عماد الدين شيخ حسن
مركز ليكولين للدراسات و الابحاث القانونية . ألمانيا
حظيت الأعمال و الأشغال التي تقوم بها تركيا في قرية جلبرة التابعة لمنطقة عفرين و محيطها بحيّزٍ واسعٍ من الحديث أو النقاش عموماً و عبر وسائل الإعلام و التواصل و صفحاتها ، الكوردية منها بصفةٍ خاصّة خلال الأيام القليلة الماضية .
الأمر الذي دفعنا و ربّما بصورة سابقة لأوانها بعض الشيء ، لتسليط الضوء على هذا الموضوع ولا سيما في الجانب القانوني منه تحديداً .
القُرّاء الأفاضل :
نعلم بأن تركيا و منذ احتلالها لعفرين كجزء يتبع لسيادة الدولة السورية بتاريخ ١٨/٣/٢٠١٨ ، قد ارتكبت سواءً مباشرة أو بصورة غير مباشرة جملة كبيرة و خطيرة من الانتهاكات و الجرائم الممنهجة في عفرين و بحقّ أهلها الكورد الذين يمثلون الأغلبية الساحقة من مجموع سكان تلك المنطقة ، وبالتالي وفي المقابل لم تلتزم بأدنى التزاماتها ومسؤولياتها المنصوص عنها في القوانين الدولية و لا سيما القانون الدولي الانساني و القانون الدولي لحقوق الإنسان ، تلك الالتزامات التي تتمحور بشكلٍ أبرز في أن السلطة المحتلّة ملزمة بضمان و تأمين كل ما من شأنه تحقيق الامن و الاستقرار في الاقليم المحتل و سبل العيش الكريم لسكانه من خدمات و مرافق و ما الى ذلك .
ولا شكّ بأنّ موضوعنا هذا يدخل في سياق بيان سلسلة تلك الجرائم و الانتهاكات التي ذكرناها .
و مع ذلك و حرصاً منّا على المهنيّة و مقوّماتها، فقد آثرنا التريّث و الانتظار الى حين وضوح الرؤية أكثر و فهم النوايا التركية من اجراءاتها تلك في جلبرة و محيطها ، من خلال متابعة الوقائع على الأرض هناك و حيثياتها .
في ذات الوقت رأينا بأنه ليس هناك ثمّة مانعٍ أو موانع في أن نخوض في الموضوع من جانبه القانوني على أساس التوصيف القانوني للحالة الراهنة من جهة ، و على أساس الاحتمال الراجح لغايات تركيا من تلك الأعمال و الأشغال من جهةٍ ثانية .
فحسب المعلومات الورادة إلينا حتى اللحظة ، والتي تفيد بأن تركيا قامت مؤخراً و عبر العديد من الجرّافات و الآليات بهدم و جرف جزءٍ كبير و مساحاتٍ واسعة من المباني السكنية و الممتلكات و الأراضي العائدة ملكيتها لأهالي قرية جلبرة و المناطق و القرى المحيطة بها الواقعة في الجهة الجنوبية الشرقية من مدينة عفرين ، و أنها باشرت بجلب و وضع مجسّمات اسمنتية كبيرة جاهزة لتُشكّل منها جداراً لم تتوضح بعد وفق الطول الحالي له الغاية الحقيقية منه ، و هل ما اذا كان أي الجدار لأغراض عسكرية ( ساتر دفاعي أو وقائي و ما الى ذلك ) أم أن الغاية أخطر من ذلك بكثير ( عزل أو فصل عنصري ) و هو الإحتمال الأقرب والأرجح بشدّة سنداً لممارسات تركيا و سجلّها الأسود عموماً ، ولكن وكما اسلفنا الذكر فإنّ المهنية تفرض علينا البناء على الوقائع لا التوقّعات .
أولاً : الوصف القانوني للحالة الراهنة :
علينا أن نعلم يقيناً بأنّ ما قامت به تركيا من أعمال و أشغال في منطقة الجدار الى غاية الآن و بصرف النظر عن الغايات و التطورات القادمة ، تُعتبر بحدّ ذاتها خرقاً واضحاً للعديد من مواد و نصوص القانون الدولي ، و تُشكل جرائم واجبة المساءلة بمفهوم تلك النصوص .
فعمليات الاستيلاء على دور السكن و الأراضي و الممتلكات العائدة ملكيتها لأهالي تلك المنطقة و مصادرتها و من ثم هدمها و تخريبها و إتلاف ما عليها و تحويل المنطقة و تغيير معالمها الى بيئة غير قابلة للحياة و إعدام متطلبات العيش فيها ، كل ذلك و غيره ينتهك صريح ما ورد في مواد أهمها :
١ – المواد المتعلقة بصون وحفظ إحدى أهم الحقوق الأساسية للإنسان ، ألا وهو حق الملكية أو التملّك و عدم جواز تجريد أي شخص من ملكيته تعسّفاً بأي شكل من الأشكال ( المادة ١٧ من الاعلان العالمي لحقوق الانسان ١٩٤٨ ، المادتان ٤٦ ، ٤ من اتفاقية لاهاي ١٩٠٧ ، المادة ٥٣ من اتفاقية جنيف الرابعة ١٩٤٩ مثالاً ) .
