خوشناف سليمان
ثمة علاقة وثيقة بين التضخم وقيمة العملة المحلية، إدراك كنهها يسمح الى حد بعيد معرفة جوهر العملية الإقتصادية. لضمان توازن مثالي للعلاقة، يلجأ البنك المركزي عادة إلى وسيلة تقليدية تتمثل في تحديد أسعار الفائدة. وهي أداة فعالة لمراقبة وضبط السيولة النقدية وتسيير السياسات المالية. في حالة رفعها، يتم كبح التضخم وجذب مزيد من الإستثمارات الأجنبية، التي تساعد على إستقرار العملة، أما في حالة خفضها، فيتوفر مناخ ملائم لتحقيق النمو وعدم هروب رؤوس الاموال. العملة، مثلها مثل أية سلعة اخرى، تتحدد قيمتها نتيجة العرض والطلب، فالكثير من كمية المعروض النقدي يؤدي إلى إرتفاع معدل التضخم، والقليل منه إلى إعاقة النمو. من جانب آخر، زيادة التضخم بإعتباره مؤشر لقياس وتيرة إرتفاع أسعار السلع والخدمات، تؤدي إلى إضعاف قدرة الناس الشرائية.
من هنا يسعى البنك المركزي دوما إلى تحديد مستوى مقبول لمعدل التضخم لحماية المستهلكين من آثاره السلبية. لأجل التوصل إلى ذلك يقوم البنك المركزي بتطبيق سياسات نقدية متعددة، منها على سبيل المثال، السياسة النقدية التقييدية والنقدية التيسيرية. في الحالة الاولى، يقوم البنك بالحد من المعروض النقدي، لجذب مزيد من الرساميل، أما في الحالة الثانية، فيقوم بطرح معروض نقدي متزايد، وتقليص الاقتراض للأعمال التجارية وللاستهلاك، بإعتبار أن تقليل الاقتراض يؤدي إلى الحد من الإنفاق، مما يعني تراجع الطلب على السلع والخدمات، وبالتالي يكون التضخم تحت السيطرة. بالتزامن مع ذلك، يقوم بخفض أسعار الفائدة لتسهيل الإقتراض، فيتم تنشيط الاقتصاد من خلال زيادة الاقتراض والإنفاق. والإنفاق بحد ذاته هو وسيلة فعالة لتحفيز الاقتصاد، وخاصة اذا كان موجهاً نحو مشاريع بناء وتطوير البنية التحتية.
نمو مثير للجدل
أثارت أرقام النمو الاقتصادي، التي أعلنتها هيئة الإحصاء التركية في بداية السنة، شبهات عديدة حول صدقيتها. فقد أعلنت الهيئة عن أحراز زيادة في النمو بنسبة 7.4% خلال عام 2017 وزيادة بنسبة 11.3% خلال الربع الثالث منه. وهو دون شك أمر يبعث الافتخار، ولكنه في حالة تركيا، يثير تسؤلات وشكوك جدية حول صحتها. وخاصة أنه يأتي في فترة، ضعفت فيه بشكل ملفت حركة السياحة في البلاد، وتراجع متوسط الدخل الصافي للفرد في البلاد إلى مستويات البلدان الفقيرة، مع إستمرار حالة الطوارئ وقمع الحريات، التي نشرت حالة من الفوبيا بسبب الاعتقالات التعسفية، والتي سببت حجب حرية أكثر من 60 ألف شخص. ولكي تتمكن الحكومة من تخطي الصعوبات الناجمة، قامت بتقديم حوافز إقتصادية ضخمة للشركات، وبإغراق السوق بقروض رخيصة وسخية بقيمة تزيد عن 60 مليار دولار من صندوق ضمان القروض ومنحها لأعمال وشركات تجارية متنوعة، وبشروط تسهيلية دون التدقيق في مجالات إنفاقها أو فرص إعادتها، رافقته تخفيضات ضريبية كبيرة، ساهمت بدورها في زيادة معدلات الاستهلاك. وعليه فأن النمو جاء كنتيجة مباشرة للحوافز والمنشطات القوية للحكومة. ولهذا يعتبره الخبراء بشؤون الإقتصاد على أنه نمو غير مستدام وغير ناضج. وقد أصدرت مؤسسة كابيتال ايكونوميكس الاستشارية في لندن، دراسة بهذا الشأن، قدمت من خلالها تحليل دقيق لتفاصيل الأرقام، وتوصلت إلى نتيجة مفادها، أن النمو التركي يستند بشكل أساسي على نمو قطاع البناء وعلى تراجع الصناعة في إنتاج القيمة المضافة، وتباطأ سوق العقارات، بإستثناء المشاريع الكبيرة، التي ترعاها وتمولها الحكومة بشكل مباشر. علاوة على ذلك هناك شكوك جدية حول مدى صحة الأرقام المعلنة وطريقة قياس نمو الناتج المحلي الإجمالي في البلاد، بعد إقدام مؤسسة الإحصاء في وقت سابق على تغيير طرائق حسابه إلى درجة يستحيل فيها إستخدام البيانات الاحصائية ومقارنتها بمثيلاتها لفترات سابقة. وينطبق الأمر نفسه على طرائق قياس التضخم.
