د. ولات ح محمد
كان يمكن للمباراة النهاية لدوري أبطال أوربا التي جرت السبت الماضي 26/5/2018 بين ليفربول الإنكليزي وريال مدريد الإسباني أن تقدم سهرة ممتعة لجمهور الفريقين ولمئات الملايين حول العالم لولا التدخل العنيف الذي قام به مدافع الملكي سيرجيو راموس ضد مهاجم الريدز المصري محمد صلاح والذي نتجت عنه مغادرته المباراة بعد تعرضه لخلع في الكتف منعه من مواصلة اللعب مع فريقه، وهو ما أصاب جماهير الفريق بصدمة وألم، خصوصاً أن أداء كتيبة يورغن كلوب كان مميزاً حتى تلك اللحظة ثم تراجع بوضوح وانتهى الأمر بفريقه مهزوماً بثلاثة أهداف لهدف.
ليس مهماً لهذا المقال من فاز ومن خسر، أو هوية المعتدي وهوية المعتدى عليه؛ فلكل ذلك حسابات وأنصار ليس صاحب المقال واحداً منهم. ما يهم كاتب هذه السطور هو الجانب السلوكي والأخلاقي للمسألة، فالحادث لم يكن احتكاكاً عادياً كذلك الذي يحصل يومياً في كل مباريات كرة القدم وقد يؤدي أحياناً إلى إلحاق أذى بأحد اللاعبين من دون قصد أو تعمد، فكل هذا أمر طبيعي ومقبول ولا يلام اللاعب عليه لأنه جزء من لعبة كرة القدم. ما قام به راموس بحق صلاح في تلك المباراة (وبحق كثيرين سابقاً) لا ينتمي إلى تلك الحالة، بل هو عموماً سلوك معتاد لهذا اللاعب داخل الملعب وليس شيئاً خاصاً بما حدث في تلك المباراة بين اللاعبَين، وإنْ حاول بعضهم أن يصور المسألة على هذا النحو؛ فراموس يتصرف بهذه الطريقة في كل المباريات التي يلعبها، ولهذا عندما انضم إلى ريال مدريد عام 2005 لقبه زملاؤه في النادي بـ(إل لوبو)، أي الذئب، لكثافة شعره آنذاك وشراسته مع المنافسين. فهي خصلة معروفة لديه وهو مشهور بها، والمحظوظ من اللاعبين هو من ينجو من خشونته المتعمدة التي أوصلت نصيبه من البطاقات الحمراء إلى 25 ومن الصفراء إلى 201 بطاقة حتى الآن.
سيرجيو راموس لا تهمه سلامة اللاعب الخصم، ومن يشاهد لقطاته العنيفة على الفيديو لن يصدق أن هذا لاعب كرة قدم وأن ما يمارسه رياضة للإمتاع والاستمتاع والفوز النظيف. إنه دائما في حالة حرب مع الآخر: يضرب وجه خصمه بيده أو يضرب رأسه بكوعه في أية كرة مشتركة (كما فعل في المباراة ذاتها مع حارس مرمى ليفربول، وكان يستحق عليه الطرد)، وقد يضرب وجه اللاعب بقدمه أو يدوس على بطنه أو على صدره أو قدمه إذا سقطا معاً على الأرض، ولا مانع لديه من البصق على اللاعب أيضاً.
هذه المشاهد تتكرر مع راموس دائماً حتى باتت جزءاً أساسياً من شخصيته وسلوكه داخل الملعب، وتدل على أنه لا يفكر بسلامة زميله المنافس مطلقاً، بل يتخذ من هذا السلوك أداة تمكنه من الفوز حتى وإن كان على حساب كسر الآخرين أو حتى إصابتهم بالعجز. في مارس آذار الماضي قالت صحيفة ديلي ميل الشهيرة إن “راموس أقذر لاعب في دوري أبطال أوربا”، وكانت تشير إلى حصوله على 37 بطاقة منها 4 بطاقات حمراء. وكان بإمكان الصحيفة الاكتفاء بالقول إن راموس أكثر اللاعبين حصولاً على البطاقات في دوري الأبطال، ولكنها استخدمت عبارة “أقذر لاعب” للدلالة على خلو سلوكه من الأخلاق أيضاً، فالأمر لا يتوقف عند عدد البطاقات التي حصل عليها.
