عزت السعدني
مازلت أيها السادة فى مقعدى أتكلم وأحكى وأقول من فوق منصة قاعة المحاضرات فى نقابة الصحفيين أتحدث حديثا صحفيا وديا تربويا وتعليميا للصحفيين والصحفيات الجدد الذين يعدهم العزيز عبدالمحسن سلامة نقيب الصحفيين لدخول سلك النقابة بفكر صحفى خلاق وخلفية صحفية زاخرة بالفكر والتجارب الصحفية لكبار الصحفيين الذين أمضوا عمرهم كله ومازلوا من أمثالى يمارسون المهنة فى مقاعد الكبار فى صحفهم وفى فكرهم وفى تجاربهم العظيمة التى تركوها زخرا ونبراسا لأجيال وأجيال من الصحفيين والصحفيات فى بلاط صاحبة الجلالة..
أقول مازلت فوق المنصة أحكى وأقول.. ليفاجئنى صحفى شاب بقوله: أنا اسمى محسن عوض الله صحفى فى جريدة «الميدان» متخصص فى الشأن الكردى أريد أن أسألك سؤالا: نحن نعرف أنك سافرت فى أول رحلة صحفية لصحفى مصرى إلى بلاد الأكراد فى رحلتك العجيبة التى تحدثنا عنها الآن والتى بدأت بزيارة القدس والصلاة فى المسجد الأقصى وكنيسة القيامة.. وقابلت فى رحلتك هذه فى بلاد الأكراد زعيمهم الكبير الملا مصطفى البارازانى وكنت أول صحفى مصرى يدخل بلاد الأكراد ويقابل زعيمهم ويجرى معه حديثا صحفيا..
صورة نادرة للملا مصطفى البارزانى عندما كنت أزور بلاد الأكراد لأول مرة
هل لك أن تحدثنا الآن عن رحلتك العجيبة هذه.. ولقائك بالملا مصطفى البارازاني؟ زعيم الأكراد الكبير؟
>>>
قلت: عندما دخلت بنا السيارة.. مدينة اربيل فى شمال العراق.. لم أصدق عيناي.. فقد وجدت نفسى فجأة وكأننا قد اخترقنا عقارب الزمن ووصلنا الى مدينة من عصر هارون الرشيد بمآذنها وقبابها وناسها وفرسانها وأزياء هذا الزمان الذى ولى وراح إلى صفحات مدن الف ليلة وليلة..
صاح سائقى حمدان بلغة عربية سليمة: أنت ياسيدى فى مدينة أربيل.. أنت الآن فى بلاد الأكراد!
>>>
وضعت قدمى لأول مرة فى حياتى فوق تراب مشى فوقه خلفاء وقادة حولوا مجرى نهر التاريخ أكثر من مرة، ونساء صنعن رجالا عظاما وقادة آخرين أشعلوا حروبا وقتلوا بشرا وسرقوا شعوبا وأسروا أوطانا بحالها..
من أربيل ذهبنا إلى «رواندوز» .. مدينة كردية أخرى آية فى الجمال والحسن والبهاء.. كأنها قطعة من الجنة..
ومن «رواندوز» ذهبنا شمالا إلى «شقلاوة» أعلى الجبل.. ترى هل أنا فى حلم؟
أصحيح ما أراه أمامى من لوحات مرسومة.. جمال وبهاء وأشجار وشلالات مياه عذبة وكروم كأنها كارت بوستال.. ينقصها طابع البريد واسم المرسل إليه..
لم أكن أعرف أننى وأنا فى «رواندوز» هذه أننى كنت على موعد بعد إثنين وسبعين ساعة فقط مع أغرب مغامرة صحفية فى تاريخ حياتى كلها..
طلبت من رئيس المدينة أن أذهب إلى الشمال.. لكى أقابل الملا البارازاني.. وكان وقتها فى صدام عنيف سياسى ودموى وحربى مع النظام العراقى فى بغداد..
قال لى الرجل: نسأل القيادة فى بغداد؟
سأل الرجل.. وكان الجواب.. ماكو أوامر!
سألت: يعنى إيه ماكو؟
قال: يعنى بالمصري.. لأ!
قلت: إسألهم تاني..؟
سأل الرجل مرة أخري.. وتلقى نفس الجواب!
وأمضيت ليلة حزينة.. حائرا وحدى فى استراحتى المعلقة فوق الجبل.
فى الليلة الثانية طلب منى رئيس المدينة أن أسهر معهم نلعب الرامينو وهى لعبة فى الكوتشينة تسمى عندكم فى مصر «الكونكان»..
سهرت معهم وفى آخر الليل بعد الثانية عشرة قاموا وقمت وركبت سيارة رئيس المدينة وهو آخر سلطنة حتى أوصلنى إلى استراحتى فى أعلى الجبل..