هبوط تاريخي لليرة التركية
قد تتوافق الإحصائيات الآنفة الذكر والمفرطة بالتفاؤل، مع آمال ورغبات أردوغان الوردية، ولكنها لا تغير جوهر العملية الإقتصادية ولا تلغي حقيقة إنهيار الليرة التركية. في ذات السياق، فأن إستمراره في مشاحناته العقيمة مع الجميع، وإنتقادات مستشاريه الاقتصاديين، الذين دأبوا بتوجيهها في الآونة الأخيرة لوكالات التصنيف الائتماني العالمية، الذين حذروا من خطر نشوء أزمة محتملة، بأنها مؤامرة تحيكها قوى خارجية ضد تركيا الجديدة، لن تحسن المؤشرات الاقتصادية الأساسية، المثيرة للمخاوف والأخطار. في هذا الإطار، قامت وكالة ستاندرد آند بورز بتخفيض التصنيف السيادي لتركيا إلى -BB سلبي، منبهة إلى مخاطر التضخم وثقل الديون والاختلالات المالية، بما في ذلك تفاقم العجز الضريبي. وقد سبقه تصنيف آخر من جانب وكالتي موديز و فيتش للتصنيف الائتماني، اللتان صنفتا الديون التركية على أنها عالية المخاطر. من جانبه حذر صندوق النقد الدولي أيضا، من أن “السياسة المالية التركية تبدو فضفاضة ولا تحظى بمصداقية كافية”. كل ذلك، إضافة إلى معدلات التضخم المرتفعة، التي تجاوزت نسبة 11% على أساس سنوي، أدت إلى تدني قيمة الليرة التركية إلى مستويات قياسية مقابل الدولار، وصفه محللون بأنه “هبوط تاريخي”، حيث وصلت سعرها إلى نحو 4.5 للدولار الواحد في منتصف شهر ايار/مايو، أي بنسبة إنخفاض نحو 20% منذ بداية عام 2017 وخسارة ما يقارب الثلثين منذ عام 2012، عندما كانت سعرها 1.7 للدولار. لذا، فأن نزول قيمة الليرة بهذه الوتيرة المتسارعة، يلغي أية أهمية للنمو المذكور أعلاه. في هذا المنحى يمكن طرح تساؤل بسيط، لو افترضنا أن النمو ازداد بنسبة 11%، وفي الوقت ذاته فقدت الليرة قيمتها بنسبة 20%، فما هي ياترى نسبة الزيادة الفعلية للناتج المحلي الإجمالي قياسا بالدولار أو اليورو؟!
لسد عجز الموازنة، تقوم الحكومة عادة بإتخاذ اجراءات قاسية مثل زيادة الضرائب أو تقليل الدعم أو الإستدانة. والدولة مثلها مثل أي شخص آخر، تقترض المال بفائدة سنوية لتدفعها من ميزانيتها للسنوات القادمة، وتُعرف بخدمة الدين، وهي ومعها العجز تزداد في حالة قلة أو شحة الإيرادات، فتضطر إلى الاستدانة من جديد، فترتفع خدمة الدين، وهكذا دواليك تستمر العملية في حلقة مفرغة لايمكن الخروج منها بسهولة. على هذه الخلفية يدور اقتصاد تركيا في اطار حلقة مماثلة، ويتشكل مزيج خطير، يمتزج فيه عجز الميزانية العامة وتمويلها من خلال الاستدانة وتزايد خدمة الدين، والإعتماد على رأس المال المضارب. وفي الواقع، توفر هذه العوامل مجتمعة أرضية خصبة لنشوب أزمة إقتصادية خانقة، قد تعرض إقتصادها الى إنهيار محتوم. والارقام الواردة في البيانات الاحصائية لا تكذب، فقد ارتفع عجز ميزان المدفوعات الجاري منذ بداية السنة إلى ما يقارب 15 مليار دولار، وتراجع حجم الاستثمار الأجنبي المباشر الى أقل من 8 مليار دولار. بالتزامن مع ذلك، تدهورت ديون الشركات التركية، ليتجاوز حجمها الإجمالي 214 مليار دولار، وأرتفع إجمالي الدين الخارجي للبلاد في عام 2017 ليصل إلى نحو 438 مليار دولار، والذي يمثل نحو 52% من الناتج المحلى الإجمالي. كل هذه المؤشرات، إلى جانب تدهور العجز وتردي نوعية ومكونات الميزان التجاري، تجعل الليرة التركية أكثر حساسية وعرضة للمخاطر.
