د. ولات ح محمد
اليوم تكمل تجربة الاستفتاء التي خاضها الكورد في إقليم كوردستان نصف عامها الأول، وما زال الجدل كبيراً حول تلك التجربة وما زالت الآراء والمواقف حول جدواها وصحتها منقسمة بين من يرى فيها تعبيراً عن إرادة الكوردي وعن شخصيته القومية والسياسية المستقلة ويعد نتائجها وثيقة بيده سيبني عليها في قادم الأزمان، وبين من يرى فيها مغامرة غير محسوبة للتهرب من استحقاقات داخلية عرضت الكورد للعقوبات والحصار والإهانة. فهل أخطأ البارزاني حقاً؟ وأين؟.
إن النظر إلى تلك التجربة بعد مسافة زمنية دامت ستة أشهر بعيداً من المؤثرات العاطفية السلبيةً والإيجابية على اتخاذ المواقف قد يكون أكثر موضوعية وإنصافاً بحق تلك التجربة التي خاضها الكورد لأول مرة في تاريخ سعيهم لنيل حقوقهم أسوة بسائر شعوب العالم. وبغية تقديم رؤية موضوعية للحدث ينبغي النظر إليه من زوايا عدة كحق الكورد في الاستفتاء والوسيلة المستخدمة فيه وتوقيته وظروف البيت الداخلي والعامل الخارجي.
من جهة الحق ثمة شبه إجماع لدى الكورد شعبياً وسياسياً على حقهم في تقرير مصيرهم بما في ذلك حق الاستقلال. وما فعله البارزاني هو أنه بحكم موقعه الرسمي اتخذ قراراً بممارسة هذا الحق. وبالتالي كان الاستفتاء تعبيراً عن الحلم الأكبر المتمثل في تقرير المصير الذي ما زال وسيبقى يراود مخيلة كل كوردي في كل زمان ومكان، وكان لا بد لكوردي ما في زمن ما أن يخطو هذه الخطوة، وهو ما فعله البارزاني. ولتحقيق ذلك لم يلجأ الرئيس البارزاني إلى العنف مثلاً ولم يعرض شعبه للهلاك، بل اعتمد الوسيلة الأكثر نظافة وحضارية ومدنية وسلمية وديمقراطية وهي الاستفتاء، معبراً عن استعداده التام للحوار مع بغداد ودول الجوار والعالم. وبالتالي فإن الهدف كان مشروعاً والوسيلة لتحقيقها صحيحة وحضارية ومدنية. من هذه الناحية لم يرتكب البارزاني خطأ يستوجب النقد أو التنديد.
الاعتراض الأهم على إجراء الاستفتاء كان حول عدم مناسبة التوقيت. بغداد نفسها قالت عند صدور قرار الاستفتاء في حزيران الماضي إنها لا تنكر على الإخوة الكورد حقهم ولكن التوقيت غير مناسب. ثم لأسباب انتخابية وبضغوط إيرانية وبعد انتهاء حاجتها لأربيل في محاربة داعش تطور موقفها إلى المطالبة بإلغاء الاستفتاء ثم المطالبة بإلغاء نتائجه. الموقف الإقليمي (تركيا وإيران) كان موازياً ودافعاً للموقف العراقي، أما العواصم الغربية فإنها رأت أن التوقيت هو السبب الوحيد لاعتراضها أو تحفظها. وهو ما دفع البارزاني لمخاطبتهم سائلاً: إن لم يكن الوقت مناسباً لإجراء الاستفتاء الآن، فقولوا لنا ما هو الوقت الذي ترونه مناسباً؟. وهو السؤال الذي لم يجد له جواباً عند أي عاصمة غربية معترضة على التوقيت.
