م. رشــيد (م.محفوظ رشيد)
من كردستان كانت البداية الثانية لتاريخ البشرية، عندما رست سفينة نوح على جبل جودي بعد أمر الله بالطوفان، ومن كردستان انطلق رحلة ابراهيم الخليل أبو الأنبياء، ومن كردستان مر الاسكندر ذو القرنين، ومن كردستان عبر زينفون اليوناني، وعلى كردستان كان السومريون وحضارات الشرق القديم انتهاء بالكلدانيين والميتانيين والحوريين …، والميديين الذين حددوا بداية التاريخ الكوردي بدخولهم نينوى 612 ق.م، عاصمة الامبراطورية الآشورية، من كردستان كان زردشت وماني ونمرود (و حمورابي)…
من كردستان مرت الفتوحات الاسلامية، ومن كردستان دارت صراعات الخلافة العباسية، من كردستان مر الامبراطور الصفوي، والسلطان العثماني، وهولاكو… ومن كردستان أيضا كان انطلاق الظافر صلاح الدين الأيوبي …
في كردستان طبقت معاهدات لوزان وقصر شيرين وسايكس ـ بيكو….
وقائع كثيرة وأحداث مثيرة ومنعطفات خطيرة.. مرت على كردستان، أثرت جميعها في تركيبة الشعب الكوردي وتكوينه، فأصبح التنوع من سماته، والتعددية من خصائصه .. في لهجاته وثقافاته ودياناته وعاداته.. فزادته جمالاً وحيوية وثراء .. كطبيعة كردستان وثرواته وموارده.. مما أكسبته أهمية استراتيجية كبيرة في الموقع، حتى بات مستهدفاً من قبل كل القوى العظمى وعلى مر التاريخ .. فإضافة إلى ممارسة القمع والقتل والتشريد والتجويع .. فقد طبقوا في كردستان سياسة العزل والتجزئة والتفتيت .. وذلك بتقطيع أوصاله، مستغلين الاختلاف في الأديان والمذاهب، والتباين في اللهجات والعادات .. بغية اضعاف الكورد وضمان السيطرة على مقدراتهم وخيراتهم …
ففي تركيا ـ العثمانية والعلمانية ـ فالترهيب والترغيب والتتريك والتهجير .. أساليب استخدمت لاقتطاع أجزاء كثيرة عن الجسد الكوردي، بشكل ممنهج ومبرمج ومنظم، كما هو الحال في باقي الأجزاء، أثاروا النعرات على أساس الديانة بين المسلمين والمسيحيين واليزيديين واليهود من الكورد، حيث ألّبوا المسلمين على باقي الفئات وأعانوهم، انطلاقا من أنهم الخلفاء والحماة للاسلام ضد الكفار والذميين ..، وحاولوا عزل النسطوريين واليعاقبة … كما سعوا للتفريق بين الزازا (دوملي) والكورمانج والايقاع بينهما، بسبب تمايز لهجتيهما، وبين الشيعة والعلويين والسنة وإلهي حقي وعلي إلهي.. بسبب اختلاف المذاهب ضمن الدين الاسلامي الواحد..
أما في إيران فقد جاهدوا للتفريق بين الياريسان واللور والكلهور والهورامان والكورمانج بقسميه الشمالي والجنوبي .. ضمن الكيان الكوردي الواحد، وتغيير انتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية، بما يخدم العنصر الفارسي وفكره وسيادته..
وفي العراق كانت الصورة أبشع وأعنف، فقد حاولت الأنظمة المتعاقبة على الحكم (وخاصة نظام البعثي الصدامي) على تذويب الكورد وبشكل خاص الفئات والطوائف الصغيرة الحجم، في بوتقة القومية العربية كالكورد الشبك واليزيديين والكاكائيين.. (فمثلا : ينسبون الكورد اليزيديين إلى يزيد بن معاوية !؟)، وحاولت عزل الفيليين الشيعة عن إطارهم القومي الكوردي، وإلحاقهم بالتبعية الايرانية، فقتلت وهجرت الآلاف منهم، أبان حرب الخليج الأولى، كما حاصرت الكورد المسيحيين في اطار الكنيسة، وألحقتهم بالعروبة حيناّ وبالآشوريين والسريان حيناً آخر..
و في سوريا، فمن الكورد من استعربوا تماما كالكورد العلويين في جبال الساحل، والكورد الدروز في السويداء، و الكورد السنة من العائلات الكوردية، كالأيوبي والعظمة والظاظا وبكداش .. في دمشق والبرازي في حماه، وكذلك في سهل حوران وحلب وأدلب … الخ، هذا على نطاق السوري العام، أما في المناطق والمجمعات الكوردية، فقد سلخت عشائر رسمياً، كالمحلمية بحجة أنهم عرب ينحدرون في أصولهم إلى أبي زيد الهلالي، وبعض السادة (السيد) على أنهم من نسل الرسول الكريم، واستعربت فئات أخرى كالخاتونيين والتات والبيرتي وقسم من الملان والغنامة والجوالة.. وانصهرت في العشائرالعربية تماما..