>>>
دخلت.. أشعلت لمبة الجاز.. لأن الكهرباء كانت تنقطع كل ليلة فى منتصف الليل تماما.. ووضعتها على حافة النافذة العريضة.. ورحت أستعرض أمام عينى شريط رحلتى المثيرة من يوم أن خرجت من القاهرة حتى وصلت إلى بغداد.. وحتى وصل بى الركاب إلي.. شقلاوة.. هذه القادمة من كتاب ألف ليلة وليلة.. وكان السؤال الأكبر الذى يحلق فوق رأسى كغراب يتيم الأبوين: ما الذى أتى بى إلى هنا؟
ولأننى لم أجد جوابا.. وكنت أعرف أننى لن أجد جوابا.. أسلمت عينى للنوم بعد أن أدرت مفتاح لمبة الجاز على رقم ما قبل الإظلام..
لا أعرف كم ساعة نمت.. ولا أعرف هل كنت نائما أم كنت أحلم عندما سمعت طرقا على الباب.. من ياترى يأتينى فى مثل هذه الساعة المتأخرة من الليل وأنا وحدى معلق بين السماء والأرض داخل غرفة فوق الجبل.. حاولت أن أنسى أو أتناسى طرقات الباب ولكنها كانت تشتد وتقوى وتتكررأكثر فأكثر وأكثر.. وجدت إصرارا من الطارق على أن أفتح الباب.. ولكن هل أفتح الباب ومن أدرانى أن الطارق سوف ينال مني..؟
> > >
ولأننى ولدت مثل زهرة عباد الشمس دائما وجهها إلى الشمس أينما راحت وأينما سارت.. فقد قبلت التحدي.. هذا التحدى الذى قد يقودنى إلى الهلاك.. وربما إلى خط النهاية وما خط النهاية فى الحياة إلا هلاكي..!
قمت مترددا ورفعت درجة إضاءة لمبة الجاز درجتين.. وسألت: من وراء الباب.. من الطارق؟
لم يرد أحد..
رفعت صوتي: من الطارق؟
لم يرد أحد..
رفعت صوتى حتى أصبح صراخا: من بالباب؟
جاءنى صوت يتحدث بلغة عربية سليمة: ألست أنت عزت السعدنى الصحفى القادم من القاهرة وتريد مقابلة الملا البارازاني؟
قلت من وراء الباب: نعم أنا هو..!
قال: أنا قادم إليك من عنده.. أحمل لك رسالة من الملا مصطفى البارازانى نفسه بخط يده..
قلت فى نفسي: الملا البارازانى نفسه الذى أريد أن أذهب إليه..
فتحت الباب دلف بسرعة الى الداخل رجل طويل القامة فوق وجهه لثام يخفى كل ملامحه..
للحق ارتبت للحظة.. ولكنى تمالكت نفسى وقلت له بصوت مرتعش: أين الرسالة؟
قال: إليك هي..
أمسكت الرسالة ورحت أقرأها على ضوء اللمبة نمرة خمسة..
كانت الرسالة تقول باللغة العربية الفصحي: لقد تتبعنا خطواتك منذ وصلت إلى بغداد وحتى وصولك إلى شقلاوة وعلمنا أنك تريد لقاءنا ولكن بغداد رفضت.. وقد أرسلنا إليك مبعوثنا وهو شخص موثوق به.. سوف يحملك إليناويعود بك قبل أن تشرق الشمس..
وجدت نفسى دون تفكير كأننى أتحرك بالريموت كونترول أخلع ثياب النوم وأرتدى ثياب الخروج..
قلت لمرافقي: هيا بنا..
قال لى مرافقي: لا تطفئ المصباح دعه مضاء.. حتى لايتصور أحد أنك خرجت..!
قلت: هو مضاء فى مكانه.. وبدأت رحلة المجهول..
لم تتركنى غربان الظنون ومعها محلقة بوم الهواجس لحظة واحدة.
راحت تلاحقنى بألف سؤال وسؤال: إلى أين أنت ذاهب أيها الشاب المندفع.. أنت غريب هنا عن بلدك.. حتى جريدتك نفسها لاتعرف أين أنت.. هل نسيت أمك.. رفاقك.. حبيبة قلبك بطلة قبرص التى عشت فى بيتها والتى تنتظر عودتك إليها.
أيقظنى من طيور الظلام مرافقى الملثم الذى لا أعرف ملامحه ولا حتى اسمه عندما قال: ها قد وصلنا إلى مربط البغال..
سألته: أسنركب بغالا؟
قال : فى الجبال لا يوجد أفضل من البغال هيا امتطى واحداً وأسرع..
برشاقة أحسد نفسى عليها الآن قفزت فوق بغل يزوم وينفر زفرات هواء من منخاريه.. وركب هو واحداً ثم انطلقت خلفه.. قال لى : لا تخف البغل يعرف طريقه جيداً..
سألت : ومن يرى فى هذه الليلة الحالكة السوداء ؟
قال : البغال ترى فى الظلام أفضل !
