ظاهرة الاستجداء في الخطاب السياسي الكوردي

سليم عمر *

إذا كانت الحركات السياسية ضرورة ، تفرزها ظروف و عوامل معينة ، تعيشها المجتمعات البشرية ، و   إذا كانت هذه الحركات تعبيرا  واضحا عن تلك الحالة ، فإن من المفروض أن يأتي الخطاب السياسي لها ، متلائما و منسجما مع أمرين اثنين :
1 – الظروف الموضوعية السائدة .

و المتمثلة بنوعية النظام السياسي القائم ، و ثقافته المعتمدة ، و القيم التي تحكم العلاقات الدولية .

2 – الظروف الذاتية لهذه الحركات .

و المتمثلة بمستوى القوة و الوعي و وضوح الرؤية لدى قيادات و جماهير هذه الحركات ، و ما تحظى به من دعم و إسناد في الداخل و من الخارج ، و ما تملكه من أدوات ، و وسائل ، تستطيع بها أن تدافع عن نفسها ، و أن تواجه بها ما يعترض سبيلها من مصاعب .
و مع أن كوردستان قد تم تقسيمها و استعبادها  لقرون خلت ، و أن المجتمع الكوردي قد عايش ظروفا تباينت في هذا القسم عن الآخر ، و أنه كان من الطبيعي أن يختلف الخطاب السياسي في هذا الجزء عن غيره من الأجزاء ، إلا أن أجزاء كوردستان كافة اشتركت في عاملين اثنين :
1 – إذا استثنينا عهود الحكم الاسلامي ، و ما أعقب العهد العباسي من صراع الولاة ، و تناوبهم على الحكم ، فإن كوردستان عاشت خمسة قرون من حكم القهر و الظلام  و العبودية ، هي عمر الخلافة العثمانية ، حيث تم فيها استعباد المجتمع الكوردي ، و زرع ثقافة العبودية بين أبنائه .
2 – مع انحسار العهد العثماني ، فإن الوضع الكوردي ، لم يطرأ عليه تغير ملحوظ ، باستثناء أن القبضة العثمانية على المجتمع الكوردي شهدت فترات من التراخي ، في الوقت الذي تم فيه تشديد تلك القبضة ، مع تقسيم كوردستان للمرة الثانية ، و سيطرة أنظمة قومية متخلفة و مستبدة ، على المجتمع الكوردي ، تعاملت بقسوة مع الكورد ، و رسخت ثقافة الخوف و العبودية في نفوسهم ، بشكل منظم ، و ممنهج .
و إذا كان هذان العاملان ، قد أثرا بشكل واضح ،  و فعال ، في لهجة ، و نبرة ، و مستوى الخطاب السياسي الكوردي ، و تبدّله تبعا للمستجدات ، و بروز ظاهرة الاستجداء في هذا الخطاب ، و ترسخه ، فإن حديثنا سيقتصر في هذه العجالة من الدراسة على كوردستان سوريا ، و ذلك لأن دراسة سمات هذا الخطاب لدى الحركة القومية الكوردية على مستوى الأجزاء كافة ، تتطلب بحثا أشمل و أوسع ، و إلماما باللغتين التركية و الفارسية من ناحية ، و من ناحية أخرى ، فإنه و على الرغم من القاسم المشترك ، الذي يجمع الحركة القومية الكوردية ، إلا أن كل جزء عايش ظروفا و وقائع و أحداثا ،  تباينت مع ما حدث في بقية الأجزاء ، كما أن أساليب النضال أخذ طابعا خاصا في كل جزء ، كان له هو الآخر أثره في بروز هذا الخطاب ، بهذه السمة أو تلك .
إن عودة إلى الوراء ، و بمقدار نصف قرن بالتحديد ، حيث تأسس أول تنظيم سياسي كوردي ، سنرى أن الواقع السياسي  لسوريا ، قد انقلب رأسا على عقب ، و لما لم يمض على عملية التأسيس غير عام واحد ، فقد دخلت البلاد مرحلة الوحدة مع مصر ، حيث تم فيها تعطيل البرلمان ، و حل الأحزاب السياسية ، و قمع الحريات الفكرية  ، و تأسس نظام سياسي استند على الجيش ، و على الأجهزة الأمنية ، و نالت الحركة الكوردية ، ما نالته التنظيمات السياسية الأخرى ، من  قمع و ملاحقة ، و زج في السجون ، و شيوع لثقافة الخوف ، و فيما بعد و مع استلام البعث للسلطة بعد ذلك بسنوات خمس ، بما في ذلك فترة الانفصال ، التي أسست لأفكار و توجهات عنصرية حاقدة بحق الكورد ، فإن الوضع الكوردي ، انحدر نحو الأسوأ ، فبعد أن كان القمع يطال القوى السياسية على حد سواء ، و دون تمييز ، فإنه أخذ طابعا جديدا ، تميز بمحاربة الكورد ، و حركتهم التحررية ، و هدف إلى القضاء على الخصوصية القومية للكورد ، و ذلك بشكل منظم و مستمر ، و وفق برامج و دراسات معدة مسبقا .
و إذا أضفنا إلى الوضع السياسي الذي ساد سوريا خلال هذه العقود ، الموقف الاقليمي من القضية الكوردية ، و  السمات التي اتسمت بها العلاقات الدولية خلال الحرب الباردة ، و ما شهدته من سباق بين الكتلتين على كسب الأنظمة ، على حساب معاناة الشعوب ، و القضايا الإنسانية ، فإن الكورد ، و معهم حركتهم القومية ، باتوا معزولين عن أي غطاء من التأييد و الدعم الخارجيين ، لا بل إن تعتيما كاملا جرى بحق هذا الشعب و قضاياه ، و ما تعرض لها من مظالم .
و في هذا الواقع المحبط ، و الظروف الصعبة ، تشكّل الخطاب السياسي الكوردي ، و أخذ سماته الأساسية التي لم يخرج عنها طوال خمسة عقود ، فتميز بالمرونة إلى حد المطاوعة ، و بالحذر إلى حد الفزع ، و بالضبابية إلى حد فقدان الرؤية ، و بالضعف إلى حد الهشاشة ، و بالاستجداء إلى حد التسوُّل و التوسُّل ، و خلال هذه العقود كلها ، فإن هذا الخطاب ظل يدور في دائرة ، شكلت خطوطا حمراء ، رسمتها القيادات الكوردية لنفسها ، و حول نفسها ، بعد أن تعرفت بالتجربة ، و باستقراء مزاج الأنظمة – إذا لم نذهب أبعد من ذلك – على الحدود الفاصلة التي يتوجب عليها التوقف عندها ، فظلت تتقيد بها ، و لم تخرج عنها ، في الوقت الذي يتطلب فيه من أية حركة سياسية أن تراجع مواقفها ، و برامجها ، و أساليب نضالها  ،  و اللغة التي تخاطب بها جماهيرها ، و المحافل السياسية ، كلما استجد لديها جديد ، و بالنسبة إلى الحركة الكوردية في هذا لجزء ، فإن تطورات مهمة حدثت في الخارج ، و في الوضع الكوردي ، و في الداخل أيضا :
1 – مع انهيار المنظومة الاشتراكية في مطلع التسعينيات من القرن الماضي ، فإن العلاقات الدولية ، شهدت تبدلا لصالح الاهتمام بالقضايا الانسانية ، و مع تأكيد الدول المؤثرة في السياسة العالمية على مصالحها ، فإنها عملت على نشر ثقافة جديدة ، كما أن المرحلة التي أعقبت ذلك شهدت اختفاء الكثير من الأنظمة الدكتاتورية ، و انحسار الدعم عن من تبقى من هذه الأنظمة .
2 – و قد حدثت تطورات مهمة في الشأن الكوردي أيضا .

