إن الحزب الشيوعي العراقي يعلم جيداً أن التحولات الجذرية التي أفرزتها نهاية الحرب الباردة تتطلب تغييرات بنيوية وهيكلية شاملة للأحزاب الشيوعية في العالم

محمد مندلاوي
لا يخفى على أحد، أن الحزب الشيوعي العراقي هو أقدم حزب موجود في الكيان العراقي على الساحة السياسية. وهو أول حزب سياسي اتخذ قبل عقود طويلة قراراً شجاعاً حين اعترف في برنامجه بحق تقرير المصير للشعب الكوردي. ليس غريباً هذا على حزب (لينين)، الذي قال بكل وضوح في كتابه (مسائل السياسة القومية والأممية البروليتارية) ص 159:”ولا بد للاشتراكية الظافرة من أن تحقق بالضرورة الديمقراطية  الكاملة، ومن أن تحقق بالتالي لا المساواة التامة في الحقوق بين الأمم وحسب، بل أن تطبق أيضاً حق الأمم المضطهَدة – بفتح الهاء- المظلومة في تقرير مصيرها، أي حقها في حرية الانفصال السياسي”. ويُعرف (لينين) قائد الثورة البلشفية محتوى حق تقرير المصير في ذات المصدر المذكور في ص 163: “إن حق الأمم في تقرير مصيرها يعني بوجه الحصر حق الأمم في الاستقلال بالمعنى السياسي، في حرية الانفصال السياسي عن الأمة المتسلطة المضطهِدة” – بكسر الهاء-. انتهى الاقتباس.
 لكن للأسف الشديد، أن الحزب الشيوعي العراقي في فترات متباينة خلال مسيرته السياسية الطويلة، ابتعد أحياناً بعض الشيء عن هذا الحق، الذي منحته الماركسية اللينينة للشعوب المظلومة، ظاناً أنه يسير على طريق الصواب، إلا أن الأيام والأعوام التي تلت أثبتت له أن الابتعاد ولو قليلاً عن النهج الماركسي القويم نظرياً أو تطبيقياً، أو حسابات سياسية خاطئة غير مدروسة قامت بها القيادة في لحظات تاريخية هامة جداً، بلا شك خسر بسببها الحزب قطاعات واسعة من الشعب؟، للأسف، هذا الذي حصل، “وعلى نفسها جنت براقش”، حيث ظهرت نتائج خسارته لقطاع واسع من الشارع العراقي بعد سقوط الديكتاتورية وانبثاق الديمقراطية واتخاذ صناديق الاقتراع بدل البندقية وسيلة للوصول إلى سدة الحكم. 
السؤال هنا، هل استفاد الحزب من تلك التجربة المريرة، التي مر بها؟ هل صارت له درساً بليغاً وأكسبه المعرفة والخبرة الإضافية في ساحات النضال لقيادة الطبقات المسحوقة ضد مستغليهم من الرأسماليين وأذنابهم..؟ لقد جاءهم الجواب على هذا السؤال عام 2005 من لدن الشعب مباشرة، ليس من خلال صندوق البريد، بل من خلال صندوق الانتخاب، وذلك في أول انتخابات شهدها البلد بعد سقوط الديكتاتورية، وثاني أو ثالث انتخابات أجريت في إقليم كوردستان. لكن بعد مرور عقد ونيف رأيناهم – الحزب الشيوعي العراقي- في الانتخابات الأخيرة تحالفوا مع جهة مذهبية يقودها رجل دين شيعي تحت اسم سائرون، لكن إلى أين سائرون لا ندري، كل الذي نعرف، أن طريقهما نحو الهدف ليس طريقاً واحداً، لأن الجهة المذهبية التي تحالف معها الحزب الشيوعي تؤمن بالغيبيات، تؤمن بما وراء الطبيعة، (Metaphysics). بينما هم كحزب علماني يؤمن بالمادة فقط؟ ويتعامل مع حركة التاريخ وفق التفسير المادي، ومعلمهم كارل ماركس يقول: الدين أفيون الشعب، أو الدين أفيون الشعوب. هذا القول يشمل حليفهم..؟. وهذا يعني أنهما كحليفين متناقضين في كل شيء، وتحديداً في فلسفتهما لإدارة الدولة والمجتمع. إلا أن في التكتيك الانتخابي، قد يكون جائزاً مثل هذه التحالفات.. أو الصفقات بين الأضداد؟. لكن هناك أحزاب شيوعية واكبت التغييرات الكبيرة التي حدثت في العالم وغيرت حتى اسمها، كالحزب الشيوعي السويدي، الذي صار اسمه بعد انتهاء الحرب الباردة حزب اليسار السويدي، وهو الآن حزب يساري بحق وحقيقة، يرفض أن يتحالف في الانتخابات التي تجري في البلد مع الأحزاب البرجوازية، الأحزاب اليمينية، ناهيك عن الأحزاب الدينية.. أو الشعبوية؟. أليس من الأجدر بالحزب الشيوعي العراقي، أن يواكب هذه الانعطافة العظيمة التي تمر بها البشرية بفضل العلمانية، ويتحالف مع أحزاب ومنضمات علمانية بدل المذهبية، الطائفية التي لا تقبل في النهاية سوى نفسها؟. على العموم. يجب أن لا ينسى الحزب الشيوعي، أن حليفهم الجديد خريج نفس المدرسة الفكرية والإيمانية التي أصدرت عام 1960 فتوى: إن الشيوعية كفر وإلحاد. التي استغلها حزب البعث المجرم لتصفيتهم جسدياً عام 1963 وعلى ضوئها أصدر حزب البعث المجرم بيانه الشهير الذي دعا إلى التصفية الجسدية لأعضاء الحزب الشيوعي العراقي قال فيه نصاً: واقتلوهم حيث وجدتموهم. لا شك أن مَن جاوز سنه الـ 80 عاماً يتذكر جيداً إصدار تلك الفتوى..التي اتخذها حزب البعث المجرم ذريعة لتكفيرهم، رغم أن موكبهم الحسيني في عاشوراء، وتحديداً في مدينة النجف،كان يحيي شعائر الحسينية!، لكنه لم يشفع لهم لا موكبهم  ولا لطمهم وبكائهم على مقتل الحسين بن علي على أيد العرب يوم الطف؟، وهكذا لدى السيد مقتدى كما كان لدى من كفرهم سابقاً نصوص مقدسة تكفر العلمانية والشيوعية ولا يستطيع السيد مقتدى الخروج عليها؟ لأن الكفر عندهم ملة واحدة، لا فرق عندهم بين أخضره وأصفره وأحمره الخ. ألم تشاهد عزيزي القارئ بالأمس القريب من على شاشات التلفزة كيف أن السيد صباح شبر قال بصوت عالي: إن الإنسان الشيوعي كافر يجب أن يُقتل. وعرض هذا الكلام على شريط مسجل لسكرتير الحزب الشيوعي العراقي (رائد فهمي) المحاور الذي استضافه في برنامج تلفزيوني، إلا أن الأستاذ رائد فهمي لم يرد بقوة وصرامة على السيد صباح شبر الذي قام  بالتحريض على القتل ضدهم على الملأ دون أي اعتبار لمؤسسات ودوائر البلد أو لكائن من كان؟!.  
