تصريحات تركيا وممارساتها محاولات لطمس الهوية الكردية

رياض علي
 
لا شك إن الهجوم المسلح الذي تم في أحد مطاعم هولير/أربيل في عز الظهيرة بتاريخ 17 من هذا الشهر، والذي نتج عنه مقتل ثلاثة أشخاص من بينهم نائب القنصل التركي في كردستان العراق، هو عمل جبان ومدان بكل المقاييس، وقد سارعت حكومة الاقليم على الفور، وعلى لسان المتحدث الرسمي باسم الحكومة “جوتيار عادل” إلى إدانة هذا العمل ووصفته بالعمل الارهابي المدبر والمقصود، وفي اليوم التالي قامت مؤسسة مكافحة الارهاب في اقليم كردستان، بنشر صورة لأحد الأشخاص المطلوبين على خلفية الهجوم المذكور، وهو من مواليد مدينة ديار بكر التركية، وطالبت المواطنين إلى إبلاغ الاجهزة الامنية عن أي معلومات تتوفر لديهم حول هذا الشخص المتهم، 
وهذا الأمر يعتبر من بديهيات العمل الدبوماسي المتعارف عليه بين الدول، كما يعتبر من واجب حكومة الاقليم أيضا كون الجرم وقع على أراضيها، وهي المسؤولة عن حماية كل من يعيش على هذا الاقليم أو يزوره، ناهيك عن ان حماية موظفي القنصليات تحكمها اتفاقية فيينا للعلاقات الدبلوماسية لعام 1963.
ولا شك أيضا إن حدوث هذا الأمر على الرغم من فداحته هو ممكن الحدوث في أي دولة في العالم وان كانت تتمتع بالتطور التقني والخبرة الأمنية، والحوادث المشابهة كثيرة على مر الزمان ولانريد ذكر الكثير من الأمثلة بهذا الخصوص، بعضها قديمة وأخرى حديثة، ولعل أكثر الأمثلة العالقة في الذهن حديثاً هو مقتل السفير الروسي في تركيا “أندريه كارلوف” بالرصاص في كانون الثاني 2016 بينما كان بمؤتمر صحفي تخلل زيارته لمتحف فني في أنقرة، وكان مطلق الرصاص هو شرطي تركي من بين المكلفين بحماية موكب السفير، وتعتبر حادثة الاغتيال هذه (السفير الروسي) أكثر تأثيرا وأكبر وقعاً من حادثة أربيل، لأسباب كثيرة سواء من حيث مرتكب الفعل، اذ أن الفاعل في حالة أنقرة هو من عناصر الحماية الشخصية للسفير، ومن المفترض أنه مُنتقى بعناية، أو من حيث الضحية اذ ان الضحية في تلك الحادثة هو سفير بينما في هذه هو نائب قنصل، على الرغم من قناعتنا بان التمييز على أساس المنصب الوظيفي أو أي أساس آخر غير مبرر، لكن المواثيق والأعراف الدبلوماسية تضع هذا النوع من التمييز ولا سيما فيما يتعلق بدرجات ومستويات الحماية، أو من حيث موقع الجريمة وظروفها فحادثة اغتيال السفير حدثت أثناء مؤتمر صحفي وبزيارة رسمية بعلم الحكومة التركية ومن المفترض أنه قد تم التحضير لها وأخذ الاحتياطات الأمنية والاستخباراتية اللازمة، أما حادثة أربيل فكانت أثناء زيارة نائب القنصل لمطعم عام، وحسب تتبعي للخبر، فأغلب الظن ان الزيارة تمت دون إبلاغ سلطات الاقليم بها، ومع كل ذلك فان حكومة الاقليم ملزمة قانونيا وأخلاقيا ببذل قصارى جهدها في التحقيق في الجريمة وتقديم الجاني/الجناة الى القضاء.
لكن ما أثار استغرابي هو أن الرئيس التركي غرد على التويتر بعد تقديم التعازي لاهالي المقتول، بانه “يسعى الى التوصل بشكل سريع الى معرفة الجاني بالتعاون مع حكومة بغداد والسلطات المحلية”، وهو يقصد بالسلطات المحلية هنا حكومة إقليم كردستان، وكان من المفترض دبلوماسيا أن يحترم الدستور العراقي ويذكر الاقليم وفق التسمية الواردة في هذا الدستور ولاسيما المادة 117 حيث أقرّتَ صراحة إقليم كردستان، وإن كان الرئيس التركي قد سهى عن هذا الأمر، وهذا ما استبعده كونه من الرؤساء المشهود لهم بالحنكة والبراعة السياسية، فهذا خطأ فادح وزلة دبلوماسية غريبة، وإن كان قد تقصد عدم ذكر كلمة كردستان، وهذا هو الاحتمال الأقرب للصواب، فهذا يعني أنه غير راغب في التلفظ بهذه الكلمة خوفا من تداعياتها على المجتمع الكردي التركي، ورغبة منه في طمس كل ما يمت لكردستان بصلة، وظناً منه بأنه قادر على ازالة هذه الكلمة من أذهان الكثيرين ولا سيما الشعب التركي بتركه وعربه وكرده ولازه.