من جهته قال الاتحاد الأوربي للجودو في تغريدة على حسابه على تويتر: “إن الحركة التي قام بها راموس ضد صلاح وظهرت في الصور اسمها (Waki-gatame) وهي ممنوعة في لعبة الجودو ولكنها تجلب أبطال أوربا في كرة القدم”. في إشارة الوسيلة القذرة لتحقيق الفوز. أما مجلة (شترن) الألمانية فقد قالت: “إن تصرف سيرجيو راموس بتطويق ذراع محمد صلاح وإسقاطه في لعبة عنيفة تجعل منه أشبه بلاعب مصارعةِ محترفين وليس كرة قدم”. وإذا أضفنا تصريحات لاعبين بهذا الخصوص أدركنا أن الغرب قبل الشرق أدان ذلك التصرف لأنه بعيد عن الأخلاق، وليس لأنه ضد محمد صلاح؛ فلدى ذلك الغرب قيم (أبرزها الصدق) يصعب عليه تجاوزها في هكذا حالات.
أما بعض قومنا فقد ابتعدوا تماماً عن الجوهر الأخلاقي والسلوكي للموضوع وسمحوا لأنفسهم بالدفاع عن سلوك سيئ أدانه كل العالم فقط لأن صاحبه ينتمي إلى ناد يشجعونه. هؤلاء عشاق السياسة والتسييس لم يكتفوا بالدفاع عن سلوك راموس المرفوض، بل أنكروا على جمهور المعتدى عليه والجمهور الرياضي العام التعاطف معه في الحق، إذ اعتبر بعضهم هذا التعاطف (قومياً دينياً) متغافلاً عن إدانة الملايين من جمهور الغرب وصحافته لهذا السلوك، حتى قالت صحيفة (سبورت) الإسبانية إن “التدخل العنيف لراموس مع صلاح جعله واحداً من أكثر الأشخاص المكروهين على وجه الأرض”. أما هؤلاء ففي نظرهم كان على العالم أن يصفق لسلوك راموس حتى لا يُتهم بالتعصب لصلاح. وهذا قصور شديد في الرؤية واضطراب وقلب للمفاهيم وتسييس مقيت؛ إذ صار الحق عند هؤلاء على من يدين تصرف راموس المستهجن وليس على من يدافع عنه ويبرر له سلوكه الذي وصفه مهاجم الريدز سابيو ماني بأنه “لاـ أخلاقي”.
ما يعزز لاـ أخلاقية ذلك الفعل أن راموس بدلاً من أن يبدو عليه الأسف (كحالة إنسانية وأخلاقية ورياضية) ويذهب لمواساة زميله، بدا في الصورة سعيداً وهو يشاهد ضحيته يغادر الملعب، ومبتسماً ابتسامة المنتصر الذي حقق هدفه بأبسط طريقة ودون أن تكلفه حتى بطاقة صفراء. تلك هي المعادلة عند هذا اللاعب: المهم أن يفوز وألا يحصل على بطاقة، أما سلامة الخصم فليست ضمن حساباته مطلقاً. المهم ألا يحاسبه الحكم على شيء، أما ضميره فلا يؤنبه على فعلته حتى لو أصاب الخصم بعجز تام، بل قد يلجأ للعنف والإيذاء كوسيلة لتحقيق الفوز. وهنا يتم طرح السؤال حول مدى صلة مثل هذا السلوك بالأخلاق؛ فمن يلحق الأذى بغيره لكي يجلب لنفسه النصر يكن مختل الأخلاق دون شك.
لم أكن يوماً من مشجعي محمد صلاح أو متابعيه. ولو كانت الحادثة ضد أي لاعب في العالم أو لو كان المعتدي أي لاعب آخر غير راموس لكان موقفي هذا هو ذاته لأن المسألة لا تتعلق بحدث بين لاعبين، بل بسلوك غير رياضي وتصرف غير أخلاقي في موقع يُفترض فيه التنافس الشريف، خصوصاً أن الملايين من الأطفال والشبان يتابعون مثل هذه المباريات ويتأثرون بما يفعله المشاهير. ومثل هكذا سلوك ـ وخصوصاً عندما يتكرر ـ يعلّم أولئك النشء السعي للفوز بأي ثمن حتى وإن كان على حساب حياة الآخرين ومستقبلهم. وهذا ما أشار إليه نيمار داسيلفا النجم البرازيلي عندما قال: “راموس يمثل مثالاً مروعاً لأجيال كرة القدم؛ فهو بدلاً من الفوز في المباريات بشكل عادل يستخدم الطرق غير النظيفة التي تنافي الأخلاق”. أما بعض قومنا فيرفض إدانة سلوك راموس العنيف، بل يبرر له سلوكه ما دام يجلب الفوز للنادي الذي يشجعه.
