ماجد ع محمد
كحال الكثير من المجتمعات الشرقية التي يعاني بعض أطيافها من علل الاستفراد والاستحواذ ومرض امتلاك الحقيقة، يعاني مجتمعنا من نفس الأسقام وربما بشكلٍ مضاعف، وحيث ترى جهة ما في المجتمع بأنها في جادة الصواب تقيم، بينما الغير بنظرها من قرناء الإعوجاج، وهو ما يعطي الحق لمدّعي الحقيقة قيادة البشر والحجر والشجر، والآخرون ليس لهم حينها إلاّ القبول بحكمه صاغرين؛ أما مَن يرفض الخضوع لسلطان مرضى العقيدة السياسية تلك ـ وبالأخص أنصار إحدى العقائد السياسية في المجتمع الكردي باعتباره موضوع مادتنا هذه ـ فلا يسعه إلاّ تنفيذ فحوى ما ورد في هذا المثل: “إذا ضربت فأوجع لأن الملامة واحدة”
لذا وبما أن اخواننا من أتباع الفلسفة الأوجلانية، أي مريدي حزب العمال الكردستاني، يعتبرون أي كردي غير مؤمن بعقيدتهم السياسية، هو بمثابة المعادي أو الخائن أو العميل، فنرى بأنه من الأفضل أن يوغل المتهم بالعمالة في العمالة أكثر، وذلك حتى يستحق ذلك النعت بجدارة، وإلاَّ فإنه سيكسب الصفة الشنيعة من دون أن يكون في رصيده شيء عملي يوازي ذلك الصيت المشين.
وبما أن ثمة رغبة جامحة لدى الدولة التركية، بجعل شرق الفرات مثل عفرين التي لم يشهد لها أن ذاقت الويلات منذ تأسيس الدولة السورية، وفق شهادات عشرات الأشخاص من ذوي المصداقية، مثلما تجرعت على يد الكثير من عناصر الفصائل التي استخدمتها تركيا في عفرين، وحيث الواقع الميداني يناهض ما صرّح به وزير الدفاع التركي “خلوصي أكار” الذي قال خلال لقائه مع عمال إحدى المصانع العسكرية في ولاية “أسكي شهير” يوم الثلاثاء: “ليست لدينا مشاكل مع إخوتنا الأكراد والعرب، ونحن كالجسد الواحد مع الأكراد الذين يعيشون في تركيا، ونتقاسم معهم أرضنا ورغيفنا، وهدف القوات المسلحة في الداخل والخارج، هم الإرهابيون فقط”، حيث أن أغلب من في المنطقة وبناءً على ممارسات عناصر أغلب الكتائب في ديارهم، يرون بأن تركيا استخدمت تلك الأدوات ليس لتحرير عفرين من الوحدات العسكرية التابعة لحزب الاتحاد الديمقراطي PYD، إنما للنيل من الكرد باسم محاربة PKK وPYD.
لذا فلكي لا يتجرع سكان مناطق شرق الفرات ما تجرعه العفرينيون، سيكون اقتراحنا متعلق بقبول المرء خسارات صغيرة تجنباً للهزائم الكبيرة، وأن يكون المجتمع الكردي في تلك المرابع جاهز ليخسر القليل أفضل له من أن يخسر كل شيء، وهو أن يتم تشكيل فرقة خاصة من شرفاء تلك المناطق، ومهمة هذه الفرقة هي اعتقال كل قائد أو كادر قادم إلى مناطقهم من جبال قنديل ـ مركز قيادة PKK ـ ليس لقتلهم أو تعذيبهم، إنما لتطويقهم وقطع شريان الاتصال بينهم وبين من يوجههم عن بُعد، وبالتالي انتزاع السلطة منهم، وأخذ صولجان الأمر والنهي من أيديهم، لعدة أسباب منها:
أولاً: لأن هؤلاء يصادرون قرار السلم والحرب في مناطق لا تعني لهم شيئا، فهم ليسوا منها، ولا هي منهم، ولن تتألم حتى كواحل أقدامهم إن احترقت كل المناطق التي يُرسلون إليها لكي يكونوا بمثابة الذريعة لدى الدول لمحاربة الكرد، كل الكرد بسببهم.