ونميل الى الاحتمال الثاني كون هذه ليست المرة الاولى التي تقوم فيها الحكومة التركية بأفعال تنم عن رغبتها في إخفاء كل مايمت الى الهوية الكردية بصلة، ومنها على سبيل المثال رفضها للاستفتاء الذي تم في كردستان العراق في ايلول 2017، هذا الرفض الذي وصل الى حد وضع الحشود العسكرية على حدود الاقليم، والتهديد باجتياحه، ومحاصرته اقتصاديا بالتعاون مع حكومتي بغداد وايران، وقطع المواصلات البرية والجوية والصلات التجارية مع الاقليم، الامر الذي تسبب في حصار خانق للاقليم لأكثر من عام، بالاضافة الى خسارة الاقليم للكثير من المناطق المتنازع عليها لصالح الحكومة المركزية، التي لم تف بالتزاماتها الواردة في الدستور العراقي بخصوص المناطق المذكورة، حيث نصت المادة 140 على “وجوب اجراء الاستفتاء في محافظة كركوك والمناطق الاخرى المتنازع عليها في موعد أقصاه 31/كانون الثاني 2007″، كما طالبت تركيا في عام 2018 إدارة محرك البحث غوغل بالغاء كلمة كردستان من موقع الخرائط، وكانت غوغل قد نشرت خريطة لكردستان شملت أجزاء من تركيا وايران والعراق وسوريا، وعرفتها بانها منطقة جغرافية ثقافية يشكل الكرد فيها غالبية سكانية واضحة وفقاً للخرائط والبيانات التاريخية.
وكذلك تغاضيها عن الجرائم والانتهاكات التي تتم في منطقة عفرين من قبل الفصائل المسلحة المعروفة بولائها لتركيا، وكان من الواجب على الحكومة التركية أن تضع حدا لتلك الانتهاكات كون تلك الفصائل تتلقى دعمها المادي واللوجستي منها، ولا يتوقف الدعم التركي المادي عند حد الفصائل العسكرية بل تتعداها الى المجالس المحلية وقضاة المحاكم وموظفيها، وموظفي أمانات السجل المدني والشرطة، فإضافةً إلى دفع رواتبهم  تقوم الحكومة التركية بتعيين القضاة ورؤساء المجالس المحلية وقائد الشرطة في هذه المنطقة، ولم تقتصر انتهاكات الفصائل على القتل والاعتقال والتعذيب الممنهج لاهالي وسكان المنطقة، بل تعدتها إلى محاولة إلغاء الهوية الكردية التي كانت تتمايز بها عفرين، وذلك عبر عمليات التغيير الديموغرافي المنظم من خلال تهجير سكان المنطقة الاصليين بطريقة مباشرة أو غير مباشرة عبر تضييق الخناق عليهم بوسائل شتى، وإسكان نازحي الغوطة في بيوتهم، ولا يفهم من هذا الكلام بأن استقبال النازحين أمر مستهجن بل على العكس هو واجب أخلاقي على كل سوري، لكن القصد هنا أن لا يتم توطينهم على حساب تهجير الأهالي وانتزاع بيوتهم وممتلكاتهم.
وبالعودة الى السياسة التركية الاقصائية ومحاولتها إلغاء وطمس الهوية الكردية وعدم الاعتراف بالآخر وعدم تقبله إلا بالصورة التي تتخيلها تركيا، على مبدأ الكردي الجيد هو من يكون معنا ولا يعترف بغير القومية التركية، أما غير ذلك فهو الكردي السيء أو حتى الإرهابي، نرى بأن الكثير من المحاولات التي استهدفت الوجود الكردي في تركيا وكذلك في العراق وايران وسوريا، وبعضها كانت عسكرية وصلت لحد استخدام السلاح الكيماوي والطائرات الحربية ضد هذا الشعب ، وبعضها الآخر كان عبر سياسات وقوانين استثنائية، وكل تلك المحاولات كان مصيرها الفشل بل على العكس زادت من تمسك الكردي بهويته الكردية، لذلك ليس أمام تركيا الا ان تتخلص من عقليتها الاقصائية تلك وتقبل بوجود شعب كردي أصيل في هذه المنطقة ويشكل ما يقارب ربع سكان تركيا، مع الاعتراف بحقوقه والسعي لحل قضيته في تركيا عبر الحوار والوسائل السلمية بعيدا عن لغة السلاح والسياسات العنصرية.