على أية حال. أنا إنسان بسيط لست مفكراً حتى أعطي دروساً في النظرية والعقيدة، فقط أرى أموراً غريبة لا يستسيغها العقل تجعلني أتساءل بصوت عالي عن تلك الأمور غير الطبيعية. مثلاً، أليس على الحزب الشيوعي العراقي،أو حزب شيوعي آخر أن يكون صادقاً مع مبادئه الماركسية اللينينية 100% حتى يكون موضع ثقة الشعب والشارع؟. حقيقة لا أدري كيف أفسره حين نرى أعضاءً في الحزب الشيوعي يصلون ويصومون ويشاركون بالمواكب الحسينية في عاشوراء الخ. يا ترى لم يشرح لهم الحزب فلسفته الماركسية للحياة والمجتمع؟. أنا لست ضد من يلطم على الحسين، أو يصلي ويصوم، لكن هذه الطقوس إسلامية، ليست لها علاقة بالشيوعية التي تؤمن بالمادة، كيف أن الشيوعي يجمع بين صفتين، بين نقيضين، غيبية تؤمن بما وراء الطبيعة، ومادية لا تؤمن سوى بالعلم والمادة الملموسة؟!. حتى أن قتلاهم يسموهم شهداء، مع أن الشهيد مصطلح إسلامي؟. هذا يذكرني بنفاق جلال طالباني، الذي قال في إحدى تصريحاته أن الإسلام خط أحمر. أي لا يسمح لأحد أن يمس الإسلام؟. بينما منهاج والنظام الداخلي لحزبه حزب الاتحاد الوطني الكوردستاني يقول: أنه حزب سيكولار. أي لا ديني. لكن جلال هذا في تسعينات القرن الماضي سن قانوناً ضرب به الإسلام في الصميم، حين حدد الزواج في جنوب كوردستان بامرأة واحدة. بينما القرآن يقول في سورة النساء آية 3: .. مثنى وثلاث ورباع.. الخ. الذي أريد أن أقوله هنا، إن الحزب الشيوعي العراقي إذا يريد أن يبقي على اسمه وفلسفته الماركسية اللينينية يجب عليه أن يكون ماركسياً لينينياً قلباً وقالباً؟، إذا يرى أن الماركسية لا تناسب شعوب تلك المنطقة، يستحسن به أن يغير الشكل والمضمون، عنده يستطيع أن ينتهج نهجاً يتوافق مع التسمية الجديدة والنظرية الجديدة التي يتبناها.
الشيء الآخر، الشائع إلى الآن، أن أعضاء المكتب السياسي واللجنة المركزية في الحزب الشيوعي الكوردستاني لا زالوا يحتفظون بعضويتهم في الحزب الشيوعي العراقي!! كيف هذه الازدواجية؟! أن كان هذا صحيحاً، لماذا لا يحررهم الحزب من هذه الازدواجية.. قدم في كوردستان وقدم في العراق؟!. أليس هذا يؤدي إلى ازدواجية الشخصية، أي الظهور بمظهرين في آن واحد؟. ألم يحن الوقت أن يفك الحزب الشيوعي العراقي ارتباطاتهم الحزبية به؟، ويبعث باستمارات انتماءاتهم إلى الحزب الشيوعي الكوردستاني، لأنهم كورد وكوردستانيون ينتمون لشعب ووطن مختلف عن العراق 100%، ليست لهم أية صلة انتماء وطني أو قومي بالعراق كوطن، بل العراق كيان يرتبط به الشعب الكوردي من خلال وثيقة الاتحاد السياسي الموقعة بين شعبين في إقليمين مختلفين، إقليم عربي اسمه العراق، وإقليم كوردي اسمه كوردستان، أو الأصح جنوب كوردستان. إذا لا يقوم الحزب الشيوعي العراقي بهذا الأمر شديد الأهمية عاجلاً بلا شك أنه يخالف مبادئه.. للعلم أن هناك أحزاب شيوعية عديدة ارتبطت بالبلد الذي خضع شعبه ووطنه له إما احتلالاً أو وصاية أو..؟، لكن حين سنحت الفرصة فك ارتباطه نهائياً به. مثال الحزب الشيوعي الفلسطيني، كان ضمن الحزب الشيوعي الأردني، الذي كان قائده (فؤاد نصار) وهو فلسطيني، لكن رغم هذا أن الحزب الشيوعي الأردني فك ارتباطه كلياً به، والآن يناضل على أرض وطنه في فلسطين جنباً إلى جنب مع الأحزاب والمنظمات الشقيقة له. على مستوى الدولة أيضاً، بطلب من ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية فك الملك حسين بن طلال عام 1988 ارتباطات المملكة الأردنية الهاشمية الإدارية والقانونية مع الضفة الغربية. في هذا المضمار يعتبر قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 1514 الصادر عام 1960 بمثابة الإعلان والاعتراف بحق الشعوب المحتلة في الاستقلال من براثن محتليهم. لا نعتقد أن الحزب الشيوعي الكوردستاني، أقرب إلى الحزب الشيوعي العراقي، كالقرابة القريبة التي بين الحزب الشيوعي الأردني والحزب الشيوعي الفلسطيني؟ فلذا، على الحزب الشيوعي العراقي أن لا يتأخر، يجب عليه أن يخطوا خطوة ماركسية شجاعة وذلك بفك ارتباط الأعضاء الكورد به. لا شك إن هذا الإقدام الثوري سيذكره التاريخ له في صفحاته بحروف من نور.  
