كوردستان تسقي العراق العطشان

إدريس سالم
إن العراق، الغني بالثروات المعدنية والنفطية والغازية، وغيرها من الموارد الطبيعية، قادر على شراء البحر الأحمر والخليج العربي والبحر المتوسط، ونهر الفرات ودجلة من المصبّ إلى المنبع، ليسقي كل دول ومدن الشرق الأوسط، وفي مقدّمتها أبناء البصرة، قادر على شراء كل الخيرات الزراعية من تركيا، وإشباع أبنائها، الذين يخافون من أن تتحوّل مقولة “لا أحد يموت من الجوع” إلى واقع حقيقي يعيشوه يوماً ما، لم يكن ليموت أحد من الجوع لو كان العدل سائداً، والرحمة حاضرة، والظلم متوارٍ، والقسوة غائبة، لو كان للناس قلوب تنبض، وأسماع تعي، وأعين تبصر وتقوى، وإحسان وإحساس بالآدمية وشعور بالإنسانية. 
في حادثة قد تكون مألوفة لدى السويسريين، لكنها غريبة ونادرة جداً لدى العراقيين، فقد قام الجيش السويسري، وبطائرات هليكوبتر – بحسب رويترز – بنقل المياه للأبقار العطشى في مزارع في سفوح جبال “جورا” وجبال “الألب”، جراء الجفاف وموجة الحرّ التي اجتاحت أغلب أرجاء أوروبا، بينما يرقد ٥٠٠٠ مواطن عراقي في مستشفيات البصرة، دون أن تحرّك الحكومة العراقية ساكناً، لحل أزمة التلوّث، الحكومة التي لم تستطع حتى الآن من حلّ نفسها بعد الانتخابات، وتأسيس حكومة أخرى، قادرة على التئام الجرح العراقي العميق والمتفاقم.
مؤسسة “بارزاني” أكبر المنظمات الخيرية في إقليم كوردستان، تواصل إرسال عشرات من الشاحنات المحمّلة بقناني المياه العذبة إلى مدينة البصرة العراقية العطشى، أغنى مدن العراق في صناعة النفط والمنافذ والموانئ، جراء تلوّث مياه الشرب بصورة متصاعدة، بفعل الإهمال الحكومي وفساد القادة العراقيين، الذين يفضلون بناء الحشود الشعبية العسكرية على الحشود الشعبية الطبية والثقافية والتعليمية والإنسانية والخيرية، وهذا العمل الإنساني ليس بجديد على هذه المؤسّسة.
فعندما عاد الجنرال الراحل “مصطفى بارزاني” من الاتحاد السوفيتي قبل نحو 59 عاماً تم استقباله في مدينة البصرة على نحو مهيب، ومن مبدأ ردّ الجميل قرّرت مؤسّسة بارزاني الخيرية، أن تسقي أهالي البصرة العطاشى، بعد أن استقبلت مستشفياتها العديد من أبنائها المصابين بالإسهال والتسمّم والحساسية الجلدية، بفعل تلوّث المياه وارتفاع معدّل الملوحة في الأنهار المتفرّعة بالمحافظة.
إن الفساد موجود في أنحاء العالم بصور نسبية، وبصورة كلية في الوطن العربي وعلى نطاق واسع في العراق تحديداً، فالفساد والرشوة وجهان لعملة واحدة، لا ذمّة ولا ضمير لشخص أو مسؤول يكون في وسط هذا الحقل أو اللغم، فالقاسم الوحيد الذي  يجمع الفاسدين والمُفسدين هو نهب  المال العام، وتكديسه في  بنوك  سويسرا أو ضخه في كبرى شركات أوروبا، على أمل أن يكون القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، ولكن هل أسوء من أن تتحوّل القيم الإنسانية إلى سلعة رخيصة تتضارب أسعارها في البورصات العالمية؟ 
فما من كلمة أكثر رواجاً بين السياسيين العراقيين، سوى كلمة “فساد”، التي أضحت بمثابة كرة نار يقذفها كل منهم في ملعب الآخر، وتحرق في طريقها مزيداً من أرض العملية السياسية المتداعية أصلاً، وتضرّ ملايين العراقيين، وأولهم أبناء البصرة، ورغم أن مسلسل الفساد ليس بجديد على العراق، فإن أبرز ما ميّز السجال الأخير هو “الصبغة الطائفية” له هذه المرة، إذ تحدثت التقارير الإعلامية عن هدر 48 مليار دولار أميركي لحماية المسؤولين العراقيين بين عامي 2008 و 2014، أي في عهد نوري المالكي، الذي لم تدرج السلطات القضائية في البلاد اسمه على لائحة المطلوبين أو الممنوعين من السفر، على غرار ما فعلت مع عدد من المسؤولين.
لعلّ وصف الرئيس الأمريكي المجنون “دونالد ترامب”، الذي له باع طويل في السياسة الاقتصادية وخبرة المال ورجال الأعمال، للمسؤولين العراقيين وصف واقعي وعقلاني ومنطقي، فقد وصفهم بأنهم “أبرع مجموعة لصوص” شاهده في حياته، بحسب مجلة “نيوزويك” الأمريكية، وقد جاء هذا الوصف  في أعقاب الحديث عن تبدّد نحو 1.7 مليار دولار أمريكي، منحتها واشنطن للحكومة العراقية الطائفية بعد 2014، كمساعدات إنسانية لبغداد، بهدف إعادة إعمار البنية التحتية التي دمرتها الحرب.
للحقيقة، وللتاريخ، وللوجع الكبير الذي ذقناه من دول سايكس – بيكو، إن الكورد عموماً ولاجئي غربي كوردستان بشكل خاص هم أولى الناس بهذه المساعدات، ففي الوقت الذي تنفّسوا فيه الصعداء بعد أن تخلّصوا من بطش داعش، حينما انتقلوا إلى كوردستان طلباً للأمان والاستقرار والعيش الكريم، وقعوا ضحية الإهمال من قبل حكومة بغداد وحكومة الإقليم، واضطروا للعيش على ما تجود به عليهم منظمات الإغاثة العالمية من مواد غذائية لا تكاد تسدّ رمقهم، وهم الآن يواجهون مأزقاً جديداً، لا يقل خطورة عن سابقاته من التي مروا بها، وهذه المرة بسبب تفجر أزمة جديدة بين قيادة إقليم كوردستان وحكومة بغداد من جهة، والصراع المستمرّ بين المجلس الوطني الكوردي والإدارة الذاتية في غربي كوردستان من جهة أخرى.
خلاصة القول:
إن نصف الشعب العراقي لا يقدّر قيمة العمل الإنساني والإنسانية، التي تفعلها كوردستان تجاه العراق العطشان، إذ يجب فضح سياسة العبادي والمالكي والجعفري والجبوري والخزعلي الاستبدادية تجاه كوردستان والعراق، ومن قبلهم الأمريكان والإيرانيين، الذين تركوا الحبل على الغارب، للقادة والزعماء السياسيين – شيعة وسنة – لكي ينهبوا ما استطاعوا لذلك سبيل، فالكل يلقي باللوم على الكل، والفساد يستفحل وينخر في المجتمع العراقي، والمؤكّد هو أن مشكلة مياه البصرة هي أزمة إدارة وتوزيع من قبل المسؤولين العراقيين، الذين لم يستطيعوا محاسبة المقصرّين، خوفاً من غضب الحيتان الكبيرة.

شارك المقال :

0 0 votes
Article Rating
Subscribe
نبّهني عن
guest
0 Comments
Oldest
Newest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
اقرأ أيضاً ...

شادي حاجي في السنوات الأخيرة، بات من الصعب تجاهل التحوّل المتسارع في نبرة الخطاب العام حول العالم . فالعنصرية والكراهية والتحريض عليهما لم تعودا مجرّد ظواهر هامشية تتسلل من أطراف المجتمع، بل بدأت تتحول، في أكثر الدول ديمقراطية ولم يعد ينحصر في دول الشرق الأوسط ( سوريا . لبنان – العراق – تركيا – ايران وو .. نموذجاً ) وحدها…

ياسر بادلي ليس اختيارُ الرئيس العراقيّ السابق، برهم صالح، مفوّضاً سامياً لشؤون اللاجئين حدثاً عابراً يمرّ على أطراف الأخبار؛ بل هو لحظةٌ ينهضُ فيها تاريخُ شعبٍ كامل ليشهد أن الأمم التي صُنعت من الألم تستطيع أن تكتب للإنسانيّة فصلاً جديداً من الرجاء. فالمسألة ليست منصباً جديداً فحسب… إنه اعترافٌ عالميّ بأنّ الكورد، الذين حملوا قروناً من الاضطهاد والتهجير، ما زالوا…

المحامي عبدالرحمن محمد   تتواصل فصول المسرحية التركية وسياساتها القذرة في الانكار والنفي للوجود التاريخي للشعب الكوردي على ارضه كوردستان، ومحاولاتها المستمرة لالغاء ومحو كلمتي كورد وكوردستان بوصفهما عنوانا للهوية القومية الكوردية والوطنية الكوردستانية من القاموس السياسي والحقوقي والجغرافي الدولي، سواء على جغرافيا كوردستان او على مستوى العالم. تارة يتم ذلك بحجة وذريعة الدين (الاسلام)، وتارة اخرى باسم الاندماج والاخوة،…

  إبراهيم اليوسف وصلتني صباح اليوم رسالة من شاعرة سورية قالت فيها إنها طالما رأتني وطنياً لكنها تجدني أخرج عن ذلك، أحياناً. رددت عليها: صديقتي، وما الذي بدر مني بما يجعلك ترين وطنيتي منقوصة؟ قالت: أنت من أوائل الناس الذين وقفوا ضد ظلم نظام البعث والأسد. قلت لها: ألا ترينني الآن أقف أيضاً ضد ظلم السلطة المفروضة- إقليمياً ودولياً لا…