إن من يدافع عن مثل هذا السلوك السيئ عموماً ـ بغض النظر عن اسم اللاعب وناديه ـ عليه أن يتوقع أن يرى ابنه أو ابن أخيه بعد سنوات يتصرف بالطريقة ذاتها ضد خصومه، أو يرى آخرين يتصرفون بذات الطريقة مع ابنه داخل الملعب، لأن هؤلاء الأطفال والشباب يقلدون أولئك النجوم ويجعلونهم أمثلة تُحتذى أكثر بكثير مما نتخيل. وعليه، فمن لا يستنكر مثل هذا السلوك اللاـ أخلاقي أو يشجعه أو يبرره فكأنه يقول لابنه أو لأخيه الصغير: بإمكانك أن تفعل الشيء ذاته لكي تفوز. وفي النتيجة ربما نشهد في ميادين الكرة وغير الكرة في السنوات القادمة جيلاً يمثل حالة اسمها ظاهرة راموس، قائمة على مبدأ: المهم أن تحقق هدفك، ولو كان على حساب حياة الآخرين ومآسيهم. علماً أن الأمر حينئذ لن يقتصر على الرياضة، بل سيشمل كل مجالات الحياة، وسيصبح المبدأ السائد هو: الغاية تبرر الوسيلة مهما كانت درجة قذراتها.
لم يكمل محمد صلاح مشاركته الأولى في نهائي دوري الأبطال، وكان يمكن أن تمنعه الإصابة من مشاركته الأولى مع منتخب بلاده في كأس العالم (والمشاركتان حلم لكل لاعب)، وكان يمكن أن يُحرم من اللعب مدى الحياة أيضاً (أتذكر هنا إصابة نيمار في كأس العالم الماضية عندما ركله أحد اللاعبين من الخلف في عموده الفقري، وكاد أن يحرم من اللعب مدى الحياة). فهل يستحق الفوز في مباراة أو بطولة أو مجرد الحصول على الكرة أن يقضي لاعب على مستقبل لاعب آخر ويتسبب له في مأساة أو عاهة لكي يفوز هو؟. وأي طعم سيشعر به إنسان سويّ لانتصاره وهو يعلم أنه كان على حساب مأساة إنسان آخر؟؟!!.
“كُرَة القدم أحياناً تظهر جانبها السيئ وجانبها الجيد أحياناً أخرى. أتمنى لك الشفاء العاجل.. المستقبل في انتظارك”. هكذا كتب سيرجيو راموس على حسابه الخاص مخاطباً محمد صلاح عقب انتهاء المباراة. ومن الواضح أن الجانب الجيد كان من نصيب راموس وهو الفوز بدوري الأبطال، أما الجانب السيئ فكان من نصيب صلاح الذي أصيب وغادر المباراة وخسر فريقه، وهذا طبيعي. أما غير الطبيعي فهو أن يُلحِق الأول بالثاني الجانبَ السيئ (الإصابة) لكي يحظى هو بالجانب الجيد (الفوز) دون اكتراث بمصير اللاعب الضحية، أو بالطريقة التي حقق بها الفوز. أما “مستقبل” اللاعب فلا أظن أن راموس كان يفكر فيه وهو يشد ذراعه ويمنعه من حماية نفسه من السقوط المؤذي. لم يفكر فيه للأسف إلا بعد عودته من الاحتفال بالفوز دون اكتراث بالثمن الذي دفعه الطرف المقابل، وتلك هي القضية.
عقب المباراة كتب يورغن كلوب المدير الفني لفريق ليفربول عبر حسابه على فيس بوك حسب موقع روسيا اليوم: “عزيزي راموس.. ربما بالنسبة لعشاق ريال مدريد أنت بطل، ولكن بالنسبة لغالبية محبي كرة القدم في جميع أنحاء العالم أنت سرطان لهذه اللعبة الجميلة”. من جهتي هذا ما وددت قوله في مقالي هذا: سرطان في لعبة جميلة.