كلمة حق يجب أن تقال: رغم مرورنا في هذا المقال على بعض شطحات الحزب الشيوعي العراقي، إلا أنه خلال تاريخه الحافل كان مدرسة في النضال والتضحية ضد الديكتاتورية والرجعية الكهنوتية بكل صنوفها.
“الذي لا يعرف التاريخ محكوم عليه بتكراره” (كارل ماركس)
18 02 2019

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

المهندس باسل قس نصر الله ونعمٌ .. بأنني لم أقل أن كل شيء ممتاز وأن لا أحداً سيدخل حلب .. فكانوا هم أول من خَرَج ونعم .. بأنني كنتُ مستشاراً لمفتي سورية من ٢٠٠٦ حتى الغاء المنصب في عام ٢٠٢١ واستُبدل ذلك بلجان إفتاء في كل محافظة وهناك رئيس لجان افتاء لسائر المحافظات السورية. ونعم أخرى .. بأنني مسيحي وأكون…

إبراهيم اليوسف بعد الفضائح التي ارتكبها غير الطيب رجب أردوغان في احتلاله لعفرين- من أجل ديمومة كرسيه وليس لأجل مصلحة تركيا- واستعانته بقطاع طرق مرتزقة مجرمين يعيثون قتلاً وفسادًا في عفرين، حاول هذه المرة أن يعدل عن خطته السابقة. يبدو أن هناك ضوءًا أخضر من جهات دولية لتنفيذ المخطط وطرد إيران من سوريا، والإجهاز على حزب الله. لكن، وكل هذا…

نظام مير محمدي* في 26 نوفمبر/تشرين الثاني، نشرت صحيفة جمهوري إسلامي الحكومية مقالاً بعنوان “الخوف من ثورة الجماهير الجائعة”، محذرة قادة النظام: “كل يوم، تتعمق الأزمة الاقتصادية؛ يزداد الفقراء فقراً، والأغنياء ثراءً، ويصبح المستنقع غير المسبوق من النخبوية الذي يجتاح مجتمعنا أكثر انتشارًا”. وسلط المقال الضوء على أن الطبقة النخبوية الجديدة “تعيش في قصور أكثر إسرافًا من قصور الشاه…

إبراهيم اليوسف   لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي، في وقتنا المعاصر، منصات عالمية تتيح لجميعنا التعبير عن آرائنا، مهما كانت هذه الآراء إيجابية أو سلبية. لكن هناك ظاهرة جديدة تتجسد في ما يمكن أن نسميه “إطلاق النار الاستباقي”، وهو الهجوم أو النقد في صورته المشوهة الذي يستهدف أي فكرة أو عمل قبل أن يرى النور. لا تقتصر هذه الظاهرة على…