حسين جلبي
على عكس ما جرى في كوباني قبل سنوات، عندما سلط العالم؛ فجأةً ودون مقدمات أضواء عدساته على المدينة فور تعرضها لهجوم من قبل تنظيم داعش؛ لدرجة أن الإهتمام المبالغ به بتفاصيل ما يجري؛ كاد ينسي الجميع بأن كوباني مدينة سورية، وجزء من معاناة أكبر تجري في طول البلاد وعرضها، خلافاً لكل ذلك، تغيب اليوم أخبار مدينة عفرين، شقيقة كوباني عن الإعلام العالمي رغم تعرضها لهجوم غير مسبوق، لدرجة يصعب معها العثور على أخبار عما تتعرض له المدينة، حتى يظن المرء بأن العالم لا يرى أو يسمع ما يجري لها، لا بل لا يعلم ـ ربما ـ بوجودها.
العالم هو ذاته، والكُرد هم أنفسهم في المدينيتن، كما أن حزب العمال الكُردستاني في كوباني هو ذاته في عفرين، الزمان لم يتبدل كثيراً وموقع المدينتين هو في الإقليم ذاته.
إذاً لماذا دعم العالم كوباني، وحزب العمال الكُردستاني في المدينة الأولى رغم موقفه منه؛ لكنه يساهم ـ بضوئه الأخضر على الأقل ـ في الهجوم على عفرين، وبالتالي على حليفه داخلها؟ حتى أن تركيا نفسها؛ التي سمحت بضرب داعش، ووافقت على دخول بيشمركة كُردستان إلى أراضيها، للتوجه عبرها إلى كوباني والدفاع عنها، بالإضافة إلى فصائل من الجيش الحر؛ التي دخلت إلى المدينة لمواجهة داعش، هي من تقوم اليوم بالهجوم على عفرين، حيث تقود تركيا العملية وتنفذها من الجو بشكل أساسي، وتستخدم فصائل من “الجيش السوري الحر” كرأس حربة في تقدمها البري.
مما لا شك فيه، أن السر في السلوك الذي يبدو متناقضاً في الحالتين هو المصالح، فالعالم يتكلم بلغة المصالح ولا يعرف غيرها، أما الكُرد فلا يعرفون سوى لغة العاطفة والحماسة؛ حيث تسخنهم كلمة واحدة حتى درجة التبخر، وتبردهم بعد لحظة كلمة أُخرى لدرجة التجمد. لقد سلطت الدول الكُبرى الأضواء على كوباني؛ بعد أن قدم المدينة لقمةً سهلة لتنظيم داعش، وجعل خلال ذلك من حزب العمال الكُردستاني طعماً للتنظيم المتطرف، فدخل التنظيم المدينة بعد أن أغراه الانسحاب السريع لمسلحي الحزب أمامه، لتبلغ دولته في لحظة ما أقصى مداها، وعندما بدأت دول العالم تدخلها “الإنساني” لمواجهة التنظيم، كان دافعها الأول لذلك هو مصالحها، ولم يكن لأهل كوباني وجود على خارطة مصالحها إلا على سبيل الحجة، ثم أكملت تلك الدول لعبة المصالح؛ فاستخدمت حزب العمال الكُردستاني في المرحلة التالية وسيلةً لمزيد من المكاسب، وأدخلته مع داعش في حروب كر و فر متنقلة عبثية، أنهكت الطرفين وأضرت بحاضنتيهما قبل أي أحد، وعندما ثبتت تلك الدول أقدامها في سوريا أنهت التنظيم؛ وهاهي تتخلص من حزب العمال الكُردستاني بعد أن انتهت مهمته هو الآخر، وقد بلغ بدوره أقصى مداه، إذ أصبح بإمكان نظام الأسد أن يوفر مصالح أحد الجهتين المتصارعتين على سوريا على الأقل، في حين ستتكفل تركيا بحفظ مصالح الطرف الآخر؛ إن لم يكن مصالح الجميع.
إن ما فعله نظام الأسد بالكُرد السوريين ـ أو لهم ـ منذ سبع سنوات؛ هو أنه أجّل دفعهم لفاتورة الدم على خلاف باقي السوريين، وذلك بأن ألهاهم بإدارة وهمية، خدرهم بها حتى أصابت حياتهم بالشلل واستهلكتها، وعندما إستيقظوا أخيراً، وجدوا بأن الجميع قد إنفض من حولهم، في حين أصبحت الساحة مهيأة للمذبحة. كان من الذين تخلوا عن الكُرد في سوريا “حاخامات بني قنديل”، هؤلاء الذين كانوا عرابي الإدارة الذاتية الأسدية، والذين وجهوا كل أسلحتهم الصوتية الخلبية في المنطقة بإتجاه تركيا، على حساب تغييب نظام الأسد من أجندتهم، وعندما بدأت ملامح الخطر التركي على عفرين، هددوا في البداية بتحويل المدينة إلى مقبرة للجيش التركي. وهاهي المدينة، وجميع الكُرد يدفعون فاتورة باهظة ثمن لمغامرات هؤلاء، بعد أن ورطوا كُرد سوريا وألقوهم في قلب المحرقة، وجعلوهم فريسةً سهلة لدولة أقليمية كُبرى عضو في حلف الناتو؛ من المستحيل مقارنة إمكاناتهم المتواضعة بها، بحيث أصبحت عفرين وقوداً في مواجهة غير متكافئة مع أقوى جيوش الحلف، في الوقت الذي لم نعد نسمع فيه أصواتهم ومزاوداتهم وعنترياتهم.