مضينا فى دروب مظلمة فى قلب جبال أكثر ظلاماً وأكثر ظلمة.. لا أعرف كم من الوقت استغرقنا.. حتى وصلنا أخيراً إلى مبنى لم أتبين ما هو وسط أستار الظلام.. حيث وجدنا سيارة جيب مكشوفة كأنها فهد يتخفى فى السواد يريد أن ينقض على أول فريسة.. تركنا البغال وركبنا السيارة التى انطلقت دون أضواء إلى طريق غير مرصوف وسط الجبال والظلمة.. لا أعرف كم من الوقت مضي.. حتى وجدت سيارتنا المظلمة المطفأة الأنوار تدخل من طريق مرصوف ومنه دلفت إلى مبنى مضاء.. على الباب كان ينتظرنا من ؟
الملا على البارازانى بنفسه..
كان لقاء حاراً بين صحفى شاب الذى هو أنا.. وبين زعيم الأكراد الكبير الملا مصطفى البارازاني…
تحدثنا وتحاورنا.. وكتبت كل ما قاله فى كراسة معي.. وشربنا شايا أخضر.. وأكلنا عنبا أسود وبلحا أحمر..
وقال لى والله ياأخى بلغة عربية سليمة ـ إنه درس فى الأزهر الشريف فى القاهرة وله بها ذكريات جميلة.. وأصدقاء يعزونه ويعزهم..
وقال لى القاهرة وحشتنا كثيراً..
وحملنى رسالة إلى القادة فى القاهرة وبالذات إلى الرئيس أنور السادات ـ رئيس مصر ايامها ـ لكى يقف مع الأكراد.. أو على الأقل يساعدهم فى حكم ذاتى لهم فى إطار الدولة العراقية.. ودعنى بعناق حار…
وعدت من حيث أتيت.. بنفس السيناريو..الذى رتبه رجاله.. الجيب ثم البغال.. ثم استراحتى المعلقة فوق الجبل فى شقلاوة.. قبل أن تشرق الشمس.. كنت فى فراشي..
أنا أحكى والقاعة كلها : هس.. هس
صحوت على طرق عنيف هذه المرة.. كان القادم هو رئيس المدينة.. فتحت الباب وأنا أفرك عينى من قلة النوم.. بادرنى بقوله : يا عزيزى لقد واصلت طول الليل الاتصال ببغداد لكى يسمحوا لك بالذهاب إلى الشمال لكنهم كرروا.. رفضهم.. أنا آسف.. عليك أن تعود اليوم إلى بغداد .. أنت مطلوب هناك.. ضحكت فى سرى دون صوت وقلت له: معلهش ماليش حظ..
ولكن غراب البين وهو يحلق فوق رأسى عندما أغرقت فى بحر من بحور الحيرة والشك والظنون.. فاجأنى هذه المرة بخاطر غريب مثله : ياعزيزى ربما ما حدث ليلة الأمس كان كله مجرد حلم أو حتى كابوس ؟
جريت إلى كراستى التى أكتب فيها أحاديثى عادة وحواراتى وملاحظاتي.. لأجد حوارى مع الملا البارازانى بخط يدى يملأ نصف الكراسة..
تنفست الصعداء وقلت لمرافقى رئيس المدينة : أنا جائع جداً.. أريد أن أفطر فولا وبيضا وجبنا..
قال : سنفطر معا مع قائد القاعدة العسكرية فى رواندوز .. هيا بنا..
آخر مشهد فى الرحلة العجيبة.. عندما عدت الى القاهرة وكتبت حوارى مع الملا البارازاني.. وقدمته إلى الأهرام جريدتي.. وأنا أفرك يدى جذلاً ولكنه لم ينشر.. والسبب هذه المرة أن القيادة السياسية فى القاهرة لا تريد أن تغضب رئيس العراق عبد الرحمن عارف (وهو الرئيس الثالث للعراق) والذى كان يزور مصر وقتها.. يا سبحان الله!
ويتكرر سوء الحظ السييء مع السبق الصحفى الثانى مثلما حدث مع السبق الصحفى الأول فى حوارى مع قائد الجانب التركى فى جزيرة قبرص يوم زيارة الرئيس مكاريوس.. للقاهرة !
وخبطتان فى الراس توجع.. وفى رحلة واحدة بل فى أول رحلة صحفية أقوم بها فى حياتي.. ولكن كان عزائى الوحيد.. أن عمنا وتاج راسنا الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام وقتها قال لى مواسيا : يا عم عزت.. الحديث الذى لا ينشر أهم من الحديث الذى ينشر.. ولم أفهم يومها مقصده إلا بعد أن كبرت.. وعدت أكتب حكاية أول سبق صحفى فى حياتى لم ينشر.
تدوى القاعة بالتصفيق .. ويحمر وجهى كأننى مازلت ذلك الشاب الصغير الذى شاء قدره أن يذهب إلى الرحلة الغريبة والمغامرة العجيبة!
هذه مغامرة صحفية كدت أفقد حياتى بسببها ولكن الله سلم .. وانتهت على خير عندما حملتنى البغال فى آخر الليل إلى لقاء لم أكن أتوقعه مع الملا مصطفى البارازاني.
نقلاً عن صحيفة ” الأهرام ” الدولية المصرية، 24-3/ 2018
عزت السعدني: صحفي مصري كبير