بعض الكورد رددوا بدورهم هذه النغمة وبصوت مرتفع وصاخب أحياناً. وهو أمر مثير للاستغراب لأن مفهوم التوقيت (صوابه وخطأه) عند الكوردي مختلف عنه لدى الآخرين؛ وعليه، إذا كان الآخرون يرون التوقيت خاطئاً لأنه يناقض مصالحهم، فما وجه خطئه لدى المعترضين من الكورد؟. فمن المعلوم والمسلم به أن الذهنية الحاكمة لدول المنطقة كانت وستبقى هي ذاتها في كل الأزمان ولن تتغير، وهي قائمة على مبدأ واحد هو رفض أي حق للكورد وقمع أي تحرك باتجاه حقوقهم سواء أحدث ذلك الآن أم بعد عشر سنوات أم بعد خمسين سنة. وبناء على هذا المبدأ هل هناك فعلاً وقت مناسب بالنسبة إليهم سيسمحون فيه للكوردي بإجراء الاستفتاء ومن ثم الاستقلال؟ الجواب: لا. إذن، مقياس التوقيت المناسب هو مدى مناسبته للظرف الكوردي. والتوقيت الذي جرى فيه الاستفتاء كان التوقيت الأنسب في كل التاريخ الكوردي، فالوقت الذي تكون فيه في أوج قوتك ويكون خصومك في أكثر لحظات ضعفهم، ويكون العالم كله بأمس الحاجة إليك وتكون مركز دعمه واهتمامه وإعجابه، يكون ذلك هو التوقيت المناسب لك.
التوقيت المناسب بالنسبة إلى جوار الكورد وخصومهم غير موجود ولن يأتي في أي يوم لأن المشكلة عندهم تكمن في الموضوع ذاته (الاستقلال) وليس في التوقيت. أما بالنسبة إلى الغرب فإن التوقيت الخطأ مرتبط بمصالحه الداخلية وبمصالحه مع دول الجوار الكوردي، وهي مصالح لن تنتهي في أي وقت قادم. ولذلك يبقى التوقيت المناسب مرتبطاً بظرف الكوردي وبقراره هو وليس بظروف الدول القريبة والبعيدة وبرغباتها التي لن تكون أبداً في مصلحة الكوردي. إذا راعى الكورد رغبات الدول المجاورة ومصالح الدول البعيدة فذلك يعني أنهم يجب ألا يفكروا بهذه الخطوة إطلاقاً. ما فعله البارزاني هو كسر هذه المعادلة التي ظلت فاعلة ومعمولاً بها مائة عام ويريدون لها أن تبقى كذلك. الاستفتاء قال للعالم القريب والبعيد إن للمسألة وجهاً آخر.
إذا كان الموقف السلبي الثابت للقوى الدولية من قضيتك هو ذاته منذ مائة عام، وإذا كانت مواقف الدول الإقليمية من حقوقك هي ذاتها منذ نشوئها، وإذا كان هذا أو ذاك لن يتغير يوماً ما فما وجه الخطأ أن يختار الكوردي التوقيت المناسب له هو ولقضيته وليس للآخرين ولمصالحهم؟. أليس الصواب الذي لا جدال فيه أن يختار الكوردي التوقيت المناسب له؟، لأن التوقيت المناسب لك هو التوقيت السيئ لخصومك والعكس صحيح أيضاً. هذه هي المعادلة التي عمل وفقها الرئيس البارزاني.
السؤال الآخر كان يطرح بخصوص البيت الداخلي الذي أخذ حيزاً واسعاً من النقاش والاختلاف بهذا الخصوص، فهل كان يمكن للبيت الكوردي أن يكون يوماً ما أكثر ترتيباً وتماسكاً مما كان عليه قبيل الاستفتاء؟. بالنظر إلى تاريخ الحركة الكوردية في جنوب كوردستان يبدو أن أكثر اللحظات التي شهدت تقارباً بين أطرافها هي فترة ما قبل سقوط النظام العراقي في 2003 وما بعده. وبالتالي لم يكن الوضع الداخلي بذاك السوء الذي يمنع السير بخطوة مهمة كخطوة الاستفتاء، بدليل أن كل القوى السياسية وكل جماهيرها توجهت إلى صناديق الاستفتاء. وإذا كان فريق سياسي ما أراد لأسباب خاصة به أن يبقى خارج الحكومة فذلك لا يشكل عائقاً أمام خطوة مصيرية كهذه؛ فماذا لو أن هذا الفريق بقي خارج الإجماع الكوردي لفترة طويلة؟ هل ينبغي ربط مصير الكورد وقضيتهم بفريق سياسي؟. وهل ينبغي أساساً وفي أحوال كهذه أن يكون الإجماع حاضراً في كل القرارات والخطوات؟.