وثانياً: ثمة تصور عام لدى الكرد بأن هؤلاء هم بالأصل عيون مخابرات الأنظمة الاقليمية في أي منطقة يتواجدون فيها، وأن وظيفة كوادر قنديل الأساسية، تخريب المناطق الكردية نيابة عن الأنظمة التي أوجدتهم، لهذا فما على الكرد عندئذٍ إلاّ إفشال مؤامرات حاخامات قنديل وكل من يوظفهم بشتى الأساليب والسبل.
ثالثاً: ولنفرض جدلاً بأن كل من لا يؤمن بآلهة العقيدة الأوجلانية هم فعلاً عملاء وخونة وناكري معروف، بكونهم لا يُقدّرون تضحيات حاخامات قنديل، الذين تركوا الحياة المدنية ليعيشها أمثالنا، بينما هم آثروا البقاء في الجبال الوعرة، وفضّلوا العيش والمكوث في المغر والكهوف؛ فبناءً على هذا التصوّر، وأخذاً برأيي كل من يرانا من المجحفين بحق أصحاب تلك العقيدة السياسية، وهم ينظرون إليهم بخلاف ما ننظر، نقول لهم: حقيقةً كنا آمنا بهذا التصور لو توفّر في قادة ذلك التنظيم ولو شيئاً يسيراً مما أكد عليه جون سي. ماكسويل في كتابه “21 صفة لا غنى عنها في القائد” وعلى وجه التحديد الصفة التاسعة عشر للقائد، ألا وهي: صفة (خدمة الآخرين) وليس توظيفهم واستغلالهم واستثمارهم، وحيث يقول ماكسويل: “إن القائد الحق هو من يقدم مصلحة الآخرين على مصلحته، ويملك الثقة الكافية لكي يخدم غيره، ويبادر بخدمة الآخرين، ولا يضع في اعتباره حسابات المنصب، ويخدم بدافع الحب”؛ كما كنا آمنا بنضال ذلك التنظيم الذي يستنزف المجتمع الكردي بأمواله وطاقاته العسكرية والعضلية والعقلية منذ أكثر من عقدين من الزمان، بأن يقود كرد الجزيرة، لو امتلك التنظيم برمته من الإنتاج والرصيد الفكري والنقدي ولو ربع ما يمتلكه كاتب كردي واحد فقط من بين الكتاب الكرد في شرقي الفرات، ألا وهو الباحث إبراهيم محمود.
وانطلاقاً مما سبق وعبر هذه المقارنة البسيطة، فليس من العقل بشيء أن يُسمح لأناسٍ كل استراتيجيتهم الفكرية بضعة أقوال لأوجلان مع القليل من تشطيحاته الشعرسياسية، التي لم يثبت صحتها في أي أرض أو حقل معرفي، في أن يكونوا ربابنة كل مراكب الكرد، وحيث أن حال المنظومة الأوجلانية برمتها، كحال رجلٍ فاشل اقتصادياً في ملعبه الأساسي أي في تركيا، حال مفلسٍ خسر ماله وبيته وأرضه وحتى سماؤه، ولكنه من سطوة الاستئثار والاستحواذ يريد مصادرة قرار الكرد في كل مرابعهم، ومعلوم أن هؤلاء الذين حشدوا كل طاقاتهم السياسية والعسكرية والفنية والفكرية لأجل تثبيت موطئ قدم لهم في كردستان تركيا، وأهرقوا بدعوى تحرير كردستان الكبرى، الأموال وكميات هائلة من الطاقات البشرية، إضافة إلى المئات من القرابين، ومع كل ذلك فلم ينجحوا في تحرير ولو قرية واحدة هناك، وهو ما يؤكد بأنه لن يكون بمقدورهم، ولا يُرتجى منهم إلاّ إلحاق شرق الفرات بمصير مجمل المناطق الكردية في تركيا، وبفضل تكلسهم الفكري قد يصبح حال مناطق الجزيرة مشابهاً لعفرين إن لم يكن أسوأ منها، هذا إن لم يتم التخلص بأسرع وقت من سطوتهم، وتعيين مكان كل نفر منهم أحد المعروفين من شرفاء تلك المناطق وعقلائها، ونقول هذا الكلام ليس كرهاً بقادة حزب العمال الكردستاني، إنما المنطق يقول بأن من تكلست أفكاره وتخلّف عن ركب العلم والتطور التكنولوجي، وانقطع عن تُرع المعرفة، لا ينبغي قط اتباعه أو تسليمه مقود مصائر آلاف البشر، وفي هذا الإطار يطيب لنا أن نستشهد بما جادت به قريحة الحكيم والفيلسوف الصيني كونفوشيوس* حين يقول: إن المعرفة تشبه تجذيف مركب في نهر يسير عكس التيار، لا يمكنك أن تتوقّف عن التجديف، وإلاّ فإن التقهقر بمجرد التوقّف عن التجذيف هو النتيجة الوحيدة، هذا اذا لم يكن هناك من خطورة في انقلاب المركب والغرق.