فقد حقق الكورد في كودستان العراق مكاسب مهمة ، شكلت حافزا كبيرا لبقية الأجزاء ، كما أن القضية الكوردية ، خرجت من العزلة التي حاولت الدول المقتسمة لكوردستان فرضها عليها ، و بات العالم أكثر قربا من هذه القضية ، و اكتسبت المزيد من المتفهمين و المتعاطفين ، و المؤازرين لها .
3 – و جاءت انتفاضة الثاني عشر من آذار   2004  ، لتشكل منعطفا كبيرا و فرصة حقيقية  نحو انتقال هذه الحركة إلى مواقع جديدة .

فقد أظهرت الجماهير الكوردية من الحماس و التوحد و التضحية ، ما يستحق الإعجاب و الثناء ، و  كان لذلك أثره البالغ في اكتساب الحركة الكوردية مزيدا من التعاطف و التأييد في الداخل و في الخارج ، إلى جانب أنها اكسبت هذه الحركة ثقلا و وزنا إضافيين في الساحة السياسية  .
و قد  كان من المفروض أن تقف هذه الحركة عند هذه التطورات ، و أن تستثمرها ، و أن تحدث من التغيير في لهجة و أسلوب و سمة خطابها ، بما يتوافق و هذه المستجدات ، إلا أنها و بدلا من الارتقاء بنفسها إلى مستوى الحدث –  و بشكل خاص حدث الانتفاضة – للإمساك بزمام الأمور، و دفع القضية الكوردية في هذا الجزء إلى مواقع جديدة ، و انتزاع مكاسب تتناسب مع حجم الحدث و التضحيات التي قدمتها الجماهير ، إلا أنها حولت نفسها إلى كابح لوقف الاندفاع الكوردي ، و إلى أداة لتفريق الجماهير و تهدئتها و إعادة تدجينها  ، تحت غطاء من الذرائع الواهية ، و وعود أمنية كان من المفروض عدم الركون إليها ، و عملت فيما بعد على طيّ هذه الصفحة المشرقة ، للتغطية على دورها المقصر ، و للعودة إلى الروتين الذي دأبت عليه خلال هذه العقود المنصرمة من وجودها ، و من غير أن تبدل من أساليب العمل ، و سمة الخطاب .

