جان كورد
في زمن العثمانيين كانت المنطقة تدعى رسمياً (كورد – داغ) فلما جاء المستعمرون الفرنسيون لم يقوموا بتغيير الاسم لأنه كان مطابقاً لواقع الحال من الناحية الديموغرافية، حيث كانت نسبة المواطنين الكورد من أصول عشائرية مختلفة متجذرة في المنطقة منذ قرون، وبقيت الجبال والوديان والسهول كلها باسمائها الكوردية، ولذلك لا يمكن لأحد الزعم بأن القاطنين فيها حلّوا محل العرب أو الأتراك، أو استعمروها بالقوة، أو هاجروا إليها وطردوا أهلها منها، فالكورد هم الذين ظلوا عبر التاريخ، ورغم كل الغزاة والمحتلين هم أصحاب الأرض التي عملوا فيها وعمروها بعرق جبينهم ودافعوا عن كورديتها عنصراً ولغةً وعاداتٍ وجغرافيةً عبر العصور‘ إذ ليس هناك أي أثر عثماني أو عربي في المنطقة، في حين نرى آثاراً يوناينة – رومانية وأسبق منها تاريخياً في المنطقة.
جاء العرب في ظل الدولة السورية التي استقلت في 17 نيسان 1946، بعد كفاحٍ مرير من أجل الحرية والاستقلال، وكان من الزعماء الكبار للمقاومة الوطنية فيها رجال كورد، مثل إبراهيم هنانو، هذه الدولة التي صار فيها عدة أكراد رؤساءً ورؤساء وزراء، منهم محمدعلي العابد بن هولو الكوردي وحسني الزعيم ومحسن برازي وفوزي سلو وسواهم. ثم بعد سلسلةٍ من الانقلابات العسكرية ومحاولةٍ فاشلة للوحدة مع جمهورية مصر، في ظل الرئيس جمال عبد الناصر، تسنى لحزب البعث العربي الاشتراكي الوصول إلى حكم البلاد بانقلابٍ عسكري عقائدي، وسرعان ما شرع في ممارسة سياساتٍ عنصريةٍ قذرة بحق الشعب الكوردي، وتم مع مرور الوقت تنفيذ كل النقاط الاثني عشرة من المشروع العنصري لضابط الأمن السياسي محمد طلب هلال الذي صار وزيراً للتموين مكافأةً له على عدائه السافر للكورد، وبدأ البعثيون باجراءات شملت تغيير الوحدة الإدارية لمنطقة (جبل الأكراد) التي مركزها مدينة عفرين. الاسم محرّف من الكلمة الكوردية الأصيلة (آفرين – مجرى الماء)، فحاول بعضهم اعتبارها مدينة سريانية أو آشورية، رغم خلوها شبه التام من المسيحيين والعرب عقوداً طويلةً من الزمن، وبعدها تم تعريب أسماء القرى الكوردية، وسمي جبل الأكراد بجبال حلب، وليس من جبال حول حلب كلها، بل غيروا اسم مركز المنطقة من عفرين إلى (العروبة)، والعرب كانوا فيها حتى بعد سيطرة البعث على الحكم في عام 1963 أقلية لا تتجاوز 2-5% من سكان المدينة.