وبناءً على الوارد أعلاه فإن كانت الأحزاب الكردية في شرق الفرات معنية فعلاً بسلامة المنطقة، عليهم العمل الدؤوب لإبعاد الربان الذي ديدنه إغراق المراكب، وإذا كانوا حريصين بألا تصبح مناطقهم عفرين الثانية، ما عليهم إلاّ اعتقال كل نفر مدني أو عسكري قادم من قنديل، لأن أولئك الأنفار كانوا وراء تسليم عفرين بعد أن فرضوا عليها الحرب وغدا خرابها مضموناً، ولا نقول هذا الكلام إلاّ بناءً على المعطيات الميدانية منها أولاً: أن وحدات الحماية الشعبية المعروفة باسم YPG عدا عن الأنفاق الضخمة التي عملوا على إنشائها لسنوات، وعدا عن الحصون الطبيعية المنتشرة في كل المنطقة، كانت تمتلك صواريخ حرارية وصواريخ مضادة للطائرات وللدروع، وصواريخ مضادة للدبابات، وصواريخ تاو وصواريخ متنوعة أمريكية وروسية وإيرانية، وذلك حسب الفيديوهات التي نشرت على وسائل التواصل الاجتماعي والتي عثرت عليها القوات التركية كما هي، حيث أنهم لم يستخدموها في حربهم، ولا أخذوها معهم عندما لاذوا بالفرار، إنما تركوها في مستودعات مغلقة، وفي صناديق مختومة، لتكون بمثابة الهدية للقوات التي ستحل مكانهم!!!.
كما أننا حيال قصة المقاومة الكاذبة والانسحاب الحقيقي، نذكر أن أحد المعارضين السوريين ممن زاروا منطقة عفرين بعد انتزاعها من حزب الاتحاد الديمقراطي، أشار إلى أنه بناءً على المناطق الجغرافية الوعرة، والجبال والوديان والأحراش المنتشرة بكل عفرين، والأنفاق الضخمة في محيط المنطقة، فلو أرادوا المقاومة لدامت مقاومتهم شهورا إن لم نقل سنوات، وهو ما يعني بأن الجماعة كانوا ينسحبون تدريجياً وحريصين جداً بأن لا يُلحقوا الضرر بالطيران والمركبات العسكرية المهاجمة، وأن يبقى قتالهم بالسلاح الخفيف ليظهروا أمام جمهورهم (خزانهم البشري) بأنهم يقاومون، وذلك إلى أن يتم انسحابهم الكامل من المنطقة.
