بقلم : عنايت ديكو
• مما لا شكّ فيه، بأن العقل الجمعي وخاصة الأعلى، والعقل الكورداغي منه على وجه التثبيت والتحديد، قد تأثر تأثيراً انطوائياً كبيراً ومنزلقاً نحو القاع بسرعة كبيرة، يكون قد فاق سرعة الضوء نفسها، عابراً كل المسافات والعناصر الحيّة في طريقه نحو بواطن التفكير والمساحات الذهنية الشاملة، حاملاً معه تفاعلات كيميائية رهيبة باتجاه قاع السجال العقلي والروحي عند الكورداغي، وهو يتأمل في تفتيت الجغرافيات الانسانية أمام عينيه، ويُصوّر بعدسة التاريخ، جزيئات تلك الصور والمشاهدات الأليمة والحزينة والدراماتيكية، من على شاشات التلفزة ومن أعين الكاميرات الصحفية، حيث حلّ الخراب وحطّ الغُراب على عفرين، مرافقاً بأصوات وهلهلة اليأجوج والمأجوج والدمار الشامل، الى جانب جولاتٍ وصولاتٍ من الغزو الهمجي والتهجير المفتعل ومسلسل الفتوحات والسرقات الممنهجة، وتلغيم مفاتن العقل الانساني وسراديب الذات الكوردية، والتي أتت كلها كسيناريو واحدٍ ومنظم ومشترك بين اللاعبين كلهم،
وأتت أيضاً كمرافقاتٍ ضرورية لمشروعٍ جهنمي كبير وخطير، مشروع الاحتلال والعدوان التركي على منطقة عفرين، وكأنهم يعزفون سوياً سمفونية ” الوداع الأخير ” لمنطقة كورداغ في توزيعٍ متقنٍ وممتهن للأدوار والسوليهات. في المقابل وعلى ضوء ما حدث لنا في عفرين اثر هذه الفاجعة الأليمة، وبعد أن غابت السكرة ومجيء الفكرة، ترشّح الكثير والكثير من الأفكار والتصورات المتباينة والمختلفة،كلها تدعو وفي سياقات مشتركة، ذاك العقل الكوردي الأعلى، الى التحرك السريع وقيادة الصراع بذات نفسه لاستعادة زمام الأمور والحفاظ على التوازنات والخصوصيات والنقاط الارتكازية وماهيات شروط البقاء والوجود على هذه الأرض التاريخية للكورد والمسمىٰ بـ ” كورداغ “، ونزع تلك الألغام التي زرعتها الكيميائية الكوردية الفاسدة بين بواطن عقولنا وأضلاع شهدائنا وموتانا وبين رمّاننا وحبّات زيتوننا المقدس، فرحمة الله عليهم وعلينا وعلى كل شيء حيّ.
فما يتم تداوله اليوم وفي الشارع الكورداغي على وجه الخصوص، بات يُشكل أفقاً علنياً في زوايا النقاشات والحوارات والسجالات اليومية وبشكلٍ علني وواضح، حيث يتحدث هذا الشارع ويقول: أين هو ذاك العقل الأعلى لكورداغ … وكيف سنحافظ من خلاله على خصوصيتنا كنقطة جيوسياسية خاصة بنا … وهل سيكون مستقبلنا الأخير والنهائي في منطقة عفرين، مع الأعراب أم مع الأتراك … وما هي الاحتمالات والرغبات والتطلعات.؟ فالشارع الكوردي مثلاً بدأ يضغط وبشكلٍ قوي على الانتلجينسيا الكوردية، ويطلب من العقل الأعلىٰ، أن يكون جامعاً وشاملاً، ويتحلّى بالقدرة والمسؤولية الكُلّية، وأن يضع خارطة الأولويات نصب عينيه، ويكون بعيداً عن ساحة المهاترات والمراهنات الخاسرة، وأن يضع أمامه المصلحة العامة والخاصة والكلّية لمنطقة عفرين وحصراً، كـ حدودٍ وكوجود. والقيام بالطرح العلني للخارطة الوجودية لعفرين، والاعتماد على المحاكمات العقلية وبدون استحياء أو خوفٍ من هذا او ذاك، لما هو لنا فيهِ من خيرٍ وهدوء وسكينة وحقوق وواجبات في قادمات السنين والأزمان. فـكورداغ تطايرت بفعل التشظي والانشطار الزمكاني من يد عفريتٍ أخرس الى يد عفريتٍ آخر ومفترس، فعفرين اليوم، تُصارع ملكوت الموت، وهي على فوهة الاندثار والانتحار والفناء والضياع، فليس الموضوع هو ألا تخسر هنا … بل الموضوع هو ألا تندثر من الوجود وتحافظ على ذاتك الوجودية وعدم السقوط في قاع الاندثار .
