن هذا أيضاً أمر لا يخص حزباً ولا إقليماً ولا جهة محددة، وإنما يخص كل كوردي في كل زمان ومكان ويخص وجوده وذاكرته وحلمه بالدرجة الأساس. 
رابعاً، قامت دار ترجمة تركية قبل أيام بحذف اسم كوردستان من رواية (11 دقيقة) للروائي البرازيلي باولو كويلو في طبعتها التاسعة والثلاثين من الترجمة التركية. وللتذكير تقول الرواية إن ماريا “ذهبتْ إلى مقهى إنترنت واكتشفت أن الكورد جاؤوا من كوردستان، الدولة غير الموجودة، والمقسمة بين تركيا والعراق”. أما الترجمة التركية فتقول إن ماريا “ذهبت إلى مقهى إنترنت واكتشفت أن الكورد يعيشون في الشرق الأوسط”. وهذا الإجراء (إضافة إلى كونه خيانة للكاتب وروايته واستلاب لحق القارئ في قراءة النص الحقيقي للرواية كما هو) هو اعتداء صارخ وممنهج على الكورد وحقهم في وجود اسمهم في الرواية كما ورد في النص الأصل. 
خامساً، قامت بعض أجهزة أردوغان الأمنية (بعد يومين من حدث الترجمة) باعتقال عدد من السواح من إقليم كوردستان في مدينة طرابزون التركية بسبب رفعهم للعلم الكوردي بغية التقاط صور تذكارية سياحية كما ذكرنا في مقدمة المقال. وهو أمر مثير للاستغراب لسببين: الأول أن الشباب الذين رفعوا العلم مواطنون كوردستانيون وليسوا من مواطني الدولة التركية. أما الثاني فهو أن هذا العلم الكوردي هو نفسه العلم الذي كان كلٌّ من أردوغان ذاته ورئيس وزرائه قبل عامين يسمح بوجوده إلى جانب العلم التركي عند استقبالهما لقيادات من الإقليم وبالتقاط الصور أيضاً، بل سمحوا برفعه حتى في مطاراتهم التي هي الواجهة الأولى للدولة ورمز سيادتها. فهل سيعتقل جهاز الأمن رئيس الدولة ورئيس الوزراء أيضاً بداعي ارتكابهما “الجرم” ذاته؟!.
    ماذا يقصد أردوغان بمثل هذه الإجراءات؟. هل يريد مثلاً إفراغ ذاكرة الزمان والمكان والتاريخ والجغرافيا والناس والكتب من اسم الكورد وكوردستان حتى لا تقوم لهما قائمة كما يظن؟. ألا يعلم أن أنظمة المنطقة (بما فيها الأنظمة المتعاقبة على الحكم التركي) قد لجأت إلى مثل هذا الأسلوب على مدى أكثر من نصف قرن من خلال عمليات التعريب والتتريك والتفريس بغية صهر الإنسان الكوردي وفشلت فشلاً ذريعاً؟. أليس من التخلف العميق والمزمن أن يفكر المرء بهذه الطريقة في عصر الإنترنت والموبايل وذاكرة التخزين والصورة السريعة والشبكة المفتوحة لكل العالم وعلى كل العالم والحافظة لكل شيء حتى تلك الأمور التي لم يفكر صاحبها بحفظها والعودة إليها يوماً ما؟!!.
    ما الذي حدث أو يحدث، إذاً، حتى يدفع الأمور بهذا الاتجاه؟. هل بدأ أردوغان (منذ زمن) يكشف عن وجهه الشوفيني الذي أخفاه خلف قناع آخر كل تلك السنوات والذي بدا أنه لا يختلف عن وجوه أسلافه في الحكم على مدى مائة عام؟. هل سيعود مثلاً وبالتدريج إلى منع التحدث باللغة الكوردية داخل تركيا كما فعل سابقوه (وهو أول حاكم تركي سمح بها)؟. هل ينتقم أردوغان بهذه الممارسات من كل الكورد رداً على كورد إسطنبول الذين أسهموا في خسارته مدينته الأثيرة فشعر أن اللبنة الأولى من برجه قد سقطت وأن القادم بالنسبة إليه أسوأ؟. هل يود أن يستقطب بهذه التصرفات والتصريحات شريحة أكبر من التيار القومي التركي إلى جانبه بعد أن فقد الكثير من شعبيته في الشارعين الكوردي والإسلامي التركي، وهو ما ظهر في نتائج الانتخابات الأخيرة؟ هل يريد بهذه الممارسات ضد الكورد داخل تركيا وخارجها التغطية على فشل سياساته داخلياً (الاقتصاد وغيره) وخارجياً (العلاقات مع أوربا وأمريكا)؟. هل يريد أن يعلق فشله أمام الأتراك على شماعة الكورد؟. 
    كان الكوردي في خطاب أردوغان هو الأخ والصديق حينما أراد في بداياته أن يقدم وجهاً مختلفاً عن أسلافه، ثم ما لبث أن جعل ذلك “الأخ والصديق” في سياساته جسراً للعبور الانتخابي ليس أكثر، ثم بعد أن بدأ يشعر مؤخراً بالسقوط نحو الهاوية حوّل ذلك “الأخ والصديق” إلى خصم غير معلن، وبات يشن عليه حرباً تستهدف وجوده حتى في أدق تفاصيله. فإلى أين يمضي أردوغان بسياساته تجاه الكورد؟ وهل يمكن القول باختصار إنه تخبط الغريق؟.
 

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…