إضافةً إلى ذلك فإن جميع مراقبي تطورات الأحداث في المنطقة رأوا كيف تركت تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي ينمو على مهله، ولم تعترض نموّه، ولا حاولت إيقاف إنتعاشه العسكري منذ سنوات، حيث كانت الحدود التركية مفتوحة أمام عناصره لجلب ما يلزمهم من السلاح عبر المهربين، على مرأى وأنظار الجيش والجندرمة التركية، ودعت تركيا القوى العسكرية للاتحاد الديمقراطي تنهض، وتترعرع، وتتضخم، ولم تتدخل في مسار قيامها قط، إنما بالعكس تماماً ساعدت على تمدد ذلك التنظيم، وكانت وراء استفراده بالسيطرة على المناطق الكردية، لأنه حسب أقوال النقيب السابق في الجيش السوري الحر، بيوار مصطفى، فإن تركيا منعت وصول السلاح إلى أيدي كل الكتائب الكردية التي تشكلت منذ 2012!! وبديهي أن دافع تركيا لرفض تسليح أي فصيل كردي آخر غير أصحاب العقيدة الأوجلانية، هو ليس حباً بأتباع قنديل، ولا حباً بالكرد حتى لا يتقاتلوا فيما بينهم، إنما لعل السبب المنطقي عائد إما لأن تركيا كانت واثقة كل الثقة بأنها من خلال دراستها لنفسيات قادة التنظيم وطريقة تفكيرهم قادرة على سوقهم إلى المكان الذي تريده، أو لمعرفة تركيا بعدم قدرتها لاحقاً على التحكم بأي فصيل كردي آخر أو اختراقه كما هو الحال مع جميع الفروع المنبثقة عن حزب العمال الكردستاني؛ لذا منعت تركيا تسليح أي جهة كردية أخرى، وبنفس الوقت لم تواجه تلك الوحدات العسكرية للاتحاد الديمقراطي وهي تترعرع تحت أنظارها، وبقيت تراقب تلك القوى وهي تكبر إلى أن بلغت مرحلة الاستواء، فبعدها صارت تحشد قواتها البرية والجوية ضد الحزب ووحداته العسكرية.
وهذا يعني بأنها كانت قادرة على منع نشوئه منذ البدء، ولكنها انتظرت طويلاً لكي تكون الضحية جديرة بالحرب عليها! وتحقق بالتالي أكثر من هدف في آنٍ واحد، منه تحطيم جميع الكرد معنوياً من خلال كسر ظهر حزب الاتحاد الديمقراطي سياسياً وعسكرياً، وذلك حتى لا تقوم للكرد قائمة في سورية بعد عقودٍ من الزمان، وثانياً لكي تنتقم من الكرد عبر أدواتها من السوريين أنفسهم، وهو بالضبط ما حصل ويحصل في عفرين، وثالثاً لكي تعمل على إتمام مشروع الحزام العربي الذي قام به النظام السوري عام 1965، بهدف تفريغ منطقة الجزيرة أو محافظة الحسكة من الكرد الأصليين وتوطين أسر عربية بدلاً عنهم، وهو المشروع الذي يتوافق عليه كل من تركيا والنظام السوري، وبتصور أي كردي عاقل أنه لولا التدخلات الدولية ومصالح الغرب، والدور المحوري لكل من أمريكا وروسيا، لكان النظام السوري تخلى بيسر عن الاتحاد الديمقراطي رغم كل خدماته العسكرية الجليلة له، وأيّد على وجه السرعة وبكل حبور خطوة تركيا في غزو منطقة شرق الفرات، علهم يستكملون معاً مشروع الحزام العنصري الذي يصب في مصلحة الدولتين، ولو أن ذلك العمل اللاإنساني سيكون على حساب قوم الكرد أجمعين، إلاّ أنه عند التقاء المصالح الاستراتيجية للدول لا تحضر قيم العدل، ولا الرحمة، ولا شيء من أخلاقيات الإنصاف في الدين، بل وتختفي من الساحة دفعةً واحدة كل الملائكة الخيّرة لرب العالمين.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*ملاحظة: بخصوص عبارة كونفوشيوس التي أوردناها في المتن فللأمانة لم أجدها كما وردت هنا لا في المستطرف الصيني، للمفكر العراقي الراحل هادي العلوي، ولا في كتاب مبادئ الحكم في الصين القديمة، المترجم من قبل حسين اسماعيل وفريدة وانغ فو، إنما وجدت ما يماثلها في مختصر حكم كونفوشيوس لـ: تسنغ قوه شيانغ، المترجم من قبل أ.د ماجدة صوفي بكار، وجاءت العبارة كالتالي: “التعلم مثل الذي يريد أن يلحق بشيء، ويخاف ألا يلحقه، ويخاف أن يضيع العلم الذي كان قد تعلمه مسبقاً” بينما المقتطف الذي استشهدنا به في النص فقرأته في مدوّنة الكاتب اللبناني، بلال عبد الهادي، وهي مدونة تهتم باللغة العربية واللغة الصينية، وجاء المقتطف في سياق مقالة للكاتب بعنوان: دراجة لغوية، نشرت في 26 مارس 2015.