على هذا العقل الكورداغي الأعلى، القيام بعمله التأسيسي والوظيفي، كخلاصة وعصارة للمنطق الجامع والشامل وتوزيع مهامات الانتلجينسيا على المفاصل الحيوية في الشارع الكوردي، طارحاً ضرورة توجيه وتحديد البوصلة الوجودية والاستراتيجية لمنطقة عفرين، والتعامل معها كحالةٍ جيوسياسية خاصّة في لوحة العلاقات الداخلية والاقليمية والدولية، والقيام بالمناقشات العقلانية لهذه العلامات الارتكازية في تأسيس منطقٍ كورداغي جامع وشامل، وعلى هذا العقل أن يأخذ بعين الاعتبار ، المتناقضات الكلية وألا يصطدم بالمصاعب والكتل الخرسانية الشعبوية المفرمِلة، فأي اصطدام غير محمودٍ بها، مهما كان صغيراً أو كبيراً، سيأخذنا الى طرح بدائلٍ باهتة ووقتية وإقصائية، مما سيحدّ في الأخير وبشكلٍ كبير من نشاطات هذا العقل الأعلى، وسنكون أمام كارثة أخرىٰ وأمام منصة التأجيل والبطئ والتسويف في طرح وإيجاد البدائل والتصورات والمبادرات العقلانيّة وإيجاد العلاجات الشافية.
هنا يتوجب على هذا العقل الأعلىٰ، مناقشة المساحات الكلية للمجتمع الكورداغي ومسحها مسحاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً وروحياً، وضرورة القيام بحالاتٍ اسعافية فورية وعاجلة، لوقف نزيف الدم وموجات الهجرة النازفة، والمساهمة الفعالة والجدّية لمساعدة المهجرين وعودة الخارطة الديمغرافية لكورداغ الى سابق عهدها، والانطلاق من مسلمات وبديهيات أساسية، هدفها الحفاظ على كورداغ من الضياع والاندثار .
فمن يراقب ويتابع الشارع الكورداغي العريض. يستطيع أن يُلخّصه كالآتي، حيث يَقول هذا الشارع: نحن ككورداغيين وخاصة بعد الذي جرى، حيث لا فرق عندنا بين المحتل الثالث والمحتل الثاني والمحتل الأول. ونقولها للجميع بما فيهم أولئك المحتلين، فاذا كانت لديكم حروباً وصراعات جانبية …؟ عليكم الذهاب بعيداً عن أرضنا وديارنا، وتصفية أموركم وحساباتكم البينية بالقرب من أراضيكم ومنازلكم ودياركم، فارحلوا عنا واذهبوا في حال سبيلكم. وهناك مثلٌ كورداغي مفاده: لتكن مصارعة الثيران والجواميس… بعيدة عن أرضنا وحقولنا وحواكيرنا.
المهم وفي الأخير ، فجلّ غايتنا وهدفنا هنا في مناقشة العقل الأعلى، هو إيجاد الطروحات والمخرجات العقلانية في رسم الخطوط العريضة والجريئة في تشكيل لوحة المصالح والتوازنات والبقاء والمحافظة على الذات الوجودية لأهلنا في كورداغ، لكي لا تقع هذه الجغرافية الكوردستانية في قاع الاندثار والضياع الأبدي. فعلى هذا العقل الأعلى مناقشة وابتداع وانتاج أدواتٍ معرفية جديدة، واستنباط ذهنيات مختلفة وواسعة المساحات عن تلك الذهنيات التي كنّا محتكمين اليها بحكم الغريزية القطيعية، والتي كنا نُحارب من خلالها طواحين الهواء الباردة، وذلك بفعل وتأثيرٍ كبيرين عبر الـ ” ريموت كونترول ” سواءً كان ذلك من داخل الحدود عندنا أو من خارجها.