تحتَ جُنح الانتخابات البلدية في تركيا

فرمان بونجق
المأمولُ من العملية الانتخابية أنّى حدثتْ ـ وهي إحدى الوسائل المعبرّة عن سلوك ديمقراطي ليس إلاّ ـ أن يسعى من خلالها المتنافسون للحصول عل ثقة الناس في إدارة شؤونهم إلى حين، سواء أكان المتنافسون أفراداً أو جماعات، أو أحزاب، أو حركات مجتمعية مدنية، وهذه المسألة برمتها تخضع لمعيارين أساسيين من وجهة نظري، الأول وكما يبدو دائماً العمل على الاستئثار بالسلطة، أو جزء منها، لخدمة مشروع ما ، وغالباً ما تعتقد الكتلة البشرية الحاملة لهذا المشروع والمكافحة والمضحية من أجله، أنه يتمتّع بالشفافية والوضوح، وهو على الأقل، فكرة أو مجموعة أفكار يمكن التعامل معها بمنطق توافق المعقول والممكن. 
وأمّا المعيار الثاني، فيكمن في توفر الحد الأدنى من أخلاقيات ثقافة الديمقراطية، من حيث إدارتها كعملية حقيقية، وتفضي بدورها إلى تحقيق رغبات الجماهير الواسعة، صاحبة الشأن، وصاحبة المصلحة الحقيقية. ولكن ما حدث في الانتخابات البلدية في تركيا مؤخرا ـ والتي لم تظهر نتائجها كاملةً حتى هذه اللحظة، تأسيساً على الاعتراضات أو الطعون التي قدمها حزب العدالة والتنمية، حول نزاهة العد والفرز في بلدية استانبول الكبرى ـ أو في جزءٍ منها على الأقل، لم تتوفر فيها المعيارين المشار إليهما آنفاً، وذلك بسبب التحالفات التي غلفتها شكوك من قِبل شريحة واسعة من الناخبين، مما دفعها إلى القلق حول مستقبل بلدياتها، والخدمات التي من الممكن أن تقدمها مجالس البلديات هذه مستقبلاً. والخلل في العملية برمتها في تقديري، أن هذه الانتخابات اتخذت منحاً سياسياً لا خدمياً، ويكمن التحفظ هنا باعتبارها انتخابات محلية، وليست برلمانية، والبون شاسع بين كليهما كما هو معروف لذوي الشأن. وهذا يظهر للمتابع طبيعة التحالفات، التي تجلت على هيئة قوائم انتظمت فيها حزب الشعوب الديمقراطية، ذو الصبغة الكوردية، وحليفه الآني حزب الشعب الجمهوري من جهةٍ، ومن جهة أخرى حزب العدالة والتنمية الإسلامي التوجه، وحليفه حزب الشعب الجمهوري، القومي المتشدد. إذ يظهر للعيان بما لا يقبل الشك أنه تمت صياغة هذه القوائم الانتخابية على مبدأ التحالفات السياسية، وبالتالي فقد سقط الشرط والغاية الأساسية من هذا الإجراء، كونها بالأساس انتخابات محلية، الهدف منها تشكيل مجالس خدمية للبلديات، وليس التأسيس لسلطة سياسية لقيادة الدولة كما في الانتخابات البرلمانية. وبقليل من التدقيق يمكننا التأكيد على هذا الخلل، إذ لا يتوفر التجانس الفكري بين حزب الشعوب الديمقراطية، والذي يُفترض أنه يستند إلى قاعدة جماهيرية كوردية، وحزب الشعب الجمهوري الذي يستند مشروعه الفكري على أسس مختلفة كليا عن توجهات حليفه في القوائم الانتخابية، فكانت النتيجة خسارة الأول في مناطقه ذات الأغلبية الكوردية الساحقة، بينما فاز الآخر في مناطقه ذات الأغلبية التركية الساحقة، وهذه مفارقة ينبغي إضاءة جوانبها بكثير من التأني. 
وأمّا فيما يتعلق بالقائمة الأخرى، والتي تضمنت الإسلاميين متمثلاً بحزب العدالة والتنمية، إلى جانب القوميين المتشددين، فتلك مفارقة أخرى وينطبق عليها ما ينطبق على القائمة المضادة، من حيث التنافر الفكري للحزبين المذكورين، مما يؤكد مرة أخرى عدم توفر التجانس في هذا التحالف. وكانت النتائج كارثية بالنسبة لهذا التحالف في موقع تواجده الكثيف، وهنا أشير إلى بلدية العاصمة أنقرة، وكذلك بلدية مدينة استانبول التي يعيش فيها زهاء خمسة عشر مليوناً، بينما حصلت القائمة على نتائج جد معقولة في مناطق الكورد!!.
وفيما يتعلق بالمفارقة الأولى، ومحاولة إضاءة جوانبها، ينبغي قراءة حالة اليأس التي وصل إليها الناخب الكوردي من تجاربه السابقة مع حزب الشعوب الديمقراطية، وبروز ظاهرة “القيّوم” التي لجأت إليها السلطة المنبثقة عن حزب العدالة والتنمية، كرد فعل على سياسات حزب الشعوب، مما كبّل مجالس البلديات الخاضعة له، وفي هذه الحالة ، استشعر الكورد الأداء الضعيف نسبياً لمجالس بلدياتهم، في حال فوز حزب الشعوب الديمقراطية، وهذا دفعهم إلى إدارة ظهورهم لهذا الحزب، ومنح ثقتهم إلى حزب السلطة، هذا إذا اخذنا بعين الاعتبار الجو العام من الارتياح الذي خلقه حزب العدالة والتنمية، في المناطق الكوردية، خلال سنوات طويلة من حكمه لمؤسسات الدولة التركية. وذلك يدفعنا للقول: إن ما ينبغي ملاحظته أن التحالفات السياسية التي جرت تحت جنح الانتخابات البلدية في تركيا، هي تحالفات غير موفقة البتّه، وما كان ينبغي لها أن تحدث بهذا الشكل القسري، وبتقديري سيكون نتاج إدارة هذه المجالس الوليدة سلبياً على المواطن أيّاً كان موقعه الجغرافي، لأنه انتفت المعايير المأمول توفرها في هذه الانتخابات، وبدقّة يمكن القول بانتفاء المعيار الأخلاقي، الذي من شأنه أن يكرّس تجربة الديمقراطية في تركيا، كسلوك وليس كاستحواذ.
 