بقي جزء آخر (وهو المقصود في هذه المقالة) من النسيج الكوردي مغيباً ومهملاًوغير داخل في الحسابات القومية، وهم الكورد المسيحيون الأصلاء، وأخصهم بالذكر من ينتمون إلى غرزا و بشيري وكاربوران وهزخ ومدياد وباجن وغيرها…هؤلاء الذين عانوا الاضطهاد المزدوج بسبب الدين والقومية في الدولة العثمانية ـ التركية، فهربوا من الابادة ونزحوا وانتشروا في المهاجر.. وقسم لا بأس بهم يعيشون الآن في القامشلي وديريك ونواحيهما، وعائلاتهم معروفة في الوسط المسيحي أكثر من الوسط الكوردي المسلم واليزيدي، فعلى سبيل الذكر لا الحصر: شرو، شيرو، كوري، أيلو، شبون، غزال، جلبي، …. إلخ، وأسماء قراهم كردية: روتا، محركا، شيرو، ….. إلخ، فالمغترب المعروف كبرو شيرو من عشيرة هه فيركا، والدكتور اسكندر حمرة من عشيرة دلمه مكا….
هؤلاء يتميزون بعاداتهم وتقاليدهم الكوردية الأصيلة، وبنطقهم السليم، ولهجتهم الكورمانجية النقية، حيث الكبار منهم لا يجيدون سواها من اللغات، وخاصة المسنين، وهناك عائلات منقسمة بين الاسلام والمسيحية، تربطها قرابة دم من الدرجة الأولى والثانية.
لعدم وجود كنيسة كردية مستقلة خاصة بهم، فقد أصبح بعضهم تابعاً للكنيسة السريانية، والبعض الآخر للكنيسة الكلدانية أو الأرمنية، وابتعدوا عن الغالبية الكوردية المسلمة، فذهب الجميع ضحية مخططات ومؤامرات الدول الاستعمارية، والقوميات السائدة في المنطقة..
حافظ قسم منهم على انتمائه القومي الكوردي إلى جانب ديانته المسيحية، والقسم الآخر يحاول الانصهار ضمن الطائفة التي ينتمي إليها، وتدفعه لذلك عوامل اجتماعية و اقتصادية وسياسية..
إلا أننا نعرف حضورهم المشرف والفاعل في التاريخ الكوردي، فكان منهم الحكيم والمستشار والوزير في الامارات الكوردية (فقصص أمراء الكورد وزعمائهم مليئة بملاحم ومآثر المسيحيين الكورد)، وكان منهم الحرفي والطبيب، والأديب والموسيقي والمغني في الأوساط الاجتماعية والثقافية، وكان منهم القائد والبطل والشهيد في الانتفاضات والثورات الكوردية .. فهناك أسماء كثيرة لامعة محفورة في الذاكرة الكوردية، منهم مطران عيسى، والقس يوسف، والقائد فرانسو، والشهيدة مارغريت، والبطل شبون، …. وآخرون.
في كل الأحوال، ومهما كانت الأسباب والدوافع.. هناك حقيقة وواقع يجب التوقف عندهما، والبحث جدياً وعملياً، لتسليط الضوء على تلك الأجزاء المنفصلة عن الجسد الكوردي، وخاصة هذا الجزء (المسيحي) العزيز والغالي، لرفع الغبن والاهمال عنهم، وانصافهم .. لأن البيت الكوردي اليوم بحاجة إلى جميع أجزائه ـ أكثر من أي وقت آخرـ هذا البيت الذي يتسع للجميع على اختلاف أديانهم ومذاهبهم وتوجهاتهم السياسية والفكرية .. على أساس الديموقراطية والحرية والمساواة والوئام دون تمييز أو اقصاء .. فالتعددية لدى الكورد مبعث فخر واعتزاز، ومصدر ثراء، وعامل للتوحد والتلاحم، ودافع للتحرر والتطوروالتقدم …
المهمة جليلة وضرورية، شاقة ومحفوفة بالمخاطر، تحتاج إلى قدرات وخبرات، والمسؤولية تقع على عاتق النخب الثقافية والسياسية والاجتماعية … فهل من مجيب ؟!
——– انتهت ——–
ملحوظة:
نشر المقال بنفس العنوان وباسم (م. رشيد) في جريدة صوت الأكراد – DENGÊ KURD العدد (402) أيار 2008 م.
نشر المقال بنفس العنوان وباسم (م. رشيد) في جريدة صوت الأكراد – DENGÊ KURD العدد (402) أيار 2008 م.
1/10/2005