تقزيم دور تركيا
من أجل الحفاظ على حكمه الإستبدادي وسطوته المفروضة على مؤسسات الدولة، يسعى أردوغان، المهوس من فكرة النمو بأي ثمن، إلى توسيع صلاحياته وفرض نهجه التعسفي في جميع المجالات بما فيها البنك المركزي، حيث أعلن في وقت سابق، أنه يتعين عليه الإنصياع لأوامره بعد فوزه في الانتخابات المقبلة! وهو يعتقد، وفي تعارض واضح مع قوانين الاقتصاد المتعارفة عليها، أن ارتفاع أسعار الفائدة يسبب التضخم، وأنه كلما انخفضت أسعار الفائدة انخفض التضخم! وعقب هذه التصريحات تدنت قيمة الليرة من جديد لتصل إلى الحضيض.
من جانب آخر، فأن تأزم الوضعية الإقصادية وتوتر الأجواء السياسية والمخاطر الجيوسياسية المحاطة بتركيا، وخاصة بعد تدخلها العسكري السافر في عفرين الكردية في سوريا، تبشر بآفاق مظلمة لحكم أردوغان. ومن المؤكد أنها ستحدث تغيرات درامية في المستقبل المنظور. فتركيا في عهده وقبله لم تشهد قط ديمقراطية حقيقية، بل تتقلص مع مرور الزمن معاييرها المعروفة للجميع. يُضاف إلى ذلك، توتر علاقاته مع دول الاتحاد الأوروبي، التي تعرضت لإنتكاسة حادة بعد توسيع صلاحياته الدستوريه، والتي تعتبرها تلك الدول على انه اجراء يكرس مبدأ التفرد بالسلطة والقرار. في هذا الصدد يمكن التذكير بالأحداث التاريخية، المرتبطة بالعملات الوطنية لثلاثة بلدان هي تايلاند والمكسيك والأرجنتين في عقد التسعينات وسناريوهات إنهيارها. مجريات تلك الأحداث لها مغزى عميق، من حيث تشابه أوضاع تركيا اليوم مع أوضاع البلدان الثلاثة آنذاك، إذ كانت تعاني ايضاً من ارتفاع المديونية العامة ووجود كميات كبيرة من رأس المال المضارب speculative capitals، التي تتوخى الربح السريع فقط. كل ذلك جعلت عملاتها عرضة لهجوم مضاربي شرس ومنظم من طرف أصحاب رؤوس الأموال، فقاموا بسحبها، فتدهورت القروض وتدنت قيمة العملة وتصاعد التضخم بشكل حاد. فكانت النتائج كارثية، أفضت الى وقوع أحداث شغب عنيفة ومتواصلة، أدت في النهاية إلى سقوط حكوماتها. يبدو أن أردوغان أصبح يدرك المخاطر ويدرك أن أيام الرخاء باتت محدودة، لأن “الحلفاء” لن يسمحوا له، بكل تأكيد، التنعم طويلا بالتربع على العرش وتكديس وتراكم الأموال، متلذذاً بترف ورفاهية الحماية من حلف ناتو، بينما يتحالف في الآن ذاته مع أعداء الحلف! لذا فأن دعوة أردوغان بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية مبكرة في 24 يونيو القادم، والتي جاءت بعد تدهور العملية السياسية وتأزم السيرورة الاقتصادية؛ هي خطوة للهروب الى الامام وبمثابة دفن الرأس في رمال المأزق الاقتصادي.
في ضوء ما سبق يمكن التأكيد، بأنه قد تم البدء بتقزيم دور تركيا أو تقليصه وتم إدراجه في جدول أعمال مراكز وقوى المال العالمية.