عندما أجرى الاسكتلنديون استفتاءهم قبل نحو ثلاث سنوات كانت النتيجة “لا” للاستقلال عن بريطانيا بنسبة بسيطة جداً. وعندما صوتت القوى السياسية في برلمان كاتالونيا على قرار استقلالهم عن إسبانيا كانت النتيجة “تعم” للاستقلال بأغلبية بسيطة وبواقع 70 صوتاً من أصل 135، أي أن نصف القوى السياسية تقريباً في الحالتين كانت غير موافقة، وكانت مظاهرات الرافضين في كاتالونيا بحجم مظاهرات المؤيدين، ولكن لم يقل أحد إن الانقسام الكاتالوني والاسكتلندي يلغي حق الشعبين في تقرير مصيريهما سواء أكان القرار بنعم أم بلا؟. لم يكن ولن يكون الإجماع الكوردي شرطاً لازماً لاتخاذ أي قرار يخص مصيره؛ فمادامت هناك مؤسسات وآليات ديمقراطية (تصويت، انتخابات، استفتاء) فمن الطبيعي أن يقبل الجميع بنتائجها. أكثر من ذلك أن ما كان موجوداً من انقسام في الشارع السياسي الكوردي قد وحده الاستفتاء، ورأينا كيف أن قيادات الأحزاب المختلفة مع الحكومة وجماهيرها مضت بكل حماس إلى صناديق الاستفتاء وصوتت بكل فرح آملين أن يكونوا شركاء النجاح.
من كل ذلك نعود إلى سؤال العنوان: أين أخطأ البارزاني؟. في الواقع ودون تحفظ يمكننا القول إن إجراء الاستفتاء هو أفضل إنجاز يحققه الكورد في تاريخ سعيهم لإقامة دولتهم المستقلة تدل عليه ثلاثة أمور: الأول إصرار الرئيس البارزاني على إجراء الاستفتاء متحدياً كل التهديدات وكل الإغراءات التي قُدمت له، ربما حرصاً منه على تقديم وثيقة لشعبه قد تفيده مستقبلاً لتحقيق حلمه مادام الحلم ذاته غير قابل للتحقق الآن. الثاني هو سعي العواصم الثلاث (بغداد، أنقرة، طهران) بكل إمكاناتها لإلغاء الاستفتاء، ثم إصرارها بعد أن فشلت في ذلك لإلغاء نتائجه لعلم حكامها بأهمية الاستفتاء وخطورة نتائجه عليهم. الثالث هو سعي الحكومة العراقية بالتعاون مع كل من طهران وأنقرة لإضعاف حكومة الإقليم وقوات البيشمركة إلى أقصى حد ممكن حتى يتأخر نهوضها من جديد فلا يكون لنتائج الاستفتاء أثر فاعل في المدى القريب مادامت قد فشلت في إلغائها. لهذا كله ما كان للبارزاني في نهاية نضاله الطويل ومن موقعه الرسمي أن يقدم لشعبه أفضل من وثيقة الاستفتاء على الاستقلال مادام الاستقلال ذاته غير متاح الآن، فهل أخطأ حقاً في مسعاه؟.
تلك هي موجبات إجراء الاستفتاء كوردياً، وتلك هي مفاعيله الإيجابية على المستقبل الكوردي. أما ما حصل بعد الاستفتاء من فرض للعقوبات على الناس وهجوم على كركوك فله حديث آخر؛ فعندما تعمل كل ما تستوجبه اللعبة السياسية والدبلوماسية من حساب للمصالح والتوازنات لدى الأصدقاء والأعداء ولما تمتلكه من أوراق قوة ومواطن ضعف والتوقيت المناسب لك ولشعبك ولقضيتك، وتخلص إلى نتيجة تقول إنك رابح في خطوتك، ثم يفاجئك شقيق أو صديق أو حليف بأن يترك ظهرك مكشوفاً في اللحظة الحاسمة فإن ذلك لا يدل على خطأ في حساباتك أو إجراءاتك، وإنما “خطأ” أو انتهازية رخيصة في حساباتهم هم. وهو ما سيكون موضوعاً لمقال قادم.