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

إبراهيم اليوسف لا ريب أنه عندما تتحول حقوق الإنسان إلى أولوية نضالية في عالم غارق بالصراعات والانتهاكات، فإن منظمات المجتمع المدني الجادة تبرز كحارس أمين على القيم الإنسانية. في هذا السياق، تحديداً، تأسست منظمة حقوق الإنسان في سوريا- ماف في مدينة قامشلي، عام 2004، كردّ فعل سلمي حضاري على انتهاكات صارخة شهدتها المنطقة، وبخاصة بعد انتفاضة آذار الكردية 2004. ومنذ…

عنايت ديكو   الوجه الأول: – أرى أن صفقة “بهچلي – أوجلان” هي عبارة عن اتفاقية ذات طابع أمني وجيوسياسي بحت، بدأت معالمها تتكشف بشكل واضح لكل من يتابع الوضع عن كثب، ويلاحظ توزيع الأدوار وتأثيراتها على مختلف الأصعدة السياسية، الأمنية، والاجتماعية داخل تركيا وخارجها. الهدف الرئيسي من هذه الصفقة هو ضمان الأمن القومي التركي وتعزيز الجبهة الداخلية بجميع تفاصيلها…

اكرم حسين العلمانيّة هي مبدأ سياسي وفلسفي يهدف إلى فصل الدين عن الدولة والمؤسسات الحكومية ، وتنظيم الشؤون العامة بما يعتمد على المنطق، والعقلانية، والقوانين الوضعية بدون تدخل ديني. يتضمن مبدأ العلمانيّة الحفاظ على حرية الدين والمعتقد للأفراد، وضمان عدم التمييز ضد أي شخص بسبب دينه أو اعتقاده. تاريخياً ظهرت العلمانية مع اندلاع الثورة الفرنسية حيث خرجت الطبقة البرجوازية…

اننا في الفيدرالية السورية لحقوق الانسان والمنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في سورية، وبالمشاركة مع أطفال العالم وجميع المدافعين عن حقوق الطفل وحقوق المرأة وحقوق الانسان، نحيي احتفال العالم بالذكرى السنوية الثلاثين لاتفاقية حقوق الطفل، التي تؤكد على الحقوق الأساسية للطفل في كل مكان وزمان. وقد نالت هذه الاتفاقية التصديق عليها في معظم أنحاء العالم، بعد أن أقرتها الجمعية…