لا بل إن هذا الخطاب ظل محافظا على السمات التي أتيت على ذكرها حتى في ذروة الأحداث ، و قد اخترت منه نماذج لمختلف تنظيمات هذه الحركة ، في الجبهة ، و في التحالف ، و في التنسيق ، و لمنظماتها في الخارج ، و هي مقالات ، و بيانات ، و بلاغات ، صدرت بعضها قبل الانتفاضة ، و أخرى بعدها :
–  (  استعرض الإجتماع واقع شعبنا الكوردي في سوريا و الذي لا يزال محروما من أبسط حقوقه القومية العادلة بل و طبقت بحقه مشاريع عنصرية و تدابير استثنائية عرقلت تطوره و كبلته عن أداء دوره الوطني  بالشكل المطلوب  ) .
–  ( و في الختام طالب النداء الذي أصدرته منظمة حزبنا في ألمانيا الرأي العام ، و الحكومة الألمانية بممارسة الضغوط على الحكومة السورية لإيجاد حل ديمقراطي سلمي للقضية الكوردية في سوريا )
–  (  إننا نأمل منكم يا سيادة الرئيس الإيعاز ، بإلغاء مثل هذه المشاريع )
–  ( نرجو أن لا تكون هذه الأساليب هي التي يتم التعامل بها معنا )
–  (  إننا نناشد سيادة الرئيس للإيعاز للإفراج عنه ، و إطلاق سراحه )
–  ( و من هنا فإننا في الحركة الكوردية قي سوريا في الوقت الذي نثمن فيه عاليا هذه المبادرة الإيجابية من سيادته ، نأمل من سيادته الإيعاز بالإفراج عن كافة المعتقلين ) .
–  ( معالجة الأحداث بحكمة و تعقل ، و محاسبة المسؤولين عن قتل العديد من المواطنين حتى يمكن إشاعة الاستقرار بين الجماهير الكوردية بشكل خاص و السورية بشكل عام ).
–  (  نناشد السيد رئيس الجمهورية الوفاء بوعده ، و إيجاد حل لهذه المشكلة ، تعزيزا لوحدة الصف الوطني  ) .
لا بل إن أحد هذه التنظيمات تأثر بمصطلحات النظام ، فراح يضمنها خطابه :
–  (  اللجنة المركزية عقدت اجتماعها بغياب ……….

لسفره إلى خارج القطر ) .
و قد يخرج علينا من يقول إن هذه النماذج منتقاة ، و ما هي إلا غيض من فيض ، و هو محق في ذلك ، و لكن الحقيقة أيضا ، أن هذا الغيض هو من فيض يماثله أو يطابقه ، و أن أشد هذا الخطاب ثورية ، و  حدّةً ، ما انتهى بمفردات : نطالب ، نستنكر ، ندين ، ندين بشدة ، و هي عبارات لم تعد تزعج النظام ، طالما أنها لا تحرك ساكنا.
و إذا كانت مستجدات الأوضاع ، و الظروف المختلفة ، لم تُخرج هذا الخطاب السياسي من ركوده ، و دورانه في الفلك الذي ظل يسبح فيه طيلة هذه السنوات ، و لم تستطع أن تمسح عنه سمة الاستجداء ، فأين كان دور الفئات الشابة و المثقفة التي ظلت ترفد هذه الحركة ، و التي وجدت طريقها إلى تنظيماتها في كل مرحلة من عملها ، و ما الذي قدمته و أضافته المجموعات المنسلخة عن أحزابها إلى هذا الخطاب السياسي ، و هي التي تمردت على قياداتها ، و اتهمتها بالانبطاحية ، و التخلف عن الأحداث ، و الاستسلام للواقع .
و في الحقيقة ، فإن الفريقين ، لم يقدما جديدا ، و لم يشكلا بديلا للأطر الكلاسيكية ، و للخطاب المكرر الممل .

فالفئات الشابة المثقفة ، التي اندفعت إلى الانخراط في العمل التنظيمي الكوردي ، انتهى بها المطاف إلى حالتين اثنتين :
1 – قسم اندفع إلى الانخراط في هذا التنظيم أو ذاك ، و كله  طموح ، و أمل ،  بأن يدفع بالتنظيم إلى موقع ينسجم فيه مع التغيرات على الأرض ، فيبدل في خطابه ، و أساليب عمله ، و ظل مخلصا لتوجهاته ، إلا أنه وجد نفسه غريبا في محيطه ، و تم الدفع به خارجا ، أو أنه آثر السلامة فاندفع إلى الخارج بنفسه .
2 – و قسم آخر لم يكن في الأصل يمتلك رؤية واضحة لواقع الحركة ، و لجوانب الخلل الذي تعاني منه ، و ضرورة معالجة تلك الجوانب ، و الأساليب الكفيلة لذلك ، و لهذا فإن هذا القسم سرعان ما و جد نفسه يندمج في الوضع القائم ، و يتحول إلى جزء من التركة و المشكلة .


أما هذه المجموعات التي انقسمت على قياداتها ، فإنها هي الأخرى ، لم ترسخ لأساليب جديدة في العمل ، و لم  تعمل على تأسيس خطاب سياسي جديد ، و مدروس ، و منسجم مع الواقع الكوردي ، و الظروف المحيطة ، لا يتجاوز ذلك ، و لا يتخلف عنه ، و ذلك  لأن العناصر الفعالة من هذه المجموعات ، لم تكن تهدف إلى التغيير أصلا ، و إنما ركبت موجة الشعارات ، للوصول إلى مآرب شخصية لا قيمة لها بكل المقاييس ، و لهذا  فإن الأمر  لم يطل بها حتى أدارت ظهرها لليافطات التي رفعتها ، و عادت إلى القيادات التي تمردت عليها ، فتمترست خلفها ، أما  ما تبقى منها ، فقد نكصت على أعقابها ،  تبتلع  مرارة الحيرة ،  و الخيبة.
لقد تكرست ثقافة العبودية في المجتمع الكوردي ، على مدى قرون ، و جاءت الحركة الكوردية لترسخ من هذه الثقافة ، و يبدو لي ، أن وقتا غير قصير سينقضي ، قبل أن تنفض هذه الحركة عن نفسها ظاهرة الاستجداء في خطابها السياسي ، و قبل أن تخرج إلينا بخطاب واقعي ، و موزون ، يتماشى مع الحدث ، لايسبقه ، و لا يتخلف عنه.
——-
* كاتب كوردي .

شارك المقال :

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

اقرأ أيضاً ...

اعتبر الزعيم الكوردي رئيس الحزب الديمقراطي الكوردستاني مسعود بارزاني، يوم الجمعة، أن الارضية باتت مهيأة لإجراء عملية سلام شامل في منطقة الشرق الأوسط للقضية الكوردية. جاء ذلك في كلمة ألقاها خلال انطلاق أعمال منتدى (السلام والأمن في الشرق الأوسط – MEPS 2024) في الجامعة الأمريكية في دهوك. وقال بارزاني، في كلمته إنه “في اقليم كوردستان، جرت الانتخابات رغم التوقعات التي…

اكرم حسين في خطوة جديدة أثارت استياءً واسعاً في اوساط السكان ، تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي قراراً منسوباً لهيئة الاقتصاد التابعة “للإدارة الذاتية” برفع سعر ربطة الخبز من 1500 ليرة سورية إلى 2000 ليرة سورية ، وقد جاء هذا القرار، في وقت يعاني فيه اهالي المنطقة من تهديدات تركية ، وضغوط اقتصادية ، وارتفاع غير مسبوق في تكاليف المعيشة….

عبدالله ىكدو مصطلح ” الخط الأحمر” غالبا ما كان – ولا يزال – يستخدم للتعبير عن الحدود المرسومة، من لدن الحكومات القمعية لتحذير مواطنيها السياسيين والحقوقيين والإعلاميين، وغيرهم من المعارضين السلميين، مما تراها تمادياً في التقريع ضد استبدادها، الحالة السورية مثالا. وهنا نجد كثيرين، من النخب وغيرهم، يتّجهون صوب المجالات غير التصّادمية مع السلطات القمعية المتسلطة، كمجال الأدب والفن أو…

صلاح بدرالدين في البلدان المتحضرة التي يحترم حكامها شعوبهم ، وعلماؤهم ، ومفكروهم ، ومثقفوهم ، تولى مراكز الأبحاث ، والدراسات ، ومنصات الحوار الفكري ، والسياسي ، والثقافي ، أهمية خاصة ، وتخصص لها بشكل قانوني شفاف ميزانية خاصة تبلغ أحيانا من ١ الى ٢ ٪ من الميزانية العامة ، وتتابع مؤسسات الدولة ، بمافيها الرئاسات ، والوزارات الحكومية…