٢ – المواد الملزمة لسلطة الاحتلال بضمان الأمن و الاستقرار و السلامة و سبل العيش الكريم و الخدمات و المرافق لسكان الاقليم المحتل ( المادة ٤٣ من اتفاقية لاهاي ١٩٠٧ ، المادة ٤٩ من اتفاقية جنيف الرابعة ١٩٤٩ مثالاً ) .
٣- المواد التي تمنع قيام دولة الاحتلال على نحو مباشر أو غير مباشر، بنقل السكان أو أجزاء من السكان المدنيين إلى الأرض التي تحتلها، أو إبعاد أو نقل كل سكان الأرض المحتلة أو بعضهم داخل هذه الأرض أو خارجها ، و يُعتبر ذلك تهجيراً قسريا يدخل في نطاق جرائم الحرب و الجرائم ضد الانسانية ( المادة ٨ من نظام روما الاساسي ١٩٩٨ ، المادة ٤٩ من اتفاقية جنيف الرابعة ١٩٤٩ مثالاً )
ثانياً : الوصف القانوني للإحتمال الأرجح لمآل الجدار
توضيحاً أكثر لما أسلفنا ذكره لجهة أنه من المحتمل جدا أن تتوسع عملية بناء الجدار في قادم الأيام و أن تكون الغاية التركية منه هو إحاطة عفرين بسياج يحصرها و سكانها ما بين الحدود التركية الدولية و ما بين ذاك الجدار ، بحيث تنفصل أو تنعزل عفرين و تنقطع من محيطها و امتدادها عن بقية الأراضي التابعة للسيادة السورية ، و بحيث يصبح من غير الممكن لمن هم داخل الجدار و خارجه الحركة و التنقل ، و تتقيّد حريتهم في ذلك .
و هنا يجب أن نعلم بأن وصول الجدار إلى مرحلة تكون من شأنها تشكيل أي إعاقة أو عرقلة للسكان المدنيين على طرفي الجدار للتنقل و التواصل ، فإن ذلك يُدخلنا في إطار قانوني جديد إضافةً الى الإطار السابق ، و يُدخل تركيا بدورها كسلطة احتلال في خانة جديدة من المسؤوليات عن جملة جديدة من الانتهاكات و الجرائم .
هذه الخانة التي تُعد جريمة الفصل العنصري هي الأبرز و الأخطر من ضمن جرائمها ، لا بل يمكن وصفها بأنها الجريمة الأخطر على الإطلاق من بين كل الجرائم التركية في عفرين ، و ذلك إذا تمعّنا جيداً في التناول القانوني لهذه الفئة إو هذا الصنف من الجرائم .
فجريمة الفصل العنصري و بموجب ما تصدّت لها واختصّت بتناولها و تبيانها صراحةً كل من المادة السابعة من نظام روما الأساسي ١٩٩٨ و الاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري و المعاقبة عليها و التي أقرتها الجمعية العامة للامم المتحدة عام ١٩٧٣ ، تُعتبر جريمة ضد الانسانية و تهدّد الأمن و السلم الدوليين .
و حسب المفهوم الوارد في الاتفاقيتين أعلاه عن تلك الجريمة سوف نجد أنها ستطابق تماماً الواقع و الحيثيات في عفرين .
فجريمة الفصل العنصري بمفهوم القانون الدولي هي أية أفعال لا إنسانية ترتكب في سياق نظام مؤسسي قوامه الاضطهاد المنهجي والسيطرة المنهجية من جانب جماعة عرقية واحدة إزاء أية جماعة أو جماعات عرقية أخرى، وترتكب بنية الإبقاء على ذلك النظام .
و هذا هو واقع الحال و الحقيقة عينها في عفرين حيث تستهدف جماعة عرقية متمثّلة في تركيا و عبر أفعال لا انسانية قوامها الاضطهاد و السيطرة الممنهجتين جماعة عرقية اخرى هم الكورد في عفرين .
و بصورة أكثر توضيحاً لتلك الجريمة سنجد من خلال الرجوع الى المادة الثانية من اتفاقية قمع جريمة الفصل العنصري التي تنص على الأفعال التي تشّكل تلك الجريمة ، سنجدها و من خلال مقارنتها بأفعال السلطة المحتلة في عفرين مطابقة تماماً و بوضوح .
القارىء الكريم :
من الهام و الجدير أن نذكر بأن جرائم الفصل العنصري هي حقيقةً واقعة و مرتكبة من قبل السلطة التركية في عفرين قبل إنشاء الجدار ، و ما الجديد في الموضوع إلا بأن الجدار و تطوراته المحتملة سيكشف و سيرسّخ بصورة دامغة تلك الحقيقة .
و في الختام لا يسعنا إلّا لفت الانتباه إلى إحتمالٍ آخر لموضوع الجدار و مآله ، و إن كان من المستبعد أن تبلغ الحماقة التركية ذلك ، ألا و هو ان يكون الجدار رسماً جديدا للحدود و ضمّاً عفرينيا الى الاراضي التركية ، إلا أنّ الاستهتار التركي بالقانون الدولي و بالمجتمع الدولي عموما يجعل كل شيء يصدر عنها متوقّعاً ، و خاصة إذا ما تأملنا في مستوى الخنوع و الخذلان الدولي إزاء كل ما يجري .
تمّ بعونه و مدده
في ٢٨/٤/٢٠١٩