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

د. محمود عباس هل نستطيع أن نقول أن الفيدرالية لغرب كوردستان والنظام اللامركزي في سوريا باتا أقرب إلى السراب؟ ليس فقط بسبب رفض الدول الإقليمية لها خشية من تحولات كبرى قد تعيد تشكيل المنطقة، ولا لأن الفصائل الإسلامية المتطرفة مثل هيئة تحرير الشام وحلفائها لديهم من القوة ما يكفي لفرض مشروعهم الإقصائي، بل لأن الكورد أنفسهم، وهم القوة…

إبراهيم كابان لطالما شكّل الواقع الكردي في سوريا ملفًا معقدًا تتداخل فيه العوامل الداخلية والإقليمية والدولية، حيث تسعى الأحزاب الكردية إلى تحقيق مطالبها ضمن إطار وطني، لكنها تواجه تحديات داخلية مرتبطة بالخلافات السياسية، وخارجية متصلة بالمواقف الإقليمية والدولية تجاه القضية الكردية. فهل تستطيع الأحزاب الكردية في سوريا توحيد موقفها ضمن إطار تفاوضي واحد عند التوجه إلى دمشق؟ وما هي العوامل…

اكرم حسين لاشك أن استبعاد ممثلي الشعب الكردي من أي حوار أو مؤتمر وطني سوري ليس مجرد هفوة أو إهمال عابر، بل سياسة مقصودة تُجسّد رفضاً مُضمراً للاعتراف بحقوق شعبٍ عريقٍ ساهمَ في تشكيل تاريخ سوريا وثقافتها. فالكرد، الذين يُشكّلون أحد أقدم المكونات الاجتماعية في المنطقة ، عانوا لعقود من سياسة التهميش المنظم ، بدءاً من حرمان الالاف من الجنسية…

ملف «ولاتي مه» حول مستقبل الكورد في سوريا، يُعتبر أحد الملفات الهامة التي تُناقش مستقبل الكورد في سوريا في ظل التغيرات السياسية التي تشهدها المنطقة عامة وسوريا بشكل خاص. يركز هذا الملف على تحليل الأوضاع الراهنة والتحديات التي يواجهها الكورد، بالإضافة إلى استعراض السيناريوهات المحتملة لمستقبلهم في ظل الصراعات الإقليمية والدولية. يسلط الملف الضوء على أهمية الوحدة والتعاون بين مختلف…