على أثر انفجار الأوضاع السياسية في سوريا، في عهد الرئيس بشار الأسد الذي فضّل إراقة الدماء واستخدام مختلف أ،واع الأسلحة ضد شعبه، حتى السلاح الكيميائي من كلور وسارين وسواهما، إضافة إلى قصف المدن بالبراميل المتفجرة، عوضأ عن الحوار السلمي، أضطرت جماهير غفيرة إلى النزوح عن المدن، وبالأخص من حلب الكبيرة، وجاءت مئات الألأوف من السوريين إلى مدينة عفرين التي استقبلتهم واحضنتهم بإحسان وعاملتهم معاملةً إنسانية لا يشك أحدٌ في أنها كانت في منتهى الود والتآخي، إلاّ أن هذا لم يرق لجيران الكورد خارج المنطثة، وبخاصة الأتراك الذين سعوا منذ بداية الثورة السورية إلى أن يكون لهم قطعة من الحلوى في شمال سوريا، فإذا بالجيش التركي يهاجم منطقة جبل الأكراد، بذريعة أن الحكومة التركية عاملةٌ على تحقيق أمنها القومي، على الرغم من أن أي سوري، عربياً كان أو كوردياً، لم يهاجم تركيا من هذه المنطقة، بل إن تركيا قد بنت جداراً عازلاً بين المنطقة وأراضيها في ذات الوقت الذي تندد بالجدار الاسرائيلي في فلسطين. وأعلن زعماء حزب العدالة والتنمية الحاكمين في أنقره مراتٍ ومرات بأنهم يعملون على “إعادة منطقة عفرين لأصحابها الأصليين!!!” وهذا دليل واضح على أن لتركيا نية القيام بتغيير ديموغرافي في المنطقة، فالأصحاب الحقيقيون هم الكورد عبر العصور، فماذا تعني عبارة (أصحابها الأصليين)؟ وعلم الكورد أن الخطر قادم، فذهبت أدراج الرياح كل نداءات الشعب الكوردي وحراكه السياسي – الثقافي لخروج مقاتلي (وحدات حماية الشعب) التابعة لحزب الاتحاد الديموقراطي من المنطقة بهدف إحباط المؤامرة التركية.
بعد مقاومةٍ شرسة للفتيان والفتيات الكورد دامت 58 يوماً في وجه جيش الناتو التركي الذي استخدم سائر اسلحته البرية والجوية، و25000 مقاتل مما يسمى بالجيش السوري الحر، من عربٍ وتركمان، تم الاستيلاء على منطقة جبل الكورد ومن ضمنها مدينة عفرين التي تركتها وحدات حماية الشعب من دون قتال، وكانت هذه النتيجة متوقعة من قبل كل المراقبين، بل إن جنرالات الأتراك توقعوا دخول عفرين في عدة أيام فقط، ويبدو أن قيادة الوحدات المدافعة عن عفرين تعلّمت الدرس التركي القاسي فها هي تتخلى عن مدينة منبج السورية وسواها من دون قتال.
ما قام به الإسلاميون (!) من فظائع تحت أعين الجيش التركي، والذين كانت واجهتهم الجيش السوري الحر، ومزودون ب”فتوى” وقّع عليها أكثر من 20 شيخ ديني تسمح لهم بكل ألوان السلب والنهب للممتلكات، إضافة إلى التقتيل والترويع والتعذيب والتهجير، فاق كل التصورات البشرية، فأضطرت مئات الألوف من الكورد إلى النزوح صوب المناطق العربية بين المنطقة ومدينة حلب، حيث تعرضوا إلى سلبهم ما معهم من مال على السيطرات الحكومية وسيطرات المليشيات على حدٍ سواء، بعد أن كان المواطنون ينزحون سابقاً من حلب صوب عفرين آمنين من دون أن يمسهم أحد بسوء أو يأخذ منهم أتاوات، والأمرّ من هذا كله أن الكورد تعرضوا للسلب من قبل مواطني بعض القرى والنواحي الشيعية التي كانت القوات الكوردية تحميهم من هجمات الإسلاميين المتطرفين.
هذا الوضع الغريب المفاجىء، الذي لم تكن الحركة الوطنية الكوردية جاهزة لتولي مسؤوليتها التاريخية فيه، أضرّ بمنطقة جبل الكورد ضرراً اقتصادياً كبيراً، فالمليشيات العربية – التركمانية التي دخلت المنطقة قامت بالسلب والنهب على نطاقٍ واسع، وكأنها تحارب في بلاد الفتح العربي الأوّل أو في البلاد التي دخلها المغول والتتار في الماضي، وكل مزاعم بعض قادة الجيش السوري الحر والائتلاف المريض المتسكّع على أبواب أنقر بأنهم يحاسبون السراق والمجرمين مزاعمٌ باهنة لا تستر الحقيقة على أرض الواقع، فقد تم تهب ما في بيوت الكورد ومزارعهم وحوانيتهم من أثاث وآلات وأدوات وحتى أحجار المراحيض وما في قن الدجاج، واقتحم “الفاتحون الجدد” دياراً مسلمة كما اجتاح أجدادهم ديار المشركين في العهد الأموي، فالكورد في المنطقة بنسبة 90% من السنة وبينهم طائفة صغيرة من اليزيديين والعلويين، فهل انشق هذا الجيش الحر (التابع لتركيا) عن جيش الأسد للقيام بثورة على النظام المستبد الفاسد، أم أن عناصره من شبائح النظام فهم فعلاً يتفوقون عليهم في طرد المواطنين من منازلهم والسكنى عوضاً عنهم، وتعذيب المعترضين وقتلهم أو ضربهم وإهانتهم وإذلالالهم… وفي أقل من شهرين تغيّرت معالم الواقع الديموغرافي للمنطقة التي حافظت على شخصيتها الكوردية عبر التاريخ.
إن القصص الواقعية التي تصل أخبارها إلى أوروبا وغيرها يومياً مؤلمة حقاً، والحكومة التركية باعتبار أن قواتها في منطقة جبل الأكراد هي (سلطة احتلال) مسؤولة عن سائر انتهاكات حقوق الانسان، قبل (الجيش السوري الحر) ومن وراءه من مؤسسات وروابط وأحزاب سياسية، ولذا، فإن منظمات حقوق الانسان مدعوة إلى دفع الهيئات الدولية ومنظمة الأمم المتحدة للقيام بواجبها الدولي في مواجهة هذا التغيير الديموغرافي الخطير في جبل الأكراد، وإلاّ فإنها تدفع بالأمور صوب الأسوأ، وهذا يعني:
-تزايد عدد اللاجئين النازحين من هذه المنطقة الغزيرة السكان صوب دول الاتحاد الأوربي، واستخدامهم ك”جوكر” في أيدي الحكومة التركية في الضغط على أوروبا لانتزاع المزيد من الأموال بذريعة أنها تصد اللاجئين عن الوصول إليها عبر تركيا.
– لجوء الكورد إلى استخدام السلاح للدفاع عن أرضهم وكرامتهم وأعراضهم وممتلكاتهم، وهذا ما لايريده أحد، كما يزيد من خطر عودة (وحدات حماية الشعب) إلى المنطقة وبدعم جماهيري كبير، له هذه المرة بعد أن أفلس سياسياً فتزداد المشاكل تعقيداً ويزداد سفك الدماء وتهجير المواطنين.
بالتأكيد، تسعى جهات تركية إلى التملص من التزامات حكومتها تجاه الاتفاقات العلنية والسرية مع روسيا وايران، ضمن تحالف “الدول الضامنة”، كما تسعى جهات أخرى لضم منطقة جبل الكورد إلى تركيا، مثلما تم ضم لواء اسكندرون (هاتاي حالياً)، ومثلها فئة أخرى تنظر بعين الواقعية وتدعو إلى إعادة المنطقة إلى الدولة السورية في ظل توافق تركي – روسي – إيراني، وهذا يعني جلوس ممثلي تركيا مع ممثلي نظام الأسد في المستقبل القريب.
ومهما يكن، فإن استمرار الإرهابيين في التمدد ضمن المنطقة، تحت أنظار الجيش التركي، وفي ظل صمت المجتمع الدولي، وعدم قدرة الحراك السياسي الكوردي على القيام بواجباته ومسؤوليته، لن يخدم السلام والأمن والاستقرار في سوريا، وسيضر بالمعارضة السورية ضرراً بليغاً وكذلك لن يستفيد الأتراك من تواجد هؤلاء الإرهابيين على حدودها في منطقة جبلية وعرة.
إن على الحراك السياسي – الثقافي الكوردستاني القيام الفوري بما يلزم، سياسياً وكفاحياً وحقوقياً على كافة المستويات الاقليمية والدولية لوقف التغيير الديموغرافي لمنطقة جبل الكورد، قبل أن يفوت الأوان.
kurdaxi@live.com