د. محمود عباس
من إحدى آثار الحروب، أنها أحيانا ولظروف معينة، وتحت شروط ما، تخلق طبقة اجتماعية جديدة على حساب الطبقة القديمة المهيمنة، وتبرز شريحة كانت تطمس إمكانياتها في الماضي من قبل المتسلطين على المجتمع. ومن مصائبها، أنها تفتح الطرق لحثالات البشر في استخدام أقذر الأساليب للسيادة، وتدني من الشرفاء والوطنيين والمبدعين، تهدم شعوب بأكملها وترفع مكانها شرائح فاسدة، تعمل على تسليط الأشرار وقذارات المجتمع على العامة من الناس. هذه جدلية رافقت بعض الحروب في التاريخ وليست كلها، فقد خلفت بعضها مفاهيم وقيم اجتماعية سامية، وخلقت على ركام بعضها حضارات، وبنيت إدارات نبيلة رفعت من مكانة الأمم من خلال الاهتمام بمدعيها ومفكريها، وقطعت الطرق على الانتهازيين والمنافقين، وهي ما سميت بالثورات، رغم ما رافقتها من المصائب والأهوال.
وبلا شك، هنا لا نفرق بين الثقافة والسياسة، ولا نبعد تأثير مخلفات التاريخ على مجريات الأحداث، فقد كان المأمول من الثورة السورية، كمعظم الثورات في التاريخ التي خلقت على أسسها مجتمعات حضارية، وأظهرت طبقة جديدة، تفكيك النظام، الثقافي والسياسي والاقتصادي وحتى الاجتماعي، وإعادة دراسة التاريخ، وتصحيح أساليب أخذ العبر منه، وإعادة تركيبة بناء هذا النظام، وتغيير مفاهيم المجتمع بقيم وأفكار تواكب المسيرة الإنسانية الحضارية، عن طريق خلق خطاب جديد ضمن العقل العربي، وذلك قبل أن يجر هذا العقل الجامد، الذي لم يستطع التحرر من معطيات الثقافة العروبية الإسلامية السياسية السائدة، الشارع السوري إلى صراع بين قوى فاسدة وانتهازية ومنافقة، وحصر الصراع بين طرفي النظام الموبوء ذاته، فتم تدمير الوطن على ركام المجتمع المدمر أصلا، ومن أجل غايات خسيسة ومصالح منحطة، للسلطة والمعارضة معا.
كان المتوقع من الثورة أن تفرز شريحة رائدة تنويرية تقود المجتمع، لكن واقع الحال تمخضت عن شرائح سورية من ضمن أقذر النماذج في التاريخ البشري، فكانت أفضلها في نشر الفساد الممنهج، والشر المخطط، ولوضوح هذه الصفات المنحطة في الشريحة التي قادت وتقود الحرب السورية المدمرة، والمرعبة، وجهت هذه الأطراف أعلامها على زيادة تعمية بصيرة المجتمع، والتلاعب بمقدرات الأمة، وتشويه غاياتها، ووضع مأربهم مكانها، ولهذا عملت وبكل ما لديها من الإمكانيات في توسيع الدمار الثقافي والبنيوي، ونشر هيمنة الأشرار، بل والأدهى أنها تباهت أمام الناس وفي الشارع، ودون رادع، لا نقول أخلاقي لأنها غير موجودة أصلا، أنها مخولة من الشعب، والشعب براء منهم جميعا، فهي السلطات الشمولية الأمرة والناهية في الوطن، والتي تستمر في الهيمنة على مدى قدرتها، في خلق المصائب، وتوسيع الصراع بين شرائح المجتمع، ونشر الأوبئة وإحداث الكوارث، وهنا فتركيا والمعارضة السورية التكفيرية المسلحة كالسلطة السورية مباشرة أو عن طريق حلفائها وأحيانا أدواتها، في مقدمة المعنيين.
وما يجري اليوم في عفرين وقامشلو، خير مثالين عن كلية الوطن، وكان قبلهما معظم المدن السورية، التي أبيدت حتى الحيوانات فيها، لئلا يكون هناك شهود على ما فعله إفرازات تكوين وبنية العقل العربي بالوطن، الذي كان يسمى يوما ما بسوريا.
كم من الحثالات برزوا وكم من الشرفاء ضاعوا، في الحرب السورية، والتي من ضمنها مجتمع منطقتنا الكردية. فحراكنا هو جزء من القوى التي شاركت في هذا الصراع ولم نتمكن من أن نكون طرفا ثالثا كما أردنا أن نكون، ولربما لأننا من مخلفات المفاهيم نفسها، ورضعنا من العقلية ذاتها، وشذبنا بالثقافة الشمولية مثلهم، لذلك ولغيرها من الأسباب لم نتمكن من تغيير الواقع، باستثناء عرض بعض المفاهيم والطروحات السياسية والتي تعتبر أكثرها منطقية لقادم سوريا، كالحل (الفيدرالي واللامركزية في السلطة) من حيث البعد السياسي، وتقبل الأخر كمقدمة لتبادل الثقافات بين الشعوب السورية، واستطعنا كشعب وقوى عسكرية، وبإمكانياتنا المتواضعة الوقوف في وجه أقذر المنظمات التكفيرية الإسلامية في التاريخ البشري (داعش والنصرة والمعارضة السورية المسلحة والحشد الشيعي وغيرهم) وتمكنا من دحرهم، في الوقت الذي كان هؤلاء الأشرار يستمدون كل الدعم من القوى والسلطات المعادية للكرد.
لكننا وللأسف من جهة أخرى، وعلى خلفية ما ذكرناه، شاركنا بشكل أو أخر في الدمار البشري ذاته وإن لم تكن في البنية التحتية، فما نراه في شوارع ومطاعم وأزقة قامشلو وغيرها من المدن الكردية وضمن المجتمع، وحيث يتباهى تجار الحروب، باسم المشيخات، والمافيات، وفي وضح النهار وأمام سلطتي الإدارة الذاتية والمركزية، وأمام أعين العامة من الناس، الصامتين وبامتعاض، دليل مؤلم، وسافر، على أننا شاركنا في الكارثة التي تجري من تحت أقدام مجتمعنا الصامد في الوطن والتي لا تقل عن جريمة المهجرين أو المهاجرين، ولا عن كارثة الصراعات السياسية بين أطراف حراكنا الكردي. ألا تستحق هذه الظاهرة، رغم صغرها أمام كارثة ضياع عفرين، والكوارث القومية والاجتماعية والسياسة الأخرى، أو الظواهر المماثلة لها، دراستها ومعالجتها؟
لماذا نلقي باللوم على حراكنا الكردي والكردستاني السياسي، بما نحن فيها كأمة من المصائب، ونلومه على غياب الوطن الكردستاني، علما أن هذا العامل الذاتي أوهن من أن يقارن بالموضوعي في هذه القضية، كدورها في مجريات الأحداث في الحرب السورية الجارية؟ لا شك أننا كثيرا ما نجحف بحقه، ونقيمه ونلومه وكأنه صاحب الهيمنة والإمكانيات الهائلة، ونحن هنا لا نتحدث الطاقات الكردية والكردستانية الخام. مع ذلك فدراسته لا بد منها لنبني عليها حاضرنا ونعمل لمستقبلنا. فالكل يعلم أن حراكنا الكردي والكردستاني السياسي مر قبل الحرب السورية بعدة مراحل، كانت في معظمها ربيبة، إن لم تكن وليدة القوى الإقليمية، وتحت هيمنة مربعاتها الأمنية، ورغم ما كانت تقدمه من طروحات بسيطة، دون سوية القضية وعلى مدى نصف قرن تقريبا، ورغم كل نواقصها هذه، قدمت إيجابيات للمجتمع ولذاتها كحركة، تمكنت من الحفاظ على ماهيتها، وعلى صيغ المطالب الكردية بشكل عام، وذلك إما أنها كانت واعية ولها رؤية مستقبلية، وعرفت مخارج استغلال الواقع، مستخدمة الطرق المرنة، والتي فيها بعض الحنكة، أو لجهالة السلطات المستعمرة لكردستان، أو، على الأغلب، لعدم إعطاءهم أهمية للحراك الكردي، ومدارك المجتمع، وخطأ تقديرهم للقوة وإمكانيات الشعب الكردي. كما وتمكنت من الحفاظ على نقاء نسبي في جسم الحراك، رغم كل الإملاءات المفروضة من المربعات الأمنية، وهي المسيرة التي لم تتمكن من الحفاظ عليها خلال الحرب السورية الجارية، وخاصة في دورها أمام وبين المجتمع.
وبالمقابل وكحراك ثقافي، لم نتمكن من توعية المجتمع الكردستاني، بحيث يتجاوز الصراعات الحزبية المخططة خارجيا معظمها، كما ورغم ما بذلناه من جهود، للتمييز بين الهم الوطني والمصالح الحزبية، لكنها وفي زمن الحرب هذه سقطنا في هوة عدم التمييز ما بين الدفاع عن الوطن والغايات الحزبية، ولا شك وبإمكانياتنا البسيطة بل والضحلة، ومع وجود الحصار الممنهج حولنا من قبل السلطات المقتسمة لكردستان، استطعنا أن نوصل الكلمة والمطلب الكردي إلى معظم المحافل الثقافية العالمية، وهذا ما أدت إلى بروز حروب ثقافية تاريخية وقومية مسعورة ضد أمتنا، إلى جانب الحرب المذهبية في المنطقة، تبنتها المراكز الثقافية والإعلامية المعادية، وقد جندت السلطات الشمولية رغم حروبها مع شعوبها وصراعاتها الداخلية، جيوش ثقافية لهذه المهمة، واستخدمت كل الأساليب الملتوية والمباشرة، ومنها الترويج للوطنية وبنفاق مع الاحتفاظ بهيمنة العروبة والتركية والفارسية، والإخوة التي لم يعترفوا بها يوما على مدى القرون الماضية، كما وحاولوا استخدام شريحة كردية ثقافية لهذه المهمة تحت حجج تبادل المعارف والمفاهيم الثقافية والتاريخية، إلى جانب مجموعات من الشعوب الكردستانية الأخرى للطعن في تاريخ العلاقات بيننا.
على خلفية الضغوطات المتزايدة على أمتنا الكردية، وتراكم المصائب، ننكفئ كحراك كردي على ذاتنا، وتضعف لدينا القدرة على معرفة أو تحديد المنابع المصدرة للكوارث إلى الداخل الكردستاني، فنتصارع داخليا وبها نهدر طاقاتنا وطاقات الأمة، بدل أن نوعي المجتمع الكردي وننمي مداركه ونجمع قوته ونواجه بها القوى المترصدة بالكرد، وبضحالتها المعرفية هذه في تدارك الأمور، نوسّع الشرخ بين أطراف المجتمع المنقسم أصلا على ذاته، ونسهل البيئة للمفاهيم الكارثية التي عرضناها في مقالنا السابق( مصائب العقل الكردي) ونقدم الخدمات الجليلة للقوى الإقليمية المقتسمة لكردستان، والتي هي بحد ذاتها أدوات للقوى الكبرى، وبينهم مصالح مشتركة.
الجدلية بين ضعف الحراك الكردستاني الذاتي والضحالة المعرفية وقدرات تحكم القوى الخارجية، واضحة معالمها، وانتكاساتنا المتكررة تعكسها، إن كانت على مستوى الأمة أو المناطق، أو في تناولنا لقضايانا السياسية، أو الفكرية، أو حتى في محاولات إعادة دراسة تاريخنا المحرف والملفق أصلا والمكتوب بيد الأعداء، والعديد من الباحثين الكرد يعيدون كتابته بتشوهات أبشع مما أراده المتربصين بنا، لخدمة شريحة اجتماعية أو حزب ما.
كنا كحراك كردستاني نود أن نخطط لنخرج من هذه الحرب الكارثية، بركيزة ثقافية وسياسية رصينة تساعدنا على أن نبني مستقبلا مشرفا لمجتمعنا، ونمهد لبناء وطن كردستاني، ونساهم بخدمات للمجتمعات الأخرى، لأننا الأمة التي تحمل تجارب القرون من المآسي، والمُعاني من منطق إلغاء الأخر، وهضم الحقوق، ولكننا وللأسف وحتى اللحظة لا نرى أي اختلاف بيننا وبين القوى السياسية الأخرى المنبثقة من أحضان السلطات الشمولية الدكتاتورية، نتعامل وبالمنطق ذاته فيما بيننا، إلى جانب أننا نستخدم ذريعة الحرب لنطعن في البعض، ونذل الكردي الأخر.
الولايات المتحدة الأمريكية
mamokurda@